أحمد زين: أبطالي صحافيون يكشفون ما يعتري حرية التعبير
عناية جابر
«حرب تحت الجلد» للروائي اليمني أحمد زين صدرت أخيراً عن «دار الآداب» في بيروت، تنفتح الرواية على رحلة مضنية ومشوشّة، من إيمان بالوحدة اليمنية وتصديق الكاتب للوعود التي بشّرت بها، الى اختلال يُصيب ذلك الإيمان، وشكّ عنيف ومدمر يطال كل المسلمات ويعصف بكل شيء.
«حرب تحت الجلد» رحلة تبدأ على شكل تحقيق صحافي حول المهمشين، يقوم به الكاتب لمصلحة مجلة أجنبية، ثم تتوسع دائرته ليقع الكاتب في هاوية الحقيقة المتلطية خلف الشعارات الجوفاء. احمد زين روائي وصحافي يمني يقيم في السعودية، ويعمل في جريدة «الحياة» له «أسلاك تصطخب»، «كمن يهش ظلاً»، «تصحيح وضع» و«قهوة أميركية». بمناسبة إصداره الروائي الجديد، كان هذا الحوار:
في روايتك الصادرة حديثاً «حرب تحت الجلد» عن «دار الآداب» ثمة هّم عام يطغى على الخاص (كما في «قهوة أميركية» و« تصحيح وضع»)، لماذا؟
^ ليس طغياناً، بقدر ما هو خيار، هل هو خيار فعلاً؟ خيار، تمليه اعتبارات عدة، يدفعني إلى التأكيد على مواضيع بعينها. في اليمن يتقدم العام دوماً، يسحق كل ما هو خاص أو في هيئته، فلا مجال لمقاربة أحوال الفرد، والتفتيش عن فردية ما، لأن عوامل كثيرة تغيّبها.
من جهة أخرى، لا تزال الرواية اليمنية في بداياتها الفعلية، على رغم أن أول رواية يؤرخ لها بعام 1939. فالروائيون الذين أصدروا روايات في الستينيات والسبعينيات وربما الثمانينيات كفوا عن الكتابة، لم يعد أحد من أولئك، أقصد الأحياء منهم، يكتب الرواية. فقط مجموعة قليلة من الأسماء تنتمي إلى جيلي الثمانينيات والتسعينيات، هي من تحاول الكتابة اليوم. هذا يعني أن هناك تحولات حدثت، وهناك أيضا كثيراً من المواضيع المهمة والحساسة، تفرض نفسها أكثر من سواها، وفي حاجة إلى تناولها روائياً.
أرى أن الذهاب إلى هموم خاصة جداً أو ذاتية، في المعنى الضيق للذاتية، بعيداً من القضايا المفصلية التي يعانيها المجتمع في لحظته الراهنة، وتمس عصب الحياة وتربك أحوال الناس سيبدو، ليس صعباً فحسب، إنما أيضاً نوعاً من الترف، في حال حصل.
لكن من جانب آخر، لعل في مقاربة «العام» فرصة لكشف ما تعيشه الذات من هواجس داخلية وشكوك ومخاوف في مقابل هيمنة رجال القبيلة والمؤسسة الرسمية في كل ما تعنيه من سلطة ونمطية في التفكير، تدفعها إلى ابتكار واقع مزيّف وإحلاله بديلاً من الواقع الحقيقي. الأمر الذي في غاية الأهمية بالنسبة إليّ كيف تجري مقاربة هذه الهموم؟ أي انطلاقاً من رؤية روائية تحتكم إلى شروط جمالية واستراتيجية فنية. أي لئن هيمن العام على كل شيء، فإنه في مقدور الروائي أن يقترح «خاصه»، عبر رؤية جديدة، تعبّر عن نفسها من خلال التقنيات وزاوية النظر إلى الأحداث وتشابكاتها.
نبرتك تراجيدية ملحمية، حيث شخصيات رواياتك بلا حياة إلا في جانبها الأسود. ألا يُشكل هذا الطرح اليائس إلى حدّ، خطراً على سردك؟
^ لعل ذلك تأتى من شعورهم بالغربة إزاء ما يجري، والصعوبة في فهم الواقع، وإلا لماذا لجأ قيس إلى الباحثة الأجنبية ليعرف منها ما الذي يحصل على وجه الدقة في بلده، باعتبار أنها محايدة لا مع ولا ضد. لعلها أيضاً طبيعتهم كأفراد يواجهون طغيان عالم أكبر منهم، يصارعون قوى خارجية غاشمة، ولد هذا الشعور بالتراجيدي والملحمي.
لم أفكر، لحظة الكتابة، أن أضفي على شخوصي مسحة تراجيدية أو ملحمية، ربما هذا ما يخلص إليه القارئ وهو يعاين تطور الشخصية وتعقيد مسارها حتى النهاية. لكني في المقابل، كنت مهموماً باقتحام هذه الشخصيات في لحظة مفصلية من حياتها، أي التخلي عن كل اللحظات التي لا معنى لها في حياة الشخصية، وتجنب ما سيجعل الرواية تقع تحت ثقل التفاصيل الزائدة، وبالتالي تقديم الحكاية في أفقها، في اللحظة التي تبدو عصيبة ومثار أسئلة وبحث عن أجوبة لن تحضر.
استراتيجية نصية
أحببت التركيب الفنيّ بأصواته المتعدّدة في روايتك: صوت الرواية المكتوبة داخل الرواية، بينما صوت الحياة الحقيقية يجري خارجها. كيف توصلت إلى هذا المزيج الفني، ما الذي تريده منه، وإلى أيّ مدى يخدم السرد؟
^ عدم وجود أرضية روائية في اليمن، متنوعة ومتعددة، يمكن الانطلاق منها أمر يضع الروائيين الشباب أمام تحدٍّ، بخاصة أولئك الذين يسعون إلى كتابة روائية متجاوزة، لا تواصل مساراً روائياً فقيراً وشحيحاً لناحية الممكنات السردية، إنما تؤسس لحظة مختلفة تحفل بعناصر تجريبية، تذهب بالنص الروائي في اليمن إلى فضاءات جديدة.
أكثر الروايات اليمنية التي اشتهرت وخرجت إلى ما وراء الحدود، وهي في العموم قليلة جدا لا تتجاوز الروايتين أو الثلاث، توافر لها ذلك بقوة الموضوع وليس لجماليات لافتة تميزت بها. تفتقد الرواية اليمنية في كثير من محاولاتها إلى جماليات الرواية الحديثة، لم تتجاوز بعد البنى التقليدية إلى بنى أخرى حداثية من خلال التجريب الواعي، وأيضاً من خلال الوقوف على التجارب الروائية الناضجة والمتميزة في الأقطار العربية الأخرى.
لذلك تجدينني أتقصد الاشتغال داخل استراتيجية نصّية جديدة، فما ذكرته بخصوص المزيج الفني، أي تقنية الرواية داخل الرواية والسيناريو السينمائي، يصب في هذا المنحى. أريد لكتابتي أن تعكس وعي الروائي، وكيف أرى الرواية، انطلاقاً من قراءة وتأمل واسع في المنجز الروائي العربي والإنساني، أن أستفيد من كل ذلك. المواضيع القوية والغرائبية التي تحفل بها بيئة اليمن، لم تعد كافية وحدها للنهوض بالعبء الروائي. أعتقد أنه من الضروري وجود تصور دقيق، لما ينبغي أن تكون عليه الرواية من نواحٍ جمالية وفنية.
تنطلق في روايتك من عملك كصحافي. هل خدمت هذه الفكرة روايتك؟
^ ليس بالضرورة أن أكون صحافياً، لأقترب من الموضوع الذي طرحته الرواية. لكن كان ينبغي على قيس وشاهر وطلال وعليا أن يكونوا صحافيين. لعلها حيلة، لكشف الخلل والعشوائية التي تعتري حرية التعبير، التي كانت الحدث الأبرز في حقبة ما بعد الوحدة اليمنية، غير أنها شكلت لاحقاً أحد الأسباب الجوهرية التي دفعت بالأوضاع إلى ما آلت إليه من سوء وتردٍ. الحرية التي استثمرها البعض لابتكار صور زائفة عما يحصل، وبدلاً من أن تعين هذه الحرية الفرد لمعرفة أين يسير وما الذي يتهدد أحلامه بالعيش الكريم والأمن، تحولت إلى سبب للتشويش والغموض. لكن هل هناك حرية تعبير فعلاً؟ الاختطافات التي تعرض لها الصحافيون، والتهديدات والمحاكمات التي طاولتهم، تطرح سؤالاً كبيراً على هذه الحرية، وعلى أولئك الذين يستميتون في إيهام الناس بوجودها.
خارج السرب
تكتب خارج السرب اللاهث إلى الجنس والتابوهات كافة بغية تحقيق الانتشار. هل تقف بهذا المعنى عند حدود أن العمل الإبداعي هو رسالة أو ما شابه؟
^ في شكل أو آخر يمكننا التساؤل: ما الكتابة أصلاً من دون الخوض في مثل هذه المواضيع؟ على الأقل في أحد وجوهها. الكل يريد أن يكون جريئاً وشجاعاًً، وذلك من حقه لكن ليس على حساب الرواية. أستغرب أحياناً، لا أدري هل أنا محق أم لا، الحديث عن تابوهات وخرق الكتاب لها. اليوم حتى في أكثر المجتمعات العربية محافظة، ستجدين من يكتب عن الجنس والدين. حتى في أعتى الدول قمعاً سيكون هناك من يتكلم عن السياسة وينتقد رموزها. إذاً لم تعد ميزة مسألة اختراق التابوهات. معظم الكتاب العرب يعتبرون أنفسهم أبطالاً ومناضلين، لمجرد أنهم يخترقون هذا التابو أو ذاك.
بالنسبة لي، ولكثير من الكتاب، أعتقد أن الرهان الحقيقي ينبغي أن يكون على الرواية نفسها، أي الرؤية الروائية فيها، التي تتبلور من خلال فنياتها وطرائق السرد ومستويات اللغة. لذلك أجد أنه من السهل اختراق أي تابو، لكن شريطة ألا يتم ذلك على حساب الفنيات، وألا يكون القصد لفت الانتباه فقط، وصنع بطولة هشة وزائفة.