قصتان

د.زين عبد الهادي

 

الدوائر الخاوية

ظمآن أنت مثل صفر، مثل نجمة بعيدة لاتطول الماء!
هكذا كنت أحدث نفسي، لاأدري إذا كان ذلك احساس بالعطش انتابني وأنا أرى تلك الشجرة الجرداء الساقطة التي لم يتبقى منها سوى لحاء متكئ على ساق جافة في هذا المكان الغريب وسط الميدان، مهما شربت فهو أنت لن تتحرك للأمام، ولن تتحرك كذلك للخلف، ثابت مكانك كالصفر، كصفر ظمآن يقف وحيدا بين أرقام لامعنى لها، وكتلك النجمة البعيدة التي لاتتحرك منذ بداية الزمن، وكتلك الشجرة في قلب الميدان، كنت أنظر من خلف نافذة الباص الصغير الذي انحشرت فيه، وبجانبي تلك الفتاة التي ترتدي الجينز الأزرق، والبلوزة الزرقاء التي حددت ملامح صدرها الضامر الذي كان يشبه صفران قد التصقا ببعضهما فلايثيران انتباه أحد، وكان شريط الشيخ الذي يحاول التفكه باسم الدين يدور في جنبات الباص، فيما يزعق أحد الجالسين بالخلف:
– مين اللي معاه العيلة الصغيرة دي.
لاأحد يجيب، ولم يتطلع حتى أحد ناحيته، كيف صعدت الصغيره وكيف انتبه هو دوننا جميعا، حتى البنت بجانبي لم تتحرك، ولم تتحرك الأصفار المتناثرة في العربة والمكومة هنا وهناك.
لاحظت فجأة أيضا أن كل الجالسين كانوا يرتدون تلك السراويل السوداء الكالحة أحيانا والباهتة أحيانا أخرى، كأنهم خرجوا هذا الصباح متفقين على ماسيرتدونه لمواجهة هذا اليوم العادي للغاية، العالم يتسم بغرابة تماثلية شديدة، قال الشيخ أيضا:
– أوصيك أخي الموظف بالأمانة..
لا ابتسامة واحدة حتى تخفف من جفاف المكان الضامر كصدر الفتاة، وكتلك الكلمات المتحشرجة التي تخرج الآن من شريط الكاسيت، وكانت السيارة الضامرة تتجه بسرعة شديدة فجأة إلى قلب الميدان لتصطدم بلحاء الشجرة الميتة في قلب الميدان، بينما كان الرجل يردد في الخلف:
– العيلة الصغيرة دي بنت مين؟
كنت متأكدا الآن بأنني سأظل عطشانا كتلك الأصفار التي كانت تتراكم جميعها بفعل الصدمة، لتكون صفرا عطشانا كبيرا أيضا.

رقم قومي للاشباح

لا أدري لماذا انتابني هذا الإحساس الغريب بأنني جالس في الأتوبيس إلى شبح، كنت أحاول التدقيق في المقعد بجانبي، لم استطع على الإطلاق تبين ملامح ذلك الكائن الذي يرتدي جلبابا اسود، وملامحه لاتبدو أنها ملامح بشر، وربما ليست ملامح معروفة لي على الإطلاق، لكنني كنت ألاحظ شفاهه الزرقاء بعناية، لم تكن شفتان فقط، كانت عدة شفاه متراصة فوق بعضها البعض، كأن شفاها، شفاها وحيدة قد علقت بداخل تلك الثياب السوداء، التي كانت تشبه ثياب جدتي في تلك القرية البعيدة، لكن لايبدو شيئا آخر ظاهرا، كان كثير التلفت، كثير الكلام مع نفسه.
سأني الشبح:
– لما تيجى محطة الرقم القومي قوللى ياابني؟
لاأدري لماذا بدأت أتشكك في الموقف برمته، كان هناك شئ غير اعتيادي هذا الصباح، وكان الجميع صامتون كالعادة إلا هؤلاء النسوة الجالسات في الخلف بملابسهن الفقيرة، ووجوهن التي امتلأت بتلك البقع البيضاء من أثر الجوع وأنيميا تاريخية لاتفارق أبناء الأهرامات التي كانت تتطلع إلينا في الخلف، أتشكك في نفسي أنا أيضا، كأنني لم أخرج من البيت هذا الصباح ذو الشمس الغائبة والأمطار المتربة، والطرقات التي امتلأت بنقاط ترابية بفعل الأمطار التي امتزجت بالأتربة المعلقة في الهواء، كان منظر الطرقات عجيبا، كجسد عجوز امتلأ ببثور لانهائية، ينتظر لحظة موته التي لاتجيئ.
عدت أتشكك من جديد، لماذا سالني أنا الشبح وحدي دون من في الأتوبيس جميعا، كأنني أحاول أن أجيبه بعبارات تاريخية لامعنى لها، كنت أشعر بأنني ضفدع على وشك الوثوب إلى بركة ماء جافة، أرتعد داخلي، لكنني أحاول الابتسام، خرجت من فمي تلك الكلمات لاأعرف كيف :
– أول ماتيجي المحطة هاأقولك
وعدت لأفكاري التي امتلأت باشواك تخز عقلي، وفكرت أيضا بأن عقلي لم يعد موجودا، وان ماأشاهده لوحة لفنان لاينتمي لحقبة سريالية أو ماتحت السريالية، تطلعت إلى أسفل قليلا كانت الثياب السوداء تفترش المقعد ولاتبدو تحتها أي إشارات لجسد يحشوها، كان فارغا تماما، ظللت أبتسم حتى المحطة، وحين التفت جانبي، لم أجد الشبح، ولم أكن أنا نفسي في داخل العربة، كنا نجلس هناك على الرصيف الممتلئ بالبثور في طابور طويل، طويل للغاية، في انتظار الحصول على بطاقة الرقم القومي للأشباح.

اترك رد

اكتشاف المزيد من عناوين ثقافية

اشترك الآن للاستمرار في القراءة والحصول على حق الوصول إلى الأرشيف الكامل.

Continue reading