حوار مع الشاعرة العراقية كولالة نوري

كولالة .. الشعر إتزان الجميع

حوار وتقديم: رعد مطشر

كولالة نوري .. شاعرةٌ مختلفةٌ فيما تكتبه من قصائد .. جريئة فيما تطرحه من الموضوعات، لا ترتدي القناع , إنّها تعيش للشعر .. وللشعر فقط …. تضحي بكلّ ما لديها من أجله: (الشعر فوق الجميع ) ؛ شعارها الأبدي ، جاعلةً من حياتها قصيدة طويلةً ممزوجةً بالبكاء والطفولة والحنين ، والثلج المنهمر في الذاكرة كأسراب التيجان ؛ تيجان الشعر ، فلكل شاعرٍ تاجه ، ولها تيجانٍ كثيرة .. فيها تبحث عن توازنها الحقيقي ، فيها تبكي فيها تضحك .. تحلّق في مديات السعادة ، لا تريد منها ( مواساةٍ أو تهنئة أرضية ) .. وفيها تحلّق فوق القلق والأمنيات والاجتهادات .. تجرّب الطيران بأجنحةٍ من عنادٍ لإثبات مشروعيّة وجودها ووجود جيلها من الشاعرات .. والشعراء ..

* الشعر تجريب دائم ، لكنك غالباً ما تفرطّين في التجريب لدرجة الوقوع في الشعر ..
– رُبَّما حالة واحدة أو حالتان وليس غالباً ثم التجريب فيه إحتمالات ؛ أما الفشل فاستفيد منه لما يلحقه ، أو أنجح فأتشجّع لتجربة أخرى .. وبذلك لن أتوقف عن التعلّم والتجديد .. لذا تراني .. حين أكتب , لا أخاف الرفض.

* تطرحين دائماً: بأن الشعر فوق الجميع ، أو بصيغة أخرى ؛ أنك تضحين بكلّ شيء من أجل الشعر ..
– حيث يضمنـّي الشعر فلن أشعر بخسارة مهما كانت تضحياتي .. فلا أحضان صادقة ودافئة مثل أحضان الشعر .. إنـّه ملاذي الوحيد إنه أكبر من أية مواساة أو تهنئة أرضية ، إنني مغرمة بالشعر ، ولكن غرامي هذا لا يسلبني الحكم بالعدالة تجاه أصدقائي بل على العكس: الشعر يحقق إتزاني ولا مجال للمقارنة بينه وبين الآخرين .. فالشعر فوق الجميع.

* السعادة هي مجموع المُتّع والملذات وتحقيق ما نصبوا إليه ؛ فما سعادتك (أنتِ) كأنثى وكشاعرة، وهل الهدف النهائي لهذا الركض تحقيق الشهرة ؟ أم ماذا ؟!
– كيف يمكن لشاعرة حقيقية أن يكون هدفها تحقيق الشهرة . الشهرة هي جلب الإنتباه .. وأنا في كل مرحلة من مراحل حياتي .. كان هناك ما يميّزني عن الآخرين دون أن أكون ( مقتصدة) في ذلك أبداً . في الثالث الابتدائي قدْتُ تمرداً ضد المعلمة لأنها عاقبتنا دون وجه حق ، وأقنعت ( أصدقائي وصديقاتي ) الصغار في تقديم شكوى ضدها للمديرة ..وفي السادس الإبتدائي أذكر أنني أسّست فريقاً نسوياً لكرة القدم ، كنت دائماً مصدر إقلاق وإستغـراب الذكور ، لأنّ مدرستي كانت مختلطة …. كنت حارسة المرمى وقلب الهجوم والحكم أيضاً !! ودلال أمّي عوّضني من أن تكون الشهرة هدفي , الركض الذي تحدّثت عنه إنـّه لإحساسي بأنَّ عمراً واحداً لن يكفيني أبداً … أبداً لأعيش الحياة بكاملها ، بكل حذافيرها . أنت تعرفني عن قرب ، فهل وجدت أنّ الشهرة وفـّرت لي السعادة أو عوّضتني عن مراراتي .. صحيح للشهرة رائحة زكية ؛ ولكن حين تتناولها تكتشف إنـّها المرارة التي يجب أن تتجرعها مع حريتك الشخصية . السعادة نسبية .. الأنثى في سعادتها تكمن حيث لا يعاملونها كأنثى جميلة فقط وإنما كإنسانة شاعرة .. والشاعرة تكتمل سعادتها بعد أن يكتشف الجميع إن حضور شعرها أقوى من حضور شكلها.

* الأنثى ذلك العالم الجميل المليء بالألغاز .. ما هي صورة الأنثى في ذهنية الشاعرة وسط عالمٍ من الرجال يطاردها فكرياً وجسدياً والرجل يريد حضور الشكل لا الشعر ؟
– الصورة المثالية للمرأة الشاعرة وسط ( لغم ) من الرجال ؛ هي أن تكون زجاجة مصقولة ضد الكسر .. أن تكون واقفة بصلابة أمام قنابل الإشاعات التي تبغي تهشيمها .. وتهميشها .. أن تكون مدججّة بدروعٍ من الوعي والصرامة كي تحافظ على فكرها وجسدها , المرأة الشاعرة لا تهب فكرها وجسدها بسهولة وخاصة للرجل الشرقي لأن الرجل الشرقي مهما أدّعى فلن تغادر رائحته النتنة – كما يقول محمد الماغوط – فهو لا يتحمّل رفض الأنثى له على الفراش . إن معيار الصداقة بالنسبة لهم مع المرأة حيث تلبّي نداءهم لتشاركهم الفراش .

* جوابك هذا يقودني إلى سؤال ؛ الجرأة في الكتابة في مثل هذه المواضيع تبتعد المرأة عن الخوض فيها وهذا ما لا ينطبق عليك . فقصائدك وكتاباتك تقول هاهي علاقاتي ، عشاقي ، إنهياراتي ، أعدائي ، حبّي ، كرهي ، إنتصاراتي .. هل هو خروج عن نظام القبيلة ، أمام مغايرة لما تكتبه الأنثى ؟
– كلما كانت القبيلة صارمة .. كلما كان الإيقاد وهاجاً لتحقيق الانتصار – حتّى ولو ورقياً – والتجاوز . وكلّما إستكنْتَ للصدق في الكتابة كنت جزئياً .. وأنا والحمد لله صادقة في كتاباتي حدّ اللعنة المغامرة .

* هل أنتِ شاعرة مغامرة ؟ وما إختلافك عمّن يكتبون قصيدة الحداثة ؟
– لابد أنني أملك الصفة الثانية التي أطلقتها عليَّ لكي أحقق الصفة الأولى , هذه بديهية سواء أدبياً أو إنسانياً .. ليس من السهولة إطلاق صفة شاعر على أحدٍ ما دون أن يمتلك المغايرة .. هناك شيء مهم له دور أساسي في إضفاء نوع من التفرّد على كتاباتي هو أنَّ مضمون أي نص شعري تحيطه هالتان من الخيال ، لكوني أكتب بلغةٍ تختلف عن لغتي الأم .

* الكتابة باللغة العربية هل تسبب لكِ إشكالاً ذهنياً ، وأنت تكتبين بلغة تختلف عن لغتك الأم ؟
– لا تسبب لي أيّ إشكال بتاتاً .. وبالمناسبة في بداياتي كنت أكتب باللغتين ( العربية والكردية ) ولكن كانت بداياتي باللغة العربية أقوى بكثير .. لذلك تركت الكتابة باللغة الكردية .. ولابدَّ أنني سوف أكتب قصيدة رائعة حتماً .. مرّةًَ قال لي الأستاذ جليل القيسي: ( لا ترتبكي أبداً من كونك تكتبين بلغة وتتكلمين بلغة .. إنّكِ بذلك تهضمين ثقافة وحضارة أمّتين .. وستعيدك حتماً بالكتابة بل تميّزك هذه الحالة من الذين يكتبون بلغة حديثهم ) .

* ذاكرة المرأة ؛ الجبل ، الشمال ، الدفء ، الشعر .. هل هي ذاكرة الحاضر في نفسك ، أم الماضي المستمر إلى ما لا نهاية ؟
– لا يمكن أن أسمّي أي من المرأة ، الجبل ، الشمال ، الدفء ، الشعر .. ذاكرة .. إننّي خليط من هواء ، فكيف يمكن أن أكون ذاكرة .. إذا حُذف أحدهم منّي حينها أتحوّل إلى ذاكرة .

* يقول نيتشه : ( نحن بحاجة إلى الجنوب ، وبأي ثمن . ) هل نستطيع أن نجري تغييراً على مقولته بحيث نضع الشمال بدلاً من الجنوب بالنسبة إليك ؟
– نعم أنا بحاجة إلى الشمال .. منذ سنوات عديدة لم أرَ جبلاً .. أشعر بأنَّ عينيَّ أصبحتا أفقيتين وقدميَّ لم تضمّها نعومة الثلج ، في الشتاء يكفي أن تتأمل سقوط الثلوج أو البياض الناصع حولك لتجد نفسك بعد ساعات وكأنك أبن الثلج تحمل كل صفاته الوراثية الحميدة .. أنا بحاجة إلى الجنوب أيضاً .. بحاجة إلى الحزن الذي يتلّبسك وأنت تتأمّل مشحوفاً يمرُّ بهدوء ( ليخربش ) بكل قسوة – مثل الطفل عنيد – صورة قرص الشمس في الماء عند المغيب إنّه حزنٌ من الضروري أن يجرّبه الشاعر .

* طفولتك ، أتعابك ، تجاربك العاطفية ، سنوات الترحال والركض بين المدن ، هي قصيدتك الدائمة ، لماذا هذا التركيز المستفيض على هذه الأشياء ، بل أن قصائدك انعكاسٌ للجانب الموحش منها فقط ؟
– إنّها ليست تركيزاً مستفيضاً بقدر ما تكون تلك الأشياء التي ذكرتها مبرّرات لوجود قصائدي فكيف تريد أن أبرّر وجود قصيدة دون تجربة أو معاناة دون طفولة .

* حبك الجارف للحياة في لحظة ما ، وكرهك لها في ذات اللحظة ، هل هو إزدواجٌ في النظرة لها أم ماذا ؟
– نعم أحب الحياة بقوة .. وفي نفس اللحظة أنقلب ضدها تماماً لأنّها لا تشيخ معي بل تبقى كما هي , إنّها حبيبة خائنة لأنّك من أجل جمالها تعرض عليها ما عليك من عقود ولآليء لتكشف بأنّها لا تلتفت إليك أبداً .. وعند موتك تكتفي بأن تضع أسمك ضمن أكداس عشاقها …. رُبَّما هي نظرة شعرية زائداً نظرة صوفية .

* عالمنا اليوم مليء بالشروخ والشقوق ، تبحثين عن ماذا في هذه الشروخِ ، وتلك الشقوق, عن زهرةٍ أم عن دمٍ ، أم عن نهاية الأسماء والأشياء المتلاشية ؟
– إنّني أبحث عن المجهول الذي بدوره يبحث عني في حين يوّسع الشروخ أقوم بتكبير الشقوق والعكس بالعكس إلى أن تتلاشى أو تتهشّم هذه الشقوق والشروخ , وبطبيعة الحال سوف أعثر على زهرة بين تلك الشقوق ولابدَّ أن أرى دماً فلكل عملية تنقيب حوادثها .. ولا تنسى إنني آدمية .. من لحمٍ ودم ، ولابدَّ أن تكون نهاية الأشياء والأسماء حين نلتقي أنا .. والمجهول وجهاً لوجه .. وهذا ما أتمنّاه أن يتأخر كي أبقى في مرحلة الإستكشاف .

* الشعر إختراق لكل المفاهيم والحُجُب ، والإرتواء من منابع الخيال العميق المحسوس روحياً من خلال المتلقي …. هل هناك متلقّي يفهم شعرنا الحديث ، أو شعر الحداثة من خلال هذا المفهوم ؟ ومتى نصل إلى القارئ ؟
– المشكلة أنّ وعي الشاعر المجدد وعي غير محدد على عكس المجتمع ؛ فهو منضبط بوعي وإدراك محدّدين تحكمه أعراف وطقوس .. والمشكلة إننا أيضاً لا نستطيع أن نهضم وعيهم . لذلك لغتنا تختلف عن لغة الناس ( لغة الشارع العام ) , المجتمع يهنـّئ الشاعر المألوف وطالما بقت هذه الفجوة يبقى الشاعر الحداثوي والمجدد غريباً على المتلّقي وعليه .. على الشاعر المجدد أن لا يبحث عن الثوابت الإجتماعية .. والشاعر الذكي فقط يحقق التوازن بين الوَعْيَيْن بالمقابل .. يجب أن نجد مجتمعاً ذكياً يساعدنا في ذلك .

* كولالة نوري كانت تحت شمس كركوك ؛ بوجوهها الحزينة ، وزهورها المليئة بالنجوم من قطعها وحلمها من مدينتها إلى بغداد, هل هي الشهرة أم التحطّم واليباس في المدينة الكبيرة ؟
– حين خرجت من كركوك خرجت هاربة.. ولم يقتلعني أو يحملني أحد .. خرجت هاربةً من القيظ الذي كان يظلّلني والإنجماد الذي بدأ يسري في أطرافي , كنت هاربة أبحث عن جبين عليه علامة نبوّة .. لا أذكر إنـّني مكثت أكثر من ثلاثة أشهر في كركوك بعد الثامنة عشرة – بسبب الدراسة والعمل بين الموصل وبغداد .. صحيح أن كركوك ظلّلت طفولتي لكنها لم تظلّل نضوجي … قبل الثامنة عشرة لم أكن أعرف من كركوك سوى أمّي ومدرستي وصديق طفولتي ( أوميد ) .. أومـيدٌ هاجر بلا رجعة .. المـدرسة خانتني بمعدّل أدخلـني إلى المعهد ( المعهد التكنولوجي / قسم الكهرباء ) وأمـّي أخطأت حين سمحت أن أفطم نفسي مع إصراري على إبقاء حبلي السري دون قطع .

* مسألة أثبات الذات مسألة تحتّم علينا أن نفقد أشياءً كثيرة فماذا فقدت أثناء تلك المسيرة والترحال ؟
– فقدتُ وجهي القديم ؛ كانت ملامحي مدللة والآن ملامحي صارمة . لكي أثبت ذاتي جعتُ جبتُ الشوارع ، تشرّدتُ .. نمتُ على أرضية محطة القطار بكيت بكيت بكيت كثيراً لما يكفي كل شاعرات جيلي ، فقدت حبيباً عزيزاً .. فقدت تواصلي السابق مع أخواني ..

أللـّهم أغفر لكولالة جنونها كي يرضى الشعر عنها ! .. أللـّهم وأغفر لنا مع جنونها جنون كل الشعراء..

اترك رد

اكتشاف المزيد من عناوين ثقافية

اشترك الآن للاستمرار في القراءة والحصول على حق الوصول إلى الأرشيف الكامل.

Continue reading