حضور الذات في محمول جمالي – الدكتورة آمنة النصيري

في بدايات تشكل الخطاب البصري لدى الفنانة اليمنية ( ريمة قاسم ) اتجهت ككثير من المصورات العربيات إلى التعبير من خلال وعي وخبرة يدوران حول عالم صغير محدود، شديد الذاتية، تمثلت فيه معاناتها وكيانها الأنثوي في مجتمع يثقل على النساء بمحاذيره وشروطه القاسية.
لم تكن خطوط الفنانة حينها وألوانها تفصح عن فضاءآت أخرى غير الوحدة، والعكف، والكآبة، مع اندياح صراعات الروح المتعبة، لذا ظلت اللوحات لسنوات تعبر عن متواليات ذات المحيط النفسي.
وبمرور الوقت ومع تنامي تجربة ( ريمة ) ، وخروجها إلى العالم، وبالتالي التفلت مادياً ومعنوياً من دوائر العزلة، انطلقت مرة واحدة باتجاه مستوى جديد من التعبير.. لم تتنكر فيه للرؤية الذاتية وللهموم الإنسانية، بل عملت على تكثيف القيم النفسية، وانفتحت على تضاعيف الروح وتحولت تقنيتها إلى المساحات والألوان المغايرة.. كما أنها ركزت في معالجتها البصرية على اختيار الحلول التي تجمع بين جموح وفنتازيا السريالية، وبين اختزالات التجريد الذي جنبها الإسقاطات المباشرة والنزوع التشخيصي – التمثيلي … وهذه اللغة مكنتها من احتواء الوجدان الإنساني بمعناه الشامل.ونقلتها من التراكيب اللونية القاتمة إلى مدارات مضيئة – شفافة تفتح نافذة للحلم.
في تجاربها تسعى التشكيلية ( ريمة قاسم ) إلى الغوص والنفاذ في عمق الداخل البشري تتلمس دهاليز النفس الإنسانية علهّا تصل إلى مختلف التبدلات والانفعالات التي تطرأ دونما توقف على ذلك الداخل..
عندما تشرع ( ريمة ) في التسلل الى الصوالم الجوانية المجهولة، تحرض كل طاقات الخيال بغرض تحقيق إنزياحات بصرية – مجازية توازي اللغة الطبيعية إذ تنفي باستمرار أية إحالات أو إشارات زمكانية، لكي تفسح حيز اللوحة للمُتخيل … الذي تُحيله أدواتها إلى بناءآت وهمية تفيض بالصور والأشكال المحيرة .. التي تصبح كيانات مستقلة محتملة حتى وان كان على سطح اللوحة ذلك أن هذا الحيز الجديد الذي تتوسله يتنزه كلياً عن حضور الواقع الفعلي، لأنه يتبلور وفق محمولات ذهنية – سيكولوجية وجمالية مصدرها ذات الفنانة فحسب.
وهي تعتمد في إنشاء الصورة على الإحساسات المعنوية بالشكل والتي تتداعى في تلقائية بالغة تبعاً للحالة الشعورية التي تعيشها أثناء إنتاج النص، ولذا فإن تفاصيل الصورة تنساب وتتوالد وتتعدد فيما بينها دون أن تترك شعوراً عند المتلقي بوجود بناء أو إعداد مسبق.. فهي كأنما تعيش ولادتها الأولى في كل مرة نتأمل فيها الشكل..
إن تكريس الفنانة المحتوى النفسي في أعمالها لم يجعلها تنحاز تماماً إلى تجريد لغتها حيث أن المدهش في معظم نتاجها هو كيف أنها تمكنت من تأليف بناءآت وكتل وأشكال تمثلت بواستطها العوالم الإنسانية الداخلية ونجحت في أن توحي بحيويتها وتواجدها الذي اتخذ هيئة جمالية خلاقة…
في كل التجارب المنتجة لا يمكن أن لا نشعر بأن صاحبتها فنانة – أنثى ، إذ أن حساسية الفنانة المرهفة بالحياة، وكياناتها الأنثوية وحضورها المادي، يرتد إلى ذاتها المبدعة ليستحيل رموزاً ودلالات ذات علاقة بالولادة والبدايات الغامضة للحياة، تؤكد هذه الإحاءات من خلال الأشكال الشبيهة بالكائنات الحنينية السابحة في محيط كثيراً ما يأخذ صورة الرحم. كما تتكرر الكتل والحركات والخطوط المستديرة والبيضاوية لتعمق الرؤى الأنثوية للوجود البشري. والتي استبدلت غياب الجسد من لوحات ( ريمة قاسم ) بحضور النفس والوجدان.
ولان المحمل التشكيلي هو مجال رهان الفنانة على تأكيد ذاتها فإنها تأكد كينونة المعاني المجردة بالغة اللونية التي تشتغل على تطويرها بصبر وعناد مدهشين، ومن خلال شفافية اللون تختلق أشكالها وتتقاطع على خلفيات مضيئة يسودها الصفاء، كأنما تحاول الفنانة أن تعلن قدرة اللوحة على احتواء تناقضات الحياة وتحويلها إلى ممكنات، فانفعالات الداخل ومعاناة الروح لا تنفي هارمونية العلاقة بين الكائن والمحيط.. وتسامي النفس إلى مستويات يتحقق فيها الانسجام.

اترك رد

اكتشاف المزيد من عناوين ثقافية

اشترك الآن للاستمرار في القراءة والحصول على حق الوصول إلى الأرشيف الكامل.

Continue reading