ضوء على رقاد صلاح عبد الصبور

نصر جميل شعث

 

الشعراء يجرحون الصحراء بحثاً عن نهر
احتارت أجيال الحداثة كيف تكتب القصيدة ؟، في ظل ما بعثته التغيّرات الشكلية . أقصد ما قام به السياب ورفقاؤه منذ أواسط القرن العشربن ، والسجالات العويصة التي صاحبت الخروج على الشكل العمودي ، وبالتزامن مع مجمل المتغيرات الأفقية التي حدثت في الحياة السياسية والاجتماعية العربية .
الدخول إلى أفق ” كيف ” بدا ، في البدايات ، فتحًا لمسارات لم يطأها أحد . تقدّم الشعراء ” الفاتحين ” ، حفظ لهم جهدهم ، التاريخي ، في جرح الصحراء بحثًا عن النهر . على افتراض أنه كانت صحراء . بنية هذا الافتراض الجائر اقتضت القفز – فرحة ًبالحداثة – عن دَور “مدرسة الإحياء والبعث” ، لكي لا يصبح القفز منها اعترافًا بدورها في اثبات الحياة – ليس في القمر العربي – ولكن في فرضية الصحراء . القفز الفرح أو الجَرح الجديد ، سرعان ما أخَبر عن انشغال الأوائل بحمل وحدات الشكل ، وإخضاعها لهندسة شكلية جديدة ملأى بدلالات وجماليات التغيرات الثقافية والاجتماعية والمثاقفات الاليوتية ومَعْلَمات الأساطير ، وفارغة طورًا من المحتوى الجمالي ، أقصد معتازة للكرامة الشعرية وسماحة القمر العربي الحرّ من دلالته السنتمنتالية ، ولكن المحيل على الطبيعة والعفوية والمنازل . إذ تخلل العمل الشعري إخفاقات فنية ، تمثلت في انشداه المواهب وإصابتها بوسواس الأشكال القهري ، وعدوى التقليد ، وإعادة إنتاج الدلالة الواحدة بالشكل الذي شكّل عبئـًا على قصائدهم . وبدا البعض أشبه بالعائد أو المتراوح في مرحلة الإرهاص ، نظرًا لاستغراق الشكل الوعيَ . ما أثقل الموهبة بالالتزام الصارم ، وبالنظرة المرهقة والباحثة – دون عفو الخاطر – عن إجابة لـ” كيف تكتب القصيدة ؟ ” وزيادة على ذلك ، التعرض لهبّات المصطلحات والتنظيرات التي غالبها يسدّ الطريق ولا يسدّد الخطى . أو وقوع النقد – منتجًا نفسَه – تحت طائلة إغراء تجريب الأسماء . لكننا وصلنا إلى ” قصيدة التفعيلة ” ، وهي التسمية السائدة ، على الأرجح ، بعد أن صحّح غير نفر من النقاد والمدققين ، اللبس الذي وقعت فيه نازك الملائكة ، حينما أطلقت اسم ” الشعر الحر ” على كل ما صار يكتب خارج القالب الكلاسي . هذا ، فضلا عن دخول تسمية جديدة معترك الأشكال الشعرية العربية ألا وهي ” قصيدة النثر ” . وقد سجّلت المصادر والمراجع احتجاجَ الملائكة على جبرا إبراهيم جبرا بقولها : ” إنه أخذ ، دون مبالاة ، اصطلاحنا : ” الشعر الحر ” الذي هو عنوان حركة عَرُوضية تستند إلى بحور الشعر العربي وتفعيلاتها ، أخذ اصطلاحنا هذا وألصقه بنثر اعتيادي له صفات النثر المتفق عليه .. وتضيف ” ليته على الأقل ترك اصطلاحنا ووضع غيره حرصًا على وضوح الاصطلاحات في أذهان جماهيرنا العربية المتعطشة للمعرفة . وإنما سمينا شعرنا الجديد بـ ” الشعر الحر ” لأننا نقصد كل كلمة في هذا الاصطلاح . فهو ” شعر ” لأنه موزون يخضع لعرض الخليل ويجري على ثمانية من أوزانه، وهو ” حر ” لأنه ينوع عدد تفعيلات الحشو في الشطر، خالصًا من قيود العدد الثابت في شطر الخليل ” .

تحديث و تجديد

لكن ، اسمحوا لي أن أتحدّث حول قضية الفرق بين كلمتي : ” تحديث ” و ” تجديد ” ، مستمدًّا دعامات حديثي من الواقع الافتراضي . مثلا إذا أتينا على الصحف والمواقع الالكترونية التي تعنى بالأدب ؛ فإننا نلاحظ دأبها على تحديث موضوعاتها بشكل يومي ، دون أن يعني ذلك أنها تقدم ، بالضرورة ، الجديد . موضوعات اليوم تكون حديثة ، لأن الموقع جرى عليه التحديث الإجرائي . عندما نقرأ الموضوعات المحدّثة ، ونصل إلى نتيجة أن الموقع لم يقدم الجديد ، وأن موضوعات الأمس أضافت أكثر مما أضافته موضوعات اليوم ؛ فإن ذلك القول قادر على فهم أن الحداثة لا تعني الشيءَ الأحدثَ من الأمس ، مثلما أن الأمس ليس بأحدث من اليوم أو الغد . وقد وجدتني اقترب من حديث أدونيس عن ” أوهام الحداثة ” في بيانه الشهير الموثّق . حيث أشبع أدونيس المسألة تحليلا مع حفاظه على البنية التجريدية . وذكره للغائبين : ” فليس أبو نواس أو أبو تمام أو المتنبي أو المعري أو النفري أكثر حداثة من كلكامش أو امرئ القيس ، إلا بالمعنى الزمني . وليس السياب أو حاوي أو الخال أو عبد الصبور ( لكي لا يسمي إلا من فقدناهم ) أكثر حداثة مما أشرنا إليهم ، إلا بالمعنى الزمني ” . وباعتقادي ، إنّ ثمة معادلا ، عمليا ، لا تنظيريا ، هنا بين ” أوهام الحداثة ” وبين ” الواقع الافتراضي ” . وسيجري هذا القول على الشعر والشعراء لظنهم أنهم جددوا بتنقلاتهم ، بين الأشكال ، مواقعَهم . بينما هم أعادوا إنتاج التقليد خلوا من العمود الشعري . وهي دعوة خاصة للشعر والنقد الآن ، لأجل تجديد المواقع . لقد جرى التحديث على الموقع ، ولم يجر النهر طوال المراحل ، بعَرضه ، غاسلا الصحراء ، تلك الموقع الافتراضي !

إذن ، في مقالتي هذه أسعى إلى جعل النقد تجسيدًا ، أي تطبيقًا ، وسأحصر مقالتي في نقطة ، أرغب في وصفها ضوءً قليلا على الشاعر صلاح عبد الصبور ، بوصفه واحدًا من رواد حداثة الشكل . ضوءً على بداياته لكي لا يفلت المقال من الزمام إلى الإطلاقية كحكم جائر على مجمل تجربة الشاعر ؛ ملزمًا نفسي بتناول الجانب الفني وحسب . إن رغبتي هذه لا تمثّل جرأة طائشة أو إصدارا لأحكام مسبقة ، أو هجومًا على مؤسسي و فاتحي طريق الشكل .. حاشا وكلا . فعبد الصبور ، لديه وقع أثير في النفس ، وأحببت العلاقة الحميمة مع الأصدقاء الذين بدوا أحد مصادر الإلهام الإنساني و الاجتماعي لديه .. وعند إلقاء عين واسعة على أعماله ، يقينًا ، سنرى بصمات فنية ، وأرقاها في مسرحه الشعري الذي سيميّزه ويبرزه . إن الشيء البارز كموضوع في قصائد عبد الصبور هو الحزن بعمق الكلمة ؛ الحزن الشعبي ، حزن الفاقة والموت الشعبيين . وثمة الحزن الصوفي و الحزن الميتافيزيقي الناجم عن الإحساس أو التنبؤ بالموت الشخصي : ” ينبئوني شتاء هذه العام أني أموت وحدي .. ” هكذا تبدأ قصيدته “أغنية الشتاء ” ، في ديوانه ” أحلام الفارس القديم ” . أما في ديوانه ” الناس في بلادي ” ، فكان للموت بعده الاجتماعي ، فجاءت قصائد في نعي عمه مصطفى وأبيه ، وما إلى هنالك . وبعبارة وجيزة يمكنك التعقيب على ما تركته المواضيع ، منذ بدايات الشاعر ، في نفوسنا بالقول : كم هو محزن ومؤثر هذا الكلام القريب المباشر ؛ حد انتمائه أو انزلاقه ( فيما نحن نرصد المصائر الفنية لبعض القصائد في الأعمال الكاملة ) للخواطر المكتوبة بتعبير جياش ، وبعاطفة حميمة إنسانية واجتماعية صادقة ، ترينا عبد الصبور ، بوصفه علامةً داخل السياق الإنساني والاجتماعي . ولكن عند القول بمقتضى الدقة الفنية ، نجد أن أقرب الأحكام النقدية النسبية على الكلام المحزن والمؤثر هو القول كم هنالك من ميوعة وركاكة وإسراف وإعادة إنتاج لنفس الدلالة ، بشكل لا ينضاف معه جديد فني . وهو ما سيجعلنا نتفق مع العقاد ، بداية ، الذي أحال عمل ” الناس في بلادي ” للجنة النثر . الأسباب كثيرة ، ولكني أنطق بسبب واحد ، الآن ، وهو الصورة الشعرية التي تكاد تكون غائبة من العمل المحال . وقد بنيت المقالات الكثيرة التي تدافع عن عبد الصبور وتستنهض الجماليات – ولو بالقوة – ( الاعتراض يحيل على الفيتو ) متحدثة عن الطابع اليومي والشعبي لقصيدة عبد الصبور . أنا معهم ، جزئيًّا ، في هذا القول الذي يرى إلى تعمّد عبد الصبور في نقل المجتمع بلغة ركيكة ، وما قد يحمله النقل من أبعاد فنية وجمالية تغلب الصورة المعاشة على الصورة المجازية . ولكن لن أظنّ ، دائمًا ، أنّ الوضعَ سليم ، تمامًا ، لأني أقرأ في مستوى الموهبة خللا ما ، ولا يمكنني أن أعزوه إلى مقاصد جمالية بقدر ما أعزوه لتفاوت المواهب بين الرواد . وسوف أوضح بالنقد التطبيقي ، تاليًا ، الأسباب . إذًا ، هناك في أفق المنظور الفني ما يبرر رأي العقاد ، ولكن قد يكون رفض تَقبَل العقاد لهذا الشكل ، في الأفق المصاحب لعوامل التغيرات الثقافية والاجتماعية ؛ بمثابة قمع ينضاف لأنواع القمع الأخرى . لقد كان الرواد قليلي الحذف والشطب وإعادة النظر في نصوصهم . وربما لم يستطع أحد في مرحلة متقدمة ( كما يفعل بعض الشعراء الآن ) أن يحذف بعض نصوص البدايات ؛ لكونها غدت ضرورة وصيرورة تأريخية . لذا ، فلا عجب أن ينصرف النقاد والدارسون مولين اهتمامهم بالبنيات الثقافية والخطابات الاجتماعية والسياسية أثناء قراءاتهم البحثية ؛ التي لا تعطي صبر ساعة للتنقيب وإظهار المآخذ الجمالية في هذه التجربة أو تلك .

صراع الأجيال

ما صار دارجًا هو الكتابة عن الشعراء ، بانصياع مسبق للألقاب من قبيل : ” شاعر كبير ” ، أو ” رائد من رواد الحداثة الشعرية ..” . زد على ذلك ، كانت الكتابات النقدية تأخذ شكل ومعنى حماية الشعراء النقاد لبعضهم البعض في اللحظات العصيبة من ” صراع الأجيال ” . مثل هذه الحماية ، بحد ذاتها ، ينطوي على ضلال كبير ؛ إذ تغطّى العيوب بدعوى الدفاع عن النفس أو الجيل الذي يرفع مقولات التطور والتجاوز وكسر السائد في لغة الشعر وثقافته ، فالوقت ، في لسانهم ، ليس مناسبًا لأن يكشف النقاد عن الخسارات الفنية في القصيدة . إذن ، المسألة برمتها مسألة اجتماعية وحزبية وليست شعرية بشكل فني صرف . لو كان النقد صارمًا في دفاعه عن المواقف الجمالية والفنية في الشعر الحديث ، لكان ذلك كافيًا لأن يكون درسًا للشعراء الشباب – الآن – “المتهمين ” بالاعتداء على القصيدة ! إذًا ، هذه المقالة كسر للعادة بالجرأة الحقة المندفعة من ملاحظات نقدية في صميم الفن الشعري . قد لا تجد قبولا من لدن الجمهور المحب للقب “الشاعر الكبير ” . ولكن هناك من سيقبل استلام ما أعنيه ، لأنّي أسعى لتركيز الضوء على بعض النقاط والملاحظات الفنية في قصائد عبد الصبور . كما أن القول إن صلاح عبد الصبور ليس موفقـًا في بعض النصوص ، لن يسلبه حقيقة كونه شاعرًا بصفة كلية . ولكن ، كما أشرت سابقًـا ، فالتطبيق في هذه المقالة ينطوي على التجسيد والقراءة في الأجزاء دون التجريد والقراءة في فضاء التجربة ككل .
إذن ، أقفز إلى افتتاحية قصيدة ” الشيء الحزين ” من ديوان ” أقول لكم ” ، على أنني سأعود إلى عمل عبد الصبور الأول . والافتتاحية ما هي إلا تمهيد لموضوع تعبير عاطفي أو خاطرة .. هكذا :

” هناك شيء في نفوسنا حزينْ
قد يختفي ولا يبينْ
لكنه مكنون
شيء غريب … غامض … حنونْ “.

قد يعتبر البعض هذه الكلمات ذات غرض أو نزوع ميتافيزيقي . ولكن ماذا عن انتفاضة الشعر في نفوسنا ، أي في الذائقة التي تُكْبر فنية الأثر . هنا سيطرح التساؤل ذاته الباحثة عن إجابة شعرية ، إجابة جوهرية ، و ليست شكلية . لعلّ العذر الكافي لغياب الإجابة الشعرية ، ما تمثل في انشغال عبد الصبور مع غيره ، بعرس الشكل الجديد . ولكنه عذر ليس بشافٍ ، على أية حال ، ولا يمكن أن يفهم كمبرّر يقتضى منا مسامحة من جنوا على القصيدة وعمدوا إلى تزوجها التفعيلة بقانون الطوارئ الذي جاءت به الملائكة أو غيرها . إذ غفلوا أو تغافلوا عن الأعراف أو الشروط الفنية المتعلقة بجوهر الشعر ولغته . فأعطي التركيز لاستيعاب الشروط الشكلية للقصيدة . وشتان بين أن تجد الجوهر في القصيدة ، وبين أن يُلْصقَ الشكل ، لصقا ، للقصيدة . وهنا أدعو عنايتكم لتأمل الفرق اللغوي و الفلسفي بين ( في ) القصيدة و (لـ) القصيدة . أي : الشيء في ذاته ، وليس الشيء لذاته . هناك قصيدة بعنوان ” الألفاظ ” ضمن ديوان ” أقول لكم ” ، يمكن اعتبارها كانتباهه من انتباهات الشاعر لما يجب أن تكون عليه القصيدة ، بمعزل عن الألفاظ الجوفاء ، وبمناداة حثيثة لـ “بنت الصحراء الجرداء ” ، لأجل إبراء الكتابة من حشو الألفاظ وسراب الشعر :

” يا سيدتي ، يا بنت الصحراء الجرداء
فلتقتصدي ، فلتقتصدي في الألفاظ الجوفاء
الألفاظ الجوفاء ” .

ولكن من دون أن يتمّ إبراؤها من تكلف القافية والحشو . أما قصيدة ” العائد ” في : ” أقول لكم ” ، فتحمل سمات جماعة ” أبوللو ” ، وأقربهم من الذكر إبراهيم ناجي ، والذي يخيّل إلي أنه العائد في القصيدة ، وبصوت عبد الصبور الذي يقول :

” نحن لم ننس ، ولكن طول الجرح يغري بالتناسي
عندما يخلع صيف ثوبه من شتاء مكفهر قاس
وعلى عقبيهما يأتي خريفٌ مجدبٌ دونَ نداوة
وتعرّي كفّه العالم من كل بهاء وحلاوة
عندما ينقلب التذكارَ عبئا وعذابًا وقصورًا
وبكاء أخرس النبرة وحشيّا ضريرا “

عوضًا عن ذلك ، كان عبد الصبور بحاجة لشطب ” دون نداوة ” ، لأنّ ما يسبقها ” خريف مجدب ” . ذلك أن الدلالة لم تعد بحاجة إلى زيادة ، فزيادة كهذه هي من باب حشو فم القافية بالأخضر واليابس . دون مراعاة أن كلمة ً ممتلئة بالمعنى المقتصد مثل : ” خريف ” أو ” مجدب ” ؛ تحقق الإشباع للدلالة . وحذو هذه الزوائد نجده بكثرة عند عبد الصبور و الشعراء . مثلا ، لنرى إلى بيت نزار قباني : ” وأنا محتاج … لامرأة تجمع أجزائي كشظايا البلور المكسور ” . إن شظايا البلور تغني عن المكسور . لأن كل شظايا في حادثة ، بالطبع ، ناتجة عن إنكسار شيء مادي . أو عن انكسار روحي ، كما هي روح العاشق المكسور ؛ الذي يحتاج امرأة تجمعه وتلمّه . فضلا عن تبلور الفافية ، أي تجسّدها المطلق ، في كلمة ” البلـّـور ” .

دائرة المعني

ولم تكن حاجة إلى تأكيد المعنى بالصفة : ” المكسور” ، هاهنا . إن غياب الصفة لن يكسر الوزن ، قد ينقصه وحدة ونصف وحدة من خبب المتدارك ، ولكنه غيابٌ يملأ دائرة المعنى ! وبالتالي ، أنا واثق من أنه ما كان ليُعاقب قباني الحداثي بالمعنى الزمني ، من المعرّي الحداثي بالمعنى الفني ، القائل : ” وناظم لعروض الشعر عن عرض .. وما يحسّ بأن البيت مكسور ” . وبالنسبة لعبد الصبور ، كان يحتاج كثيرًا لتلخيص بمعنى تخليص القصائد من الزوائد والحشو والميوعة ، والاستطالة والشروح التي جعلت اللغة المستخدمة مليئة بوهم الشعر أكثر من أي وقت مضى . فيما كان الحرص مضاعفًا من الرواد ؛ لأجل نصرة الشكل أو تعليق المنظر الجديد ، وتسميته بـ” قصيدة التفعيلة ” . حين نعود مثلا إلى ديوان ” الناس في بلادي ” ، سنلاحظ هذا الحشد من الواوات والفاءات الزائدة عن الحاجة ؛ والتي تتكرر ، كمتاريس في وجه الذائقة ، في بدايات السطور . لنأخذ ، مثلا ، المقطع الأول من قصيدة ” رحلة في الليل ” ، وهو معنون بـ ” 1- بحر الحداد ” :

” الليل يا صديقي ينقضي بلا ضمير
ويطلق الظنون في فراشِي الصغير
ويثقل الفؤاد بالسواد
ورحلة الضياع في بحر الحداد
فحين يقبل المساء ، يقفر الطريق ، والظلام محنة الغريب .. “

كان هذا المقطع يحتاج لا إلى التخلص من الواوات وحسب . ولكن ، بعد استبدال – ” الصغير ” بـ “القصير” – إلى التخلص من السطر الرابع نهائيا ؛ لأن السطر الذي يعلاه عبّر عن بحر الحداد بسواد الفؤاد . وباعتقادي كل حداد ينادي السواد ليعمّ ويشمل ؛ فإذا حضر المنادَى ، سكت المنادِي عن التلفظ . ووفّى وكفّى السواد وأعطى وعكس الرسالة في عمق العباد والبلاد . لذا لم يكن ثمة داع إلى : ” ورحلة الضياع في بحر الحداد ” . ففي ذلك طفرة غير مقبولة . أللهم إذا قرئ ” بحر الحداد ” بمنظور جماليات المكان أو الليل والحداد ! وهذا أغرب ما يجوز في حالة البناء الركيكة . وثمة الكثير من الشواهد التي تنطبق عليها هذه المعالجات النقدية ، لدى السياب ، والبياتي وغيرهم كثير . في قصيدة ” هجم التتار” استطاع عبد الصبور أن ينجو من هجوم ولعنة الواو . وجه المنجاة كان في استخدامه لـ ( أو ) التي جلبت بإيقاعها المتكرّر جمالياتٍ حلّت بدلا من رتابة واو الضرورة والضرر ، مثلما نرى في هذا الشاهد :

” والأمهات هربن خلف الربوة الدكناء من هول الحريق
أو هول أنقاض الشقوق
أو نظرة التتر المحملقة الكريهة في الوجوه
أو كفهم تمتد نحو اللحم في نهم كريه “

وإذا ما أمعنا في ديوان ” الناس في بلادي ” ، أول ما سيهدد أمن الذائقة ، هناك ، ليس التفعيلة وحسب ، ولكن الدأب على أسر الصور الشعرية بكاف التشبيه ، دون وضع اللغة في عالم المجاز والاستعارة الحرّة والتشبيه الملتبس :

” الناس في بلادي جارحون كالصقور
غناؤهم كرجفة الشتاء في ذؤابة المطر
وضحكهم نيّر كاللهب في الحطب “

على أن أضعف التشبيه ما جاء في السطر الأول ، وأقواه ما جاء في الثاني ؛ لكونه استدعى الخلق الرائع لصورة حسية مركبة تأخذ مكانها بدل بساطة المشبه به ، والذي سيبدو قديما ورتيبا واجتراريا في السطر الثالث . وعلى أية حال ، سواء أكانت العودة بمفردنا أو مع جماعة ، إلى بدايات مشروع قصيدة التفعلية ؛ فإننا سنتكلم ، من باب الواجب وبمقتضى الحق ، عن صلاح عبد الصبور ، بوصفه مشاركًا في تأسيس و شق الطريق . مشاركًا انشغلت يداه اللتان لم تفرغا ، تماما ، من مهمة تثبيت الشكل . ولم يستثمرهما ، بتفوق كالسياب الذي استطاع أن يكون شاعرًا مخضرمًا (برغم موته المبكر) عبر نقلات نوعية في قصائده . على أن المسألة برمتها احتاجت إلى مرحلة قادمة أو مرحلتين ، خلال ذلك تظهر القصيدة المدوّرة .

وبالعموم ، هناك في جوانب مؤسفة وثقيلة علينا في آثار الرواد ، نرى أنه : لم تكن حاجتهم إلى وعي حداثة الشعر أعلى من الإصرار على تلقف الشكل ، والتورط في استعماله كقالب لكلماتهم المعبّرة عنهم والزائدة والعاطلة . أؤلئك الذين قولا راحوا يناهضون تعريف الشعر بأنه كلام موزون مقفى . ولكنهم ، فعلا بدوا متواطئين مع التفعيلة بوصفها تحديث على الشكل ، لا بوصفها جوهر الحداثة الشعرية.

2007

اترك رد

%d