«حب ليس إلا» لنادية الكوكباني … يمنية تأتي إلى الرواية من عالم العمارة

نبيل سليمان

من هندسة العمارة جاءت الكاتبة اليمنية نادية الكوكباني إلى القصة القصيرة، فكانت لها بين عامي 2001 ـ 2004 ثلاث مجموعات هي (زفرة ياسمين – دحرجات – تقشير غيم)، ثم جاءت إلى الرواية هذا العام في (حب ليس إلا). والرواية تبدأ وتنتهي بفوبيا الكتابة: العلة التي أصابت الراوية فرح قبل إحدى وعشرين سنةً، وها هي تعاودها بينما يتطابق زمن الكتابة مع الزمن الروائي في عام 2005.
في ذلك الماضي البعيد اكتشفت الأخت الكبرى لفرح مفكرتها الزرقاء التي كانت تودعها أسرارها، وتخفيها، فصارت بعد ذلك الاكتشاف تخشى الكتابة عن الخصوصيات، وتشوهت علاقتها بالكتابة، فباتت تكتفي بالرموز والإشارات. لكن فرح تعترف بفضل شقيقتها الكبرى إذْ دفعتها على طريقة أخرى لكتابة اليوميات بمنتهى الحرية: «طريقة خاصة بي تفننت فيها، لغة جديدة أتقنتها الى حد الغرور». ولأن فرح تلخص ما أودعت (المفكرة الزرقاء) من الذكريات، فلن تظهر في الرواية تلك الطريقة الخاصة واللغة الجديدة، بل سيتوالى التلخيص، ابتداءً بالمفكرة الأولى عندما كانت الراوية في الحادية عشرة، إلى (مفكرة الاكتشاف) التي لا تمل الراوية قراءتها حتى الآن، وصولاً إلى (المفكرة الزرقاء) التي استلت منها قصتها الأولى ونشرتها تحت اسم (مجدولين صنعاء).

ينتهي الفصل الأول من الرواية (دفتا مفكرة زرقاء) بدخول فرح الجامعة بعدما رفض أبوها أن تسافر في المنحة التي حصلت عليها في الخارج. ويبدأ الفصل الثاني بالتساؤل: «لماذا أكتب كل هذا الآن؟ لماذا هذه الرغبة الشديدة للكتابة، والتدفق الغزير لكل هذا السيل من الذكريات؟». وإذا كان الجواب سينجلي أخيراًً، فالأهم هو أن بناء الرواية ينهض إذاً على الذاكرة، وفعل التذكير هو الفعل الحاسم في الرواية، يتلون أحياناً بالاستباق، لكن الغلبة هي للارتجاع.

عبر ذلك ترسم الرواية صورة الحياة الاجتماعية والثقافية والسياسية اليمنية، بالاشتباك مع حياة الراوية، وبالعودة أحياناً إلى ما هو أبعد. فمن صيف 1988 تستذكر موت شقيقها نادر على يد عصبة ممن تسميهم (قطاع الطرق) يقودهم ابن شيخ قبيلة، وأرادوا سرقة سيارة نادر وجنبيته (خنجره). وتستطرد فرح إلى سرقة العصبة لسيارة ابن الوزير ومصرعه، وإلى أن السخرية هو في صمت الشرطة على ذلك، ومن قبول الوزير لاعتذار الشيخ عن فعلة ابنه، اتقاءً لفتنة بين الدولة والقبيلة. وفي مفكرة السنة الجامعية الثالثة تتلمس فرح قصة حب في مجتمع لا يسبق الزواج فيه تعارف. وتكون قصة الحب بينها وبين أستاذها هشام الذي درس في ألمانيا، وبعد عودته إلى عدن غادرها إلى جامعة صنعاء إثر أحداث كانون الثاني (يناير) 1986، ليعشق فرح وتعشقه، ثم جاءت العطلة الصيفية التي تتالت فيها رسائله إلى العاشقة، وهو ينتقل إلى هولندا وإيطاليا وفرنسا. فجأة قطعت الرسائل التي عرفت العاشقة من خلالها العالم، واختفى الدكتور هشام مورثاً للرواية السؤال: «لماذا فعل هذا بي؟».

من الحياة الجامعية تستذكر الراوية رحلة ترفيهية لطلبة التخرج إلى عدن عندما «أصبح الفكر السلفي لمعظم الطلبة سائداً، ورحلة مختلطة كهذه في نظرهم لا تصح، وحرام». وكانت الوحدة اليمنية قد قامت، وعدن فتحت ذراعيها لكل الناس من جميع المناطق، فصار للأعياد والإجازات مذاقها الخاص. وتروي الراوية أنها اكتشفت في زياراتها اللاحقة لعدن أن معظم العدنيات لا يجدن السباحة، كما في صنعاء، حيث يمكن لمن كانت أمهاتهن غير يمنيات أن يسبحن في الفنادق الكبرى، وحتى سن معينة فقط. أما عن الجامعة، فتروي فرح أنه لم يكن حتى منتصف الثمانينات من فارق فيها بين طالب وطالبة في تلقي العلم، لكن الحال انقلب. وها هي العاشقة المغدورة تُعيَّن معيدة في الجامعة، بعدما رفض أبوها أن تسافر إلى الخارج لتحضر الماجستير، بينما تحول هشام إلى لغز.

عند حصولها على الماجستير كانت قد استنفذت كل مبرراتها لرفض الزواج، فرضيت بالصيدلي ورجل الأعمال سامي، مشترطة استمرارها في العمل. لكن «الزواج الحضاري» فجعها، ابتداءً بالليلة الأولى. فسامي الشكوك يراقب زوجته ويتنصت على مكالماتها الهاتفية، وسرعان ما يحرمها من الخروج من المنزل إلا بمرافقته، ثم يحرمها من العمل، ويغدو البيت سجناً وجسدها وليمة، وهي تخشى الطلاق في مجتمع تظل المطلقة فيه هي المسؤولة عن أي فشل. وستعلم فرح من بعد سرّ فقدان زوجها للثقة بالنساء، وانتقامه منهن في شخصها: إنه رفض ابنة عمه له!

بالقراءة وبالرقص واجهت فرح جحيمها الزوجي، حتى ضبطها سامي وهي ترقص، فضربها، فغادرت إلى ذويها طالبة الطلاق. وفي قفزة هائلة تقفزها الرواية سيتبيّن أن سامي قد استرضى زوجته ملبياً كل شروطها، وأنهما قصدا عدن ليقضيا شهر عسل جديد، لكن حادثاً أودى بالرجل. وحين استعادت فرح وعيها في المستشفى شبهت حالتها بما قرأت في قصة لقاصة يمنية: «تدعى نادية الكوكباني. اسمها إن لم تخني الذاكرة (مزحة) نالت إعجاب كل من قرأها بمن فيهم أنا! أكثرهم إعجاباً بها وبتقنياتها الدكتور حاتم الصكر اٍستاذ الأدب العربي الحديث والنقد في جامعة صنعاء، يدرسها بانتظام لطلابه في قسم الإعلام، حتى إن اسم القاصة تحول إلى (صاحبة مزحة) لدى طلابه. بطل مزحة كان ميتاً ومرّ بحالة تطابق ما أمرّ به الاآن».

من هذه اللعبة لحضور الكاتبة في روايتها – أين هي من لعبة هذا الحضور في روايات سميحة خريس وعلوية صبح ونور أمين..؟ ـ وتواصل سبيلها من المشفى إلى عدن، حيث تنزل في بيت المريضة التي استضافتها، بينما كانت حرب 1994 قد اندلعت، وأعلن الجنوب الانفصال. وهنا تستطرد فرح إلى ما طرأ في عدن بعد الوحدة، حيث ارتدت نساؤها الجلابيب ومقارم غطاء الرأس السود الطويلة غير الملائمة لجو عدن الحار، خوفاً من الاتهام بالانتماء إلى الحزب الاشتراكي، أو الإشارة إلى اعتناق الفكر الماركسي، وبعد حرب صيف 1994، خوفاًً من الاتهام باتباع الانفصاليين: «كل ذلك أمر يجب الهروب منه ولو بالملابس السود اليمنية أو الجلابيب البيض وإطلاق اللحى للرجال الذين يعرفون باسم مطوعين في عدن أو صنعاء». ثم تعجّ الرواية بما تدعوه فرح (مفاجأة المفاجآت) و(الصدفة الغريبة)، فبيت أم زياد يقع في حي الشيخ عثمان من عدن، حيث يقع بيت هشام، وهشام المختفي يرسل لفرح رسالة يعلل فيها اختفاءه بحرصه على استقرار زوجته وأبنائه. والمرحوم سامي ترك لأرملته صك ملكية البيت ورصيداً في البنك. أما الأرملة فقد قضت عدتها (الوجل) في البيت، وكلمة أرملة أفضل من كلمة مطلقة في المجتمع. وهنا تتعمق الرواية في كيان ابنة الثامنة والعشرين التي صارت حرة: «أرملة تعني حرة، الموت لم يرحم زوجها فقط من عذاب الدنيا، ولكنه أيضاً رحمها من عذاب المجتمع، ليس لها دخل في موته! قوة ورحمة إلهية جعلتني أنعم بالحرية وأقف أمام الجميع في سبيل تحقيق طموحي من أجل مستقبلي». ولأنها أصبحت أمام المجتمع إنساناً آخر، هو أطلال إنسان وأنقاض إنسان، باتت تُنصح بالسفر لتخرج من اكتئابها. لكن فرح عادت إلى قسم الفلسفة في الجامعة، مزقت التقارير الطبية التي تثبت أن زوجها كان يشكو من سرطان البروستات، وتهدر أعماقها: «لن يهزمني سامي وهو بين التراب! بل لن يهزمني بعد الآن رجل على وجه الأرض! كم هم بارعون الرجال في نسج أكاذيبهم وارتدائها صدقاًً أمام الآخرين».

بسذاجة المفاجآت والمصادفات، تطوي الرواية الزمن، فإذا بفرح قد أعدت أطروحة الدكتوراه، وغادرت من صنعاء إلى القاهرة يوم عيد ميلادها، حيث أعد لها العاشق حازم قالب الكيك، لكنها لم تكن قادرة على تكرار قصتها مع هشام: «كان الأستاذ وهي الطالبة، الآن هي الأستاذة وحازم الطالب الذي درّسته وصار معيداًً». تحصّن فرح موقفها هذا بما تقرأه في رواية (عازفة البيانو) لألفريدة يلينيك التي حازت نوبل عام 2004، حيث العلاقة بين بطلة الرواية وتلميذها. أما في القاهرة فها هو هشام ينبثق في لجنة مناقشة أطروحة الدكتوراه، وبعد صفحات عن الأطروحة (جذور الفلسفة الإغريقية والإشكاليات التأسيسية لها، مما تسميه فرح ثورة الحوار السقراطي…) يلتقي العاشقان، ويعلل هشام اختفاءه من جديد، وتنتهي الرواية كما بدأت بالمفكرة الزرقاء بين يدي فرح.

ولعل الرواية، سواء بذلك أم بلعبة المفكرات كلها، أم برسم بعض الشخصيات، أن تلوح بوعدها، لكن اللعب بالمفاجآت وبالزمن كامناً من الوعد، وإن يكن حاتم الصكر وسواه قد احتفوا به على الغلاف الأخير للرواية.

اترك رد

اكتشاف المزيد من عناوين ثقافية

اشترك الآن للاستمرار في القراءة والحصول على حق الوصول إلى الأرشيف الكامل.

Continue reading