إحماء

محمد العباس*

الحداثة إغواء. فتنة قيل أن الشعر قاطرتها عربياً، ولكن نظرة فاحصة لما آل إليه النثر كحدث شعري، وفي تماسه بمستوجبات الحداثة بالتحديد، يشي بتوبات واستتابات متلاحقة، تتبدى في لبوسات مراوغة، أي كمراجعات وانتباهات تبدي غيرتها على القيمة الشعرية، ولكنها في واقع الأمر ليست سوى تراجعات محسوبة خارج الهاجس الشعري، مقابل انفلاتات نصية، وتطرف جماهيري واسع، مفتون بنثرية الحياة، والرغبة في شعرنة هذا الحدث النثري، دون قدرة غالباً على إعادة تأوينه في المدار الشعري، أو ترميم خطايا الآباء، فيما يبدو إنفصالاً جيلياً باتراً، ليس بين وعيين وحسب، بل بين انفعالين، وعليه صارت القيمة الشعرية موضع تناهب، فيما أصبح التكاذب الحداثي هو لغة التواصل، فلا ملاعين قصيدة النثر الذين بشروا بها كخيار انقلابي تخلوا عن ياقاتهم، ولا مجانينها الذين صدقوا شعارات أولئك لبسوا قمصانهم بالمقلوب.

هكذا تعيش الحداثة الشعرية العربية ارتباكاً معرفياً وجمالياً أشبه بالعطالة، قبالة ما يمكن تسميته بالحدث النثري، لدرجة تبدو كأنها مجموعة من الأبّوات المدّعية التي تحاول الانتباه من غفلة اعتقاداتها المتطرفة، والارتداد إلى وراء تقليدي للنيل من أبنائها، أو هذا ما يفصح عنه جدل النص الشعري في تجلياته الحداثية، حيث التجريب والنكوص والإستتابة واللامبالاة أحيانا. وهو أمر يمكن تفهم مبرراته بعد انكشاف جانب عريض من الأسماء المصعّدة إعلامياً وأيدلوجياً، إزاء صراحة الحكم القيمي للزمن، بما هو الناقد الأكبر، واعادة إختبار كل تلك الظواهر الملتبسة بالثقافي والأدبي، على حافة وعي لا يستبقي في الذاكرة الإنسانية إلا الأصيل من الحضورات الإنسانية.

وفرة نصوصية مربكة، مقابل جفاء نقدي. هذا هو العنوان الأبرز للحدث الشعري العربي. وعلى موجة التمادي النثري يتبارى الجميع بتجريب آخر نوبات الحداثة شعراً ونقداً، إذ يزعم كل طرف استنسابه لجوهر الشعر، والتبرؤ من مشتبهاته، والدليل تلك الإنهمارات النصية والقراءات التنظيرية، التي تحوم حول الشعر، وتنزلق على سفوحه، لكنها لا تجرؤ على التماس به كميدان لاختبار منسوب الوعي والحصافة التعبيرية والنقدية على حد سواء، وهو ما يعمّق حالة الرهاب إزاء هذا الحدث النثري، الذي تعاد أسئلته الأفقية بشكل دوراني مكثف منذ أكثر من خمسين عاما، حيث يبدأ الاستفهام الجمالي والموضوعي من ذات النقطة ليعود إليها بحلقوية، دون قدرة على التعايش مع اشتراطاته كحقل تطبيقي شعراً ونقداً، وإن كان لا وعي الشاعر العربي يقترب أحيانا من الحداثة الشعرية بفطريته، وبعيدا عن لافتات رسل الحداثة.

بمقدور قصيدة النثر، التخفيف من حدة التضاد بين الشعر والنثر. هذه حقيقة فنية تؤكدها الثقافات الحية، وهو الأمر الذي تحاوله النصوص الشعرية والنقدية العربية لإخصاب الأرضية المعرفية والجمالية لهذا الحدث النثري. ولكن تلك المتوالية من الإنفجارات النصية، ليست أصيلة تماما، بل مستعارة من ضفة أخرى، فهي محتمة في الغالب بمهبات العولمة، ولا تصدر من إحساس ووعي بحداثة الإنوجاد على خط الزمن، الأمر الذي يفسر حالات الرهاب والنكوص المتكررة، ويشي بذات مسكونة بالحداثة الشعرية كأيدلوجيا، وليس كمكون بنائي يتصل ببقية مركبات الحداثة، بما هي نسق عابر للثقافات، وهو ما يعني أن الذات الشعرية العربية مأخوذة بالشعر كلسان للتعبير عن هذا الحضور، وكأنها لم تعد تمتلك سوى الكلام والكلام المضاد، أو العيش خارج المشروع الشعري، وتوهم رفاهية الإقامة فيه، على اعتبار أن الشعر، حسب التصور الرأسمالي المتعسف، لا ينتعش إلا في المجتمعات المتخلفة تكنولوجيا.

هكذا يبدو صادماً ومحيراً، ذلك الإقرار الواعي واللاواعي بالجهل – المعرفي – لقصيدة النثر، وعدم القدرة – فنيا – على إتيانها،كما تشير أغلب شهادات البراءة المتكررة على لسان الرواد، فهذه الاعترافات الإلتفافية ليست سوى انتباهة متأخرة لذوات وجدت نفسها موروطة في حدث نثري معادل لفعل حداثة على درجة من التعقيد والتمادي، ولم تستوعب بعد تبعاته ومتطلباته، لأنه منتج ” الآخر ” الذي أسهم من قبل في الانعطافة التفعيلية، بكل ما تعنيه الكلمة من اغتراب، إذ تدخل استراتيجية هذا الحدث في فوضى مضامينية وشكلية، وعليه يتم ستر عوراتها باستدعاء طاقة تجريبية هائلة للتخفيف من لهجة التبرم حول شعرية ولا شعرية كل تلك المنتجات، وكأن الحدث النثري عصي على التأوين في المدار الشعري.

* من مقدمة كتاب بعنوان ” شعرية الحدث النثري ” صادر عن مؤسسة الانتشار العربي

اترك رد

اكتشاف المزيد من عناوين ثقافية

اشترك الآن للاستمرار في القراءة والحصول على حق الوصول إلى الأرشيف الكامل.

Continue reading