قراءة في شعرُ باسم فرات

مارك بيري
ترجمة: د. ماجد الحيدر

أنت لم تقل وداعاً
للذين حوّلوا حياتك
مستنقعاً آهلاً بالألم
باركتهم
ومضيت
دون تلفّتٍ
فتبعوك .
(باسم فرات ، دون تلفّت)

باسم فرات، الشاعر العراقي المقيم في ولنغتن، صوت يثير الانتباه في سماء الشعر النيوزيلندي والعالمي. فبعد أن دخل نيوزلندا لاجئاً قادما من الأردن في عام 1993 برز سريعاً كواحد من أكثر الشعراء موهبة في وطنه بالتبني، فظهرت أعماله مترجمةً في العديد من المجلات والدوريات الأدبية سواء المطبوعة أو المنشورة على صفحات الإنترنت ومنها JAAM, Takahe, Poetry Aotearoa, Black Mail Press, Southern Ocean Review, Poetry NZ , brief وغيرها، كما ظهرت دراسة موسعة مهمة عن أعماله في صحيفة The Dominion Post وألقى قصائده في الكثير من الملتقيات والمناسبات الشعرية في العاصمة ولنغتن وغيرها من مدن نيوزيلندا، وكان واحدا من الشعراء البارزين في “مؤتمر شعراء المنفى” الذي أقيم في أوكلاند في تموز 2003، فضلاً عن مشاركته في مهرجان ولنغتن الأول للشعر العالمي الذي أقيم في أواخر العام نفسه.
تغلب على قصائد فرات (ذات الطابع الرمزي والتجريدي) مسحةٌ من الرومانسية والعاطفية، ويبرز في أعماله الالتزام القوي بوعيه للصراع – ليس من أجل النفس في دوائر المنفى وحسب- بل الصراع الذي يحتدم في وطنه العراق. أصدرت له مؤخرا مؤسسة HeadworX المتخصصة بنشر الشعر في نيوزيلندا أول كتبه المترجمة الى الإنكليزية Here and There فأتاحت لأعماله المزيد من التناول النقدي الذي تستحق. ولقد رأيت –في هذه المقدمة الموجزة لأعماله- أن أفضل طريقة لتناولها تكمن في تصنيفها الى ثلاث ثيمات رئيسية: الحب والفقدان، الشاعر في منفاه، القصيدة كشكل من الاحتجاج.

الحب والفقدان

اصيح بالخليج : ” يا خليج
يا واهب اللؤلؤ و المحار و الردى”
فيرجع الصدى
كأنه النشيج
“يا خليج”
السياب (1926-1964)

يشكل الحب والفقدان –المتمثلان في المقطع المقتبس من الشاعر العراقي العظيم السياب- ثيمة متكررة في شعر فرات، يجري استحضارها عادةً بعدة طرق ومستويات من المعاني. فالشاعر- وبدلا من كتابة قصيدةَ حبٍّ غنائيةٍ بسيطة موجهة الى شخص واحدٍ، كأن تكون الأم أو الأب أو الحبيبة أو حتى الشاعر نفسه أو طفولته- يخاطب في العادة شيئين أو أكثر في الوقت نفسه ، يكون وطنه العراق واحدا منها في الأعم الأغلب.
في العصر الحديث قام عدد من الشعراء العرب المتقدمين أمثال سعدي يوسف وعبد الوهاب البياتي وسركون بولص وأدونيس بتثوير الشعر العربي عن طريق إدخال ما أسماه “ألان غينسبرغ” بثورة الذات. وهو أسلوب يشتمل أيضاً على هجر الأساليب الشعرية التقليدية مثل استخدام القافية. ويبدو أن فرات لم يحد عن هذا المنحى الفكري، وواصل التأكيد على أهمية وطنه في سياق الحديث عن خسارته الشخصية. لذلك فإن قصائده لا يمكن قراءتها كقصائد حبٍ مباشرةٍ وفق مفاهيم الشعر الرومانسي الغربي أو الكلاسيكي العربي، بل كقصائد معقدة متعددة المستويات يفتقر اليها الشعر العربي. وهذا التكنيك يبدو في أكثر حالاته أصالةً وإبهاراً في كتابه الأول “أشدّ الهديل” الصادر في مدريد عام 1999.
يضم هذا الكتاب العديد من القصائد التي أعيد نشرها في ترجمتها الانكليزية في عمله “Here and There” الذي تهيمن عليه قصائد كتبها الشاعر في الظاهر عن حسناء بدوية لكن يمكن قراءتها في الوقت نفسه في مستوىً ثانٍ بوصفها قصائد حبٍ الى وطنه. والصورة الشعرية هنا غنيةٌ ومشبوبة بالحنين الى الحب الذي لم يجازى والتوق الى الإنسان والوطن الذَين يكتب عنهما.

ابتسامتك تلازمني كشهيقي
أشمّ فيها رائحة البحر وشذا البرتقال
أشمّ فيها عطر بلادي الحزينة
بلادي تخفي تحت ابتسامتها حزناً عميقاً
وأنت تخفين تحت ابتسامتك حزن بلادي
إذن انتِ بلادي
آهِ يا وجعي ويا وجع البلاد المشتراة
ويا كل حزني وكل الحزن أنتِ .
( درسٌ فاترٌ في آخر الحب )

سيدتي :
هل تلمّ البراري بقايا هوى
في يديك يئنّ
هيام الهديل
هيام الرحيل
هيام القصيدة
بين المنافي
لتتلو نشيجاً لشاعرها المتشرّد
بين غبار المواعيد أو مطر الذاكرة
( إنتحار )

براعة هذه القصائد تكمن في المعرفة، فعمق المعرفة التي اكتسبها الشاعر من قراءاته الكثيرة هي التي أكسبت شعره طبيعته المركبة وعمق معانيه؛ فكل صورة يوظفها وكل سطر يرسمه يجب أن يقابله رمزٌ ما، ذو أهمية تاريخية أو دينية أو أسطورية:

جنون القلب الذي تاه في غاباتك
من تموز البابلي وحتى
قصيدة السياب الاخيرة
( في ظهيرة البصرة تلك التي لا يعرفها
الحطابون ولا يدركها سوى صيادي آثار الحياة )
( احتمال نهرين )

توهمتِ ان مدائني انكسرت
وعرباتي انكسرت في الصحراء
ونسيت ان لي في العشق آيات كثيرة
(درسٌ فاترٌ في آخر الحب )

هذه المعرفة وهذا الإطلاع منحتا صوت باسم فرات خصوصية وتفرداً عن الكثير معاصريه من الشعراء العراقيين والنيوزيلنديين وصنفته ضمن تيار الشعراء الحداثويين الكبار (الذين أحدث أسلوبهم الرمزي والتجريدي ثورة في الشعر الأوربي في أواخر القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين)
هذا التراكب في المعاني يبدو جليا حتى في أكثر قصائده الغنائية بساطة مثل ” لا أحبّك ،تكوين3Coming To Be أو القصيدة التي كتبها لزوجته النيوزيلندية “جينيت” (نشرت لأول مرة بالإنكليزية في مجموعة “هنا وهناك”)
هل المدنُ
سوى جواري
تحترف الغناءَ
وترتبكُ أمامَ
أناشيد شفتيكِ
_____________________________
3 عنون مترجم هذه القصيدة الدكتور عبد المنعم الناصر عند ترجمتها الى الانكليزية ب Coming To Be، والشاعر وضعها في بداية ديوانه Here and There اما في ” أنا ثانيةً ” كأهداء ، تحت عنوان ” ما يُغني عن الأهداء ” ولم يضع لها عنواناً في الأصل .
هنا يستخدم فرات صورةً عربية لشرح صعوبة التواصل بين ثقافتي العاشقين. إن هذه الصور الشعرية جديدة ومبتكرة في الشعر النيوزلندي، إن قصيدة Coming to be’ على سبيل المثال، قصيرة الى الحد الذي يمكن إيرادها بأكملها:

أبي
حزنٌ عتيقٌ
أمّي
كتابُ الحزن
حينَ فتحهُ أبي
خرجتُ أنا

لاحظ هنا التركيب الدقيق؛ فالصورتان الشعريتان تستحضران سويةً وتحققان تأثيرهما من خلال السطرين الأخيرين: صورة الأب أولاً باعتباره “حزناً عتيقاً” ثم صورة الأم باعتبارها “كتاباً للحزن”. ويستخدم الشاعر كلمتي “عتيق” و “كتاب” ليمنح للأب والأم الحس التاريخي وصلتهما بالتقاليد العربية المستمرة، تلك الصلة التي تجعل منهما ما هما عليه. وتاريخ الوالدين، تشكلهما، ورمزيتهما الفردية هو بالطبع ما شكل حياة الشاعر في نهاية المطاف، كما في الأبيات الأخيرة، لتصبح حياته: سلسلة متكررة من الأخطاء، والإخفاقات، والأحزان.
ويعيد فرات التعبير عن هذه الفكرة في قصيدته الطويلة “إلى لغة الضوء أقود القناديل”

أخطائي . . أنا
أخطائي
أبي . . خطأ يتناسل
أمي خطأٌ ينتظر خطأً من أجل خطأ
أنا خطأ يعدّ الخطى فيخطئ

وقد تكون قصيدة “عواء ابن آوى” أكثر قصائد فرات (المتصلة بالحب والخسران) تعقيداً، وهي القصيدة التي نالت اهتمام العديد من النقاد العرب. إنها قصيدة غنية بالميثولوجيا والمعتقدات الدينية الشائعة في مدينة كربلاء الجنوبية حيث مسقط رأسه، إذ يوظف الشاعر الميثولوجيا لاستحضار فاجعته بخسارة أبيه. وهنا يعود إحساس بالتاريخ الذي يعيد نفسه ليحتل مركز القلب في فحوى القصيدة حيث نسوة كربلاء :

.. يتضرعن للحُرّ
أن يمنحهن منديل أبي
( مازال معانقا ساعده كي يوقف نزف الخنجر الأموي )

وهنا يستحيل الأب الى شهيد، لا لأهل عصره فحسب وإنما للتاريخ أيضاً. والشاعر يشبِّه أبيه بالبطل الأسطوري “الحر” في تذكيرٍ بتاريخ ومآسي الأرض التي يعيش فيها. ثم إن رحيل الأب في هذه القصيدة متصل أيضاً، وفي مستوى آخر، برحيل “نهر العلقمي” الذي:
“يمسح…. دموعه ويتواري
حاملاً كفين باسقتين يَتَوَهّجان خضرةً وَنَدَماً “

إذ تشير المعتقدات الشعبية الى أن هذا النهر انحرف عن مدينة كربلاء غاضبا من مقتل الإمام الحسين بن علي بن أبي طالب. وهنا يقوم الشاعر من جديد بتشبيه أبيه بشهيد آخر-شهيد تاريخي. إن هذا الاستخدام الرمزي هو ما يمنح شعر باسم فرات قوته وعمقه وحيوته.

شاعر المنفى

أنا المثقلُ بالتباريحِ
بلادي تطرقُ البابَ كلّ ليلةٍ
أأفتح …………!!!
أنا الهاربُ إلى نزقي من نرجسيةِ الحروب
الموقنُ ان لا صبحَ بضغينةٍ
وان الذبولَ يرتعشُ أمامَ الأصيلْ
(هنا حماقات هناك .. هناك تبختر هنا)

ويشكل المنفى الموضوعة الرئيسية الثانية في أعمال فرات. فهو كثيراُ ما يشير الى نفسه في الصحافة النيوزيلندية بـ “الشاعر العراقي المنفي” كما إن الأقسام الأولى والأخيرة من كتابه “Here and There” تتعاطى مع هذا المأزق كما في قصائد “الى لغة الضوء أقود القناديل” و “دون تلفت” و “جنوب مطلق” و “عبرت الحدود مصادفة” أو قصيدته النيوزيلندية “هنا حماقات هناك .. هناك تبختر هنا”. لقد نشرت أغلب هذه القصائد في الأصل باللغة العربية في كتابه الثاني الذي نال اهتمام النقاد “خريف المآذن”. وكشفت مقالة نشرت في صحيفة “ذَ دومِنيَن بوست” بتاريخ 18 تشرين الأول 2003 عن الأسباب التي دعت فرات الى مغادرة العراق:
في عام 1993 قرأ بشكل علني قصيدة انتقد فيها النظام:
“استخدمت وصفاً لأسوأ السجون في التاريخ الإسلامي لأشبّه به العراق تحت نظام صدام. ما حدث قبل ألف عام يحدث الآن” وكان من حسن الحظ أن صديقاً له علاقات بحزب البعث الذي كان يهيمن على العراق حذره من أن حياته أصبحت في خطر لأنه تحدث ضد النظام، ففر الشاعر الى الأردن بعد أقل من شهر على قراءته القصيدة، وأنفق أربعة أعوام في الأردن عمل فيها مصوراً بشكل غير شرعي وعلق على ذلك بالقول “إن الحياة في الأردن صعبة بالنسبة على الأردنيين أنفسهم وليس على الغرباء فقط”. وفي عام 1996 تقدم الى الأمم المتحدة للحصول على صفة لاجئ. وسرعان ما حصل على تلك الصفة بعد أن عرض أشعاره على موظفي الأمم المتحدة. لكن اللاجئين لا يحق لهم اختيار أوطانهم الجديدة، ويقول فرات إنه بكى في الطائرة التي أقلته الى نيوزيلندا “إنها بعيدة جداً. هكذا فكرت. كم من النقود سأحتاج اليها لكي أعود الى وطني؟”
إن هذا الوصف لصدمة فرات وأسباب مغادرته العراق أمر شائع عند العديد من الشعراء من أبناء جيله والجيل الذي سبقه ممن فروا في أثناء الحرب العراقية الإيرانية. والشاعر يقر في قصيدته “برتبة منكسر” :
“توعكتُ حروباً
فأسترحتُ بظلال منافٍ”
ونظرة واحدة على تعليقات المساهمين في المجلات العربية-الإنكليزية مثل “جسور” وبانيبال” تؤكد ما ذهبنا اليه. التعليقات تكشف لنا أن الكثير من الشعراء المساهمين هم منفيون في العديد من الدول الأوربية فضلاً عن استراليا والمملكة المتحدة حيث تصدر المجلتان على التوالي. إن هذا المصير الذي واجهه الشعراء يعني أن الكثير من الشعر العراقي المعاصر يركز على موضوعات النفي ومفارقة الوطن. وشعر هؤلاء الشعراء المنفيين يعج في العادة بالذكريات والإحالات على حيواتهم الماضية وأسرهم المفقودة وطفولتهم الضائعة وغضبهم السياسي وحنينهم الى الوطن وإحساسهم بالإغتراب.
كتب الناقد الفلسطيني إدوارد سعيد في “محاضرات رايث” عام 1993 مؤكداً أنه :
“ما إن تغادر وطنك، وإينما انتهيت، فإنك لن تستطيع أن تتقبل الحياة وتصبح بكل بساطة مواطناًً آخر في المكان الجديد. أما إذا استطعت ذلك فإن سعيك سيرافقه الكثير من العناء الذي قليلاً ما يستحقه الأمر. ربما تسلخ الكثير من الوقت وأنت تتأسف على ما أضعت، وتحسد أولئك الذين حولك ممن كانوا على الدوام في وطنهم، قريبا من أحبابهم، يعيشون حيث ولدوا وترعرعوا دون أن يكون عليهم أن يقاسوا فقدان ما كانوا يملكون يوما، أو، وقبل كل شيء، الذكريات المعذبة للحياة التي لن يستطيعوا لها رجوعاً”
وشعر فرات ليس استثناءً في هذا الصدد. فقصائده المذكورة آنفاً تتطابق وهذه المعايير، وربما كان النموذجان المركزيان لشعره المنفوي (على وفق تعبير ادوارد سعيد) هما “جنوب مطلق” و”أرسم بغداد”. فقصيدة “جنوب مطلق” تستخدم منفاه في نيوزيلندا كنقطة لإرسال رسالة الى عائلته وشعبه ووطنه:

وأقول : في الأقاصي البعيدة
ثمة ما يدعو للتذكر
في المدن التي أنهكها البحر
أردم أحلامي
لي من الحروب تذكار
ومن البلاد أقصى الجراح
لي من الاسى دموع المشاحيف وارتباك القصب
تأوهات النخل
بوح البرتقال
دم الآس
هناك ….
تركت على خارطة الطفولة
براءة ثقبتها عفونة العسكر
ومن البيت سرقتني الثكنات
ورمتني الى المنفى

وتمضي القصيدة لتصور المسافة بين الأمتين: نيوزيلندا والعراق:

بينما جميع الأشياء تشير إليكِ
لا شئ يُذكرني بكِ
أو:
وحين تطلعتَ إلى الوطن
ابتلعك المنفى
إن القصيدة عند الشاعر طريقة للتصالح مع غضبه وحزنه الشخصي في المنفى:

مثخناً بالذكريات
أبادل الشظايا بالورود والقصائد
ورعونة القصف بعود مُلاّ عثمان الموصلي
ومقامات القبنجي

توظف القصيدة رمز جنوب العراق في عنوانها لكنها تجد نفسها الان وقد حطت أبعد الى الجنوب، الى الجنوب المطلق، في نيوزيلندا، وهي فكرة أصيلة في سياق الشعر العربي:
لا جنوب ورائي لأصيح : هنا بلادي
ولا جنوب أمامي لأتلمس لي منفذاً إليه
أنا الجنوب المطلق
عُدّتي تاريخٌ طويلٌ من الحروب والانكسارات
أما في “أرسم بغداد” فيستكشف فرات حياته في بغداد قبل رحيله ويستحضر كذلك ذكريات طفولته. وترسم هذه القصيدة –التي لاقت صدى قويا عند النقاد العرب- ألامه الشخصية في المنفى من خلال صور الطفولة البريئة التي دمرتها الحروب المستمرة في وطنه:

أنا بلا متعٍ بلا أمجاد
خذلتني أحلامي
منعزلاً في أقصى الضياع
تُرثيني فاجعتي
ويقودني حطامي
أتتبّعُ أثار طفولةٍ وأُرتّقُ أمانٍ دَهَسَتها المجنزرات
أرى مظاهرات الخوف تندلق من جيوبي
ولأنّ البحر منزوٍ هو أيضاً
راحَ يُوَزّعُ غربته على أمثالي ..
في هذه القصيدة يبلغ تناول فرات المكثف للمجاز مداه من الصعوبة والتعقيد:
تتثاءب في أحضانِ السمكِ النجوم وتلّوح لي
أرمّمُ قلبي بيد وبالأخرى أتدارك الوردة من الهذيان
أتدارك الشرفات من السقوط في مستنقع حافل بالسماء
البحر يتشبّث بي كلما يتلكأ أمام براءتي
تتسلّق الشبهات حافة الوقت
أكداسٌ من الحروف تحفّ بشواطئ الكلمة
أسمعتك نشيدي فما أسمعتني غير احتراقي
قدت المطر الى بابك فانزلقت أنامله فوق جبيني
أرخيت تسهيدي للحدائق ، لأني أمام أتون الفراشات
ودون خرابي الماثل للوردة والعصافير …….
إن الاستخدام المجازي والتشخيصي للورد والحدائق والفراشات والشرفات والبحر له معان عديدة في العربية وقد يملك من المضامين الدينية والميثولوجية ما لا نتمكن ، نحن الغربيون، من إدراكه من الوهلة الأولى.

القصيدة بوصفها احتجاجا
الحروب التي كنت خاسرها الوحيد –
علّقتها على مضض
ومضيت أبحث عني
أغتسل بعسلٍ
والخراب يصهل في كتفي
أما الموضوعة الرئيسة الثالثة في أعمال فرات فهي “القصيدة بوصفها احتجاجا”. وشعر فرات هو في الغالب صرخة احتجاج ضد دمار وطنه وما خلفه من آثارٍ على أسرته وشعبه. وهو يستخدم عدة طرق لتوظيف ذلك في شعره. وفي الوقت الذي يطرح الشعراء العراقيون الآخرون رسالتهم السياسية بشكل مباشر وصريح تستحضر أعمال فرات تلك الرسالة من خلال تصويرها للحياة في العراق. وأحد أساليبه في ذلك هو استخدامه رمز الأم. إن رسم تعاسة شخصية الأم في شعره المنفوي هو واحد من وسائله لانتقاد الدمار الحاصل في وطنه. وصورة الأم في شعر فرات قارسة، حزينة، مؤلمة.
أمي آيات حناء يغالبها العشق
فترملّت
حزن محبين في آخرة الليل
يفرغ الهمّ في حضنها مواويله
ذكريات مشت عليها الحروب
(عواء ابن آوى)

أمي ترمّم النجوم التي اختلطت بشعرها
وتشرب شاياً تذيب فيه احزانها
( عبرت الحدود مصادفة )

وللحرب أيضاً أناشيدها
تلك التي بلّلت أحضان الامهات
بالعويل والترقّب
نوافذ اشرعت للانتظار
ولا تشيرُ الى أحدٍ
أبوابٌ أكلتها الحسرة …
(جنوب مطلق)
ويستخدم الشاعر في أمكنة أخرى ذكريات طفولته كوسيلة لاستحضار البراءة التي دمرتها الحروب والمعارك التي لا تنتهي:

رمادها – هذه الحروب – أغلق روحي
وجفّف زيت طفولتي عند الباب
(عبرت الحدود مصادفة)

سرقتُ ذاكرة النسيان
…………………..
رسمتُ سماء صافية لأنفذ منها
محتها الصواريخ
رسمتُ جدولاً وقلت : هذا نهر الحسينية
تلصصت عليه المطارات
رسمت مئذنة ونخلة
ووحيداً اوقفوني إلاّ من مرآة أحملها ………….
(أرسم بغداد)
ويبدو واضحاً أن الشاعر يدين كثيراً في هذا الأسلوب الى قراءاته للأدب الأوربي الحديث المترجم الى العربية. وهو أسلوب ذو صور مجازية شديدة في تجريدها وتعبيريتها (expressionism) حتى إنها تذكرنا باللوحات التعبيرية العظيمة مثل لوحة “الصرخة” التي رسمها إدفرد مونك عام 1885:

…حاولت ألفَ مرة أن أخبئ الفرات
لكنني عانقته
فخرّ أزيزالمدافع من قميصي
(أرسم بغداد)
أما قصيدتا “رحيل” و “آهلون بالنزيف” فتعمدان الى إستراتيجية أخرى؛ إذ يوظف فرات رمزيا معاناة شعبه على يد نظام صدام حسين ناهيك عن الحروب والصراعات السابقة على مر تاريخ العراق.
كتب الشاعر والناقد الاجتماعي النيوزيلندي جيمس ك باكستَر “إن الشاعر -أو الكاتب- الذي يغمض عينيه عن رؤية المعاناة الإنسانية متورط في خيانة البشرية” ويبدو أن فرات يلتزم نفس الموقف النقدي. فلقد قال ذات مرة أن “عائلته عانت الأمرين تحت حكم صدام” وإنه يستطيع أن يضع “قائمة مخيفة بأقربائه الذين كانوا ضحايا للنظام، وأن يعددهم واحدا واحداً على رؤوس أصابعه”. لقد استشهد ما يقارب الخمسين فرداً من أفراد أسرته، والسكوت عن هذا سيكون بالنسبة إليه ضربا من الخيانة، ومن هنا هذا الالتزام القوي في شعره الاحتجاجي:
الذين أوقدوا شمعتكَ ناحلٌ رحيلهم
وخرابهم معلّقٌ في أقاصي العمر
(آهلون بالنزيف)

الأصدقاء يرحلون
تتبعهم أحلامهم
تضئ لهم دروبهم
أُلفَتهم موحشة
طرقاتهم ذابلة
يتساقط بأسهم دون جدوى
أمانيهم تغافلهم وتنتحر

الأصدقاء ، من يرسمون الربيع علامة لهم
وما يرجعون
إلا ليجدوا الخريف يمضغ خريطة البلاد
استنجدوا بنهرين
لكن الخراب يهرول في مساحة تدعى الوطن
( رحيل )
إن أحد معالم هذه القصائد هو تكرار كلمة “دمار”. والشاعر لا يتوانى عن توجيه أصابع الاتهام الى نظام صدام، وعلى مستوى أكثر عمقاً الى أسلوب الحياة في العراق الذي كان على الدوام متسماً بالعنف والوحشية. فتاريخ هذا البلد ظلت تنسجه الصراعات المعقدة والحروب، ليس مع الولايات المتحدة أو الدول المجاورة مثل إيران فحسب، بل تلك النزاعات الداخلية بين المكونات الطائفية المختلفة.
وكان الأسلوب الأخير الذي لجأ إليه فرات هو توظيف نفسه رمزاً للاحتجاج. ولربما كانت أكثر احتجاجاته قوة وبراعة قصيدته “1/ 3 / 1967” وهو عنوان مأخوذ من تاريخ ميلاد الشاعر الذي حدث في أثناء حربٍ أخرى: الحرب العربية الإسرائيلية – وهي إيماءة شديدة الرمزية بحد ذاتها.
في هذه القصيدة، وكما فعل عندما استخدم رمز أمه، تصبح حياته ذاتها رمزاً للألم والشقاء الذين يعانيهما شعبه ووطنه:

أنا باسم فرات … يا الله … أتعرفني ؟!
المخافر موشومة على جلدي
وأمي لم تلتفت للشظايا
حين مشطت صباي
فأهالت الشمع والآس فوق صباحي
بعباءتها التي تشبه أيامي تماماً
كانت تكنس الطائرات
لترسمني كما تشتهي
ألأني كنت أحمل الوطن في جيب قميصي
وتحت لساني نهران يهدران
أركض خلف موتي وجثتي تتبعني
البلاد خريف طويل
سيلٌ من الغثيان
( 1/ 3 / 1967 )
وهنا، كما في المقاطع السابقة، يمكن أن نرى أن استخدام الرمز هو التقنية الرئيسية في شعره. وهو يخلق باستخدام هذه الطريقة صوراً مجازية مكثفة ومتعددة المستويات ويتملص من فخ الدعاية المباشرة الذي يقع فيه الكثير من الشعر السياسي المبسط لمعاصريه العراقيين. ولربما كان هذا ما دعا سعدي يوسف الى أن يعد شعر باسم فرات ” بانوراما رائعة لشعر المنفى العراقي”.
منذ أواخر القرن التاسع، وطوال القرن العشرين، ظل وصف واستحضار الدمار طريقة قوية لرسم صرخة الاحتجاج الإنساني. فقد لجأ إليها عدد من شعراء الحداثة الكبار في أوربا. ويمكن للمرء أن يفكر بقصائد “أبولونير” التجريدية خلال الحرب العالمية الأولى أو “الأرض الخراب” لـ “تي أس إليوت” كأسلاف لأسلوب فرات وطريقته في التفكير. والأمر- بعد هذا وذاك- يعود الى هذه المعرفة التاريخية والميثولوجية وقراءاته للشعر الأوربي المترجم الى العربية في تميز أعمال فرات عن العديد من معاصريه العراقيين التقليديين ومنحها قدرا أكبر من القوة والرنين في محيط الشعر العالمي ولا سيما الإنكليزي أو الفرنسي. إن فرات شاعر صاعد ليس في دنيا الشعر النيوزلندي لكن في الشعر العالمي، وإذا ما قدر له العودة الى العالم العربي فلسوف تكون إقامته في نيوزيلندا، على أقل تقدير، سبباً في إبداع العديد من القصائد المجددة المدهشة، وهذه هي “بهجة المنفى” كما يقول إدوارد سعيد.
ولأن المنفيّ يرى الأشياء من طرفين: ما تركه خلفه وما يراه الآن وهنا بالفعل، فإنه يمتلك منظوراً مزدوجاً لا يرى الأشياء معزولا بعضها عن بعض. فكل مشهدٍ وموقفٍ في البلد الجديد يذكره بما يناظره في بلده القديم… وكل فكرةٍ أو تجربةٍ تقارن بما يقابلها، مما يسلط على كليهما ضوءً جديداً لا يمكن التنبؤ به.
وهذا ما يدفعني الى الاعتقاد بأن شعر باسم فرات يشكل إضافةً حقيقية الى الثقافة النيوزيلندية. وسوف تظل مجموعته “Here and There” أول مجموعة شعرية تترجم وتصدر هنا، وقد تصبح عملاً فارقا يميز هذه المرحلة في جنوبي المحيط الهادئ في ضوء التدفق الجديد للاجئين الى نيوزيلندا الذي نتج عن الانتفاضات والصراعات التي ابتليت بها العديد من أقطار العالم في مقتبل القرن الحادي والعشرين.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
مارك بيري
ولنغتن، نيوزيلندا
أيار 2005

اترك رد

اكتشاف المزيد من عناوين ثقافية

اشترك الآن للاستمرار في القراءة والحصول على حق الوصول إلى الأرشيف الكامل.

Continue reading