هوامش على مفكرة ليالي الشعر في الجزائر
ديسمبر 2007
عبدالرزاق الربيعي
للسفر فوائد كثيرة , خمس منها أجملها الإمام الشافعي بقوله :
تغرب عن الاوطان في طلب العلا وسافر ففي الاسفار خمس فوائد
تفريج هم واكتساب معيشة وعلم وآداب وصحــــــــبة ماجد
إلا إنني لست من محبيه , ربما لأنني قليل الصبر , والسفر يكشف بشكل صارخ هذا العيب ويضعني بمواجهته !! فالسفر يحتاج الى سعة بال وتحمل الإنتظار في المحطات والمطارات والموانيء , وتأجيل العادات اليومية القريبة من النفس التي إعتدنا على ممارستها حتى صارت جزءا من طقوس روحية نحرص على تأديتها !!
كما إن كثرة الإنزعاجات التي يواجهها العربي بشكل عام في المطارات تجعل تجنب السفر أكرم للمرء خصوصا إذا كان عراقيا مثلي !!
ولأنني أنفر من السفر فقرار خروجي من بلدي العراق أثار دهشة أصدقائي الذين يعرفون شدة التصاقي بالمكان وكرهي مفارقته !!!رغم إن ديننا حث على السفر
وقد ورد في القرآن الكريم ” وَمَن يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللّهِ يَجِدْ فِي الأَرْضِ مُرَاغَماً كَثِيراً وَسَعَةً” [النساء : 100] هذه (السعة) – نعمة نفرط بها أحيانا حين نرى عجلاتنا مشدودة الى رصيف الروتين اليومي وحين أتلقى دعوة أحاول أن أبتكر أي سبب للإعتذار ,فإذا وجدت نفسي مضطرا
للسفر بعمل فإنني أتوتر كثيرا وأكون ليلة السفر مستفز الأعصاب , لكنني حين أصل البلد الذي أتوجه اليه وأبدأ بجمع فوائد السفر الوم نفسي كثيرا على تجنبي السفر !!
كما حصل لي الأسبوع الماضي عندما تلقيت دعوة من المكتبة الوطنية الجزائرية للمشاركة في أمسية شعرية , فما أن وصلت الجزائر حتى نسيت متاعب السفر الذي إستغرق يوما كاملا مررت خلاله بأبوظبي والأردن ودمشق في رحلة مكوكية !!
ساهم في تعقيداتها خط الطيران الذي رسم للرحلة فهذا البلد العربي لم تنصف جماله وسائل الإعلام التي لا يرد بها ذكر الجزائر الا
في نشرات الأخبار السياسية !!
, فالجزائر ليست فقط تاريخا نضاليا دام 130 سنة من أجل الإستقلال من الإستعمار الفرنسي ,وهو تاريخ مشرف , وليست ساحة لأحداث وجد بها المتطرفون ضالتهم بها ردحا من الزمن !!وليست خبرا سياسيا يتصدر النشرات , إنها ثقافة وحضارة وطبيعة ساحرة وعمران وبذلك فهي تتمتع بالكثير من مقومات الجمال التي من شأنها أن تجعلها واجهة سياحية هذا الجانب لا يمكن لي معرفته لولا السفر اليها وملامسة هذه الجماليات والكشف عنها وبذلك صدق قول الشاعر :
سافر تجـد عوضـاً عمـن تفارقـه وانصب فإن لذيذ العيش في النصـب
إني رأيـت وقـوف المـاء يفسـده إن ساح طاب وإن لم يجر لم يطـب
والأسد لولا فراق الأرض ما افترست والسهم لولا فراق القوس لم يصـب
والشمس لو وقفت في الفلك دائمـة ً لملها الناس من عجـم ومـن عـرب
والتبر كالترب ملقـى فـي أماكنـه والعود في أرضه نوع من الحطـب
* * *
لأن الطريق طويل والمحطات كثيرة حملت معي زوادة متكونة من رواية “التلصص ” لصنع الله إبراهيم ومجموعة “البار الأمريكي “للصديق وارد بدر السالم وهي المجموعة القصصية الفائزة بالجائزة الأولى لمسابقة دبي الثقافية , ودفتر صغير أدون عليه بعض الخواطر والمقاطع الشعرية التي يمكن ان تداهمني في طريق الرحلة الطويلة التي زادت عن 24 ساعة طيران مررت خلالها بمطار ابو ظبي ومطار عالية حيث أمضيت 11 ساعة ترانزيت ومطار دمشق حيث امضيت 4 ساعات ترانزيت
وسط ضجيج الترانزيت
تتخطى
الوجوه الزوجية
وجهي
تتخطاني الحقائب المنفوخة
والتأشيرات المحناة
بالأحبار الصينية
تحسست بوابة العالم
تأكدت إنني لم أجز عشب حديقتي هذا الصباح
لأن الطائرة
كانت طائرة
ومكبرات الصوت
تردد على مسامع الغيم
نداء الإقلاع الأخير
* * *
في مطار دمشق وجدت نفسي وجها لوجه في قاعة الضيوف مع الشاعر الكبير عبدالرزاق عبدالواحد المدعو للأمسية نفسها ثم إنضم الينا الشاعر اليمني محي الدين جرمة الذي وجدته تائها في أروقة مطار دمشق لنصبح ثلاثة فيما سبقنا الصديق الشاعر منذر عبدالحر المقيم بدمشق الى الجزائر , سالت جرمة عن رفيقته في الرحلة الشاعرة اليمنية سوسن العريقي فاجابني بأسف إنها إكتشفت حين وصلت مطار صنعاء نسيانها لجواز سفرها فتخلفت عن الرحلة ,فدونت في مفكرتي :
إبتدأ رقص الكلمات
في حلبة المليون زهرة
تشابكت الحروف
رقصت الأنهار
والنجوم
والكواكب
لكن البيت
ظل يفتقر تفعيلة جنوبية
بين الحلبة وبينها
مطارات
وكواكب
وأنهار
وشرطة حدود
بيننا وبينها
ذاكرة مثقوبة
سقط منها جواز السفر
أكان على سندريلا اليمانية
أن تنسى الحكمة في صنعاء
فتجف في حلبة القصيدة
حديقة السوسن؟
لكنها فاجأتنا بوصولها الجزائر حين التقينا بها في مقر إقامتنا بفندق (الأوراسي ) حيث قالت غنها عادت للبيت وحملت جواز سفرها ثم بحثت عن طريق آخر يوصلها للجزائر فطارت الى روما ومن هناك التحقت بنا قلت :هذا العناد له جذور تاريخية , فسوسن حفيدة بلقيس والملكة اليمنية أروى >
* * *
في قاعة الفندق فوجئت بوجود الصديق الكاتب عبدالرحمن مجيد الربيعي والدكتور عبدالله إبراهيم والكاتبة هدية حسين والكاتبة ميسلون هادي بالإضافة الى كاتبات عربيات عديدات من بينهن : رزان المغربي وربيعة ريحان ود.عزة بدر ود.عفاف عبدالمعطي والكاتبة سميحة خريس والكاتبة أحلام منصور والدكتور صلاح صالح وعلمت منهم أن مدعويين من قبل المكتبة الوطنية الجزائرية التي دعتنا أيضا للمشاركة في الملتقى العربي : سرديات الكاتبة العربية وأن أمسيتنا تقام ضمن فعاليات الملتقى الذي ضم الى جانب جلسات الملتقى عرضين مسرحيين هما (إسمي
جميلة ) الذي إستقى مادته من حياة المناضلة الجزائرية جميلة بوحيرد وعرض (هابيل وهابيل ) نص لحميدة عياشي وإخراج عزالدين عباز بالإضافة الى حفلة غنائية للفنانة اللبنانية /العراقية سحر طه
ولم تقتصر الفعاليات على هذه الأنشطة فقد كانت تقام على مائدة العشاء يوميا جلسة ثقافية فنية يديرها الدكتور أمين الزاوي مدير المكتبة يمتزج بها الشعر مع السرد مع الموسيقى والغناء بشكل عفوي وتلقائي دون ترتيب مسبق فكانت سهرات متنوعة جميلة ظلت تفاصيلها محفورة في ذاكرتنا
* * *
كنت قد وضعت في حسباني انني سأواجه مشكلة عويصة عند زيارتي لبلد المليون شهيد ,طالما سمعت الكثير عنها , تتمثل في وسيلة التخاطب في الجزائر لكونها من الدول التي تعاني من مشكلة ازدوجية اللغة وإنحسار التعامل باللغة العربية أمام مد ثقافي لغوي فرنسي ,كسائر بلدان المغرب العربي كونها خضعت للاستعمار الفرنسي على مدى 130 سنة وتعد اللغة واحدة من الآثار الثقيلة التي خلفها وراءه حيث
عانى الشعب الجزائري من سيطرة اللغة الفرنسية على مفاصل الحياة كلها أمام إنحسار التعامل باللغة العربية في المدارس ومؤسسات الدولة فنشأ جيل منفصل عن اللغة العربية التي لم يبق منها سوى خيط رفيع يربطه بالدين والهوية العربية , لكن هذا الخيط لم ينقطع لأنه كان متينا بفعل قوة إنتماء الشخصية الجزائرية الى العرب كهوية وتاريخ وحضارة .وقبل ايام من توجهي للجزائر التقيت بالمفكر الجزائري الدكتور أحمد بن نعمان حيث فصل في خطورة هذا الموضوع حين حدثني بحماس عن هذه المشكلة وقدم إقتراحات عملية لإيجاد حلول لها لكنني حين وصلت الجزائر إذ وجدت المشكلة أخف وطأة مما توقعت حيث أن الجميع ومن مختلف الأجيال يسعى بجدية الى تجاوز هذه المشكلة ,بل إن الذي يجد صعوبة في التواصل عبر اللغة العربية يشعر بالخجل ويعاني من تأنيب الضمير كما حصل لي مرة حين طلبت من أحد الباعة أن يجيبني عن سؤال وجهته له يتعلق بالوصول الى مكان ما , باللغة العربية , فنظر الي نظرة منكسرة يخالطها الحزن والأسف ثم حاولت إعانته متعاطفا ومخففا عليه وطأة الألم وهذا ما شجعه على التكلم بالعربية ولو بحروف مكسرة .
وقد علمت ان الحكومة الجزائرية بذلت جهودا حثيثة من أجل معالجة هذه المشكلة من خلال إعداد برامج عديدة حيث جعلت المراسلات الإدارية باللغة العربية وكذلك التحدث بوسائل الإعلام لتساعد الشباب الجزائري على تقوية ذخيرته اللغوية العربية ومحاولة إستمرارية التعامل بها في كل مفاصل الحياة بحيث إنها تمشي بالتوازي مع اللغات الأخرى من باب مد جسور التواصل الحضاري مع الآخرمع الإحتفاظ باللغة الأم .
* * *
كانت سماء الجزائر ممطرة والجو باردا ورغم إننا حسبنا لهذا الف حساب لكننا فوجئنا بكثافة المطر, ومع ذلك خرجنا الى الشوارع لنغتسل بما جادت السماء من بروق وغيوم كنا قد شاهدنا كثافتها ونحن نسبح في بحار الغيوم والظلام المحتشد وراء نافذة الطائرة :
تحت كعب الدهشة
الأعمق من نافذة
والأسن من حلم
تتجمهر الغيوم الجديدة
بثيابها البيض
ملوحة
للطائر الذي أفرد جناحيه للسماء
….
في السقف السفلي
يتجمهر الهواء
حيث لا مكان للحقول
والوردة
لا مطبات في طريق القبل
عن كاهلي
أنفض غبار الغيم
يحط الطائر على راحتي
يعود الغيم الى عشه
ويغلق النهار النافذة
* * *
رغم التحوطات الأمنية في باب فندق ( الأوراسي ) الذي أقمنا به , وهو إجراء صار طبيعيا في الكثير من العواصم العربية حتى الآمنة من شرور الإرهاب والتطرف الا إننا لم نشهد أي شيء يذكرنا بحقبة مرت بها الجزائر وعانت خلالها من هجمات المتطرفين !! كان كل شيء يسير هادئا ولا يشير الى تلك الأيام التي كنا نطالع خلالها أخبارا حول تعرض المواطنين والعاملين في المؤسسات الحكومية والأدباء والفنانين راح ضحيتها العشرات الذين سقطوا ضحايا التطرف الديني
لكننا ونحن ننزل من سلم طويل يوصلنا الى شارع العربي بن مهيدي شاهدنا لوحة كتبت بالمرمر نقشت عليها كلمات تقول” هنا سقط شركت فرحات صحفي بجريدة المجاهد يوم 7 جوان 1994 شهيد الديمقراطية والحرية تحت طلقات الإرهابيين الإسلامويين ” قرأنا على روحه الفاتحة والتقط الشاعر منذر عبدالحر صورة وواصلنا طريقنا بصمت ..مستدعين صور العديد من الإعلاميين العراقيين الذين سقطوا شهداء الحقيقة ..تذكرنا اطوار بهجت وعبدالرزاق النعاس ورعد مطشر مسلم وأحمد آدم وووووقلت :لو كتبنا في كل زاوية سقط بها شهيد عراقي لافتة كهذه , فستمتليء شوارع بغداد باللافتات !!!
* * *
تذكرت المخرج الجزائري عبد القادر علولة قلت ربما قتل في أحد هذه الأماكن , في هذا الشارع أو ذاك أو في تلك الزاوية !!
يقول فارس الماشطة في مقال نشر في كتابات مؤخرا “عندما ألقي القبض على قاتل شهيد المسرح الجزائري والعالمي علولة ، سئل القاتل المتطرف ذو الثمانية عشر سنة : هل تعرف من أنت قاتله ؟ فكان الجواب : قيل لي إنه كافر وإنه هو الذي كتب مسرحية ملحدة وإسمها ” سي محمد خذ حقيبتك وإرحل ” وكيف ذلك وهل يرحل الأسلام من بلادنا .. لذلك قتلته !!!
ويعلق الماشطة “المسرحية أولا للروائي الجزائري كاتب ياسين وليست للشهيد علولة ، ثم أن ثيمة المسرحية ومغزاها يقول ياسي محمد ( وهو لقب شائع يطلق على أي مواطن جزائري ) خذ حقيبتك من مهجرك في فرنسا وعد الى بلدك الجزائر لتساهم في بنائها ومن سريالية وعبثية الحالة أن الشهيد علولة كان قد أسس وقتها (بداية التسعينات )جمعية لمساعدة مرضى الكلى ، وكانت إحدى المستفيدات منها هي أم القاتل ”
وهكذا ذهب علولة ضحية سوء التفسير .
* * *
بدأ عقد الضيوف ينفرط بعد إنتهاء ندوة السرديات وكان الدكتور عبدالله إبراهيم أول المغادرين أعقبته هدية حسين وميسلون هادي وسحر طه وبدأت طاولة الطعام تصغر في كل وجبة حيث يقل المحيطون بها ,بينما أجل الكاتب المبدع عبدالرحمن مجيد الربيعي عودته الى تونس من أجل حضور أمسيتنا الشعرية , وكان أقسى وداع وداعنا للكاتبة المغربية ربيعة ريحان التي كانت تملأ المكان مرحا الى جانب الكاتبة الليبية رزان المغربي والباحث السوري الدكتور صلاح صالح وحين رأيت سوسن حزينة عند وداعها لربيعة قلت لها :لننتقل الى جهة البحر ومن أعلى الفندق شاهدنا خطى ربيعة الأخيرة صحنا باسمها ومن العجيب رغم الإرتفاع الشاهق الذي كنا عليه رفعت رأسها فجاة ولوحت لنا لنا بيديها وكانت هذه التلويحة كافية لإغراق عيني سوسن بالدموع فدونت:
حبي الأبيض المتوسط
يشهد عليه البحر
والصبح في تشققه
وخطى الربيع المتآكلة
على الإسفلت الأخير
* * *
في يوم قراءاتنا الشعرية طلبت منا الجهة المنظمة أن نتهيأ للتوجه الى المكتبة الوطنية الجزائرية مقر الأمسية بعد الغداء مباشرة وتلك أسلم طريقة لضمان الوصول المبكر للمكان لأن الطريق المؤدي الى المكتبة سيكون مزدحما ساعات المساء
وهذا ملا حظناه في الطريق الذي دام حوالي ساعة , حين وصلنا وجدنا الجمهور قد سبقنا في الوصول وكذلك مندوبو الصحف ووسائل الإعلام المسموعة والمرئية التي حضرت الأمسية جنبا الى جنب مع الهم العراقيّ !!!
قبل بدء الأمسية عزف السلام الجمهوري العراقي واليمني والجزائري , أعادني السلام الجمهوري اليمني الى أيام الطوابير الصباحية في صنعاء عندما كنا نفتتح يومنا الدراسي بالنشيد الوطني اليمني حيث يردد الطلاب:
رددي أيتها الدنيا نشيدي
ردديه وأعيدي وأعيدي
واذكري في فرحتي كل شهيد
وامنحيه حللا من ضوء عيدي
رددي أيتها الدنيا نشيدي
ثم القى الدكتور أمين الزاوي المدير العام للمكتبة الوطنيّة الجزائريّة كلمة احتفالية وصفت بانها قصيدة , جاء فيها : أعتذر لك يا سوسن العريقي , ويا محيي الدين جرمة , ويا عبد الرزاق الربيعي , ويا منذر الحر , أعتذر لكم , اذ باسمكم وباسمي وفي هذه الليلة العاشرة من الشعر العربي أوجّه هذه الرسالة المباشرة الي الشاعر العربي الكبير عبد الرزاق عبد الواحد , وها نحن في الليلة العاشرة نتسلّق نجمة أخري , حلما آخر , عفوا أيّها الشاعر , ان أنا استلفت من اللغة كلمة غالية فأسكب فيها لساني اليك فأناديك : يا أستاذ الجيلين بل أكثر , أيها الشاعر , يا أبا خالد : يا عبد الرزاق عبد الواحد , هاهم أيها الشاعر , ها هم من تتلمذوا عليك , جاؤوا ليستمعوا اليك , بصلوة الانصات ….. وجاؤوا خجلا , أعرف , كي يسمعوك ما تصنع التلمذة , جاؤوك من العراق : عبد الرزاق الربيعي , حاملا منفاه وممشاه , منذر الحر , مفتشا في اللغة طريقا من الشام الي بغداد توقا الي الأجمل جاؤوك أيضا من بلاد سبأ , من مأرب الشعر , بلاد أمريء القيس , والبردوني , والمقالح , جاؤوك : سوسن العريقي , شاعرة اليمن ترفل في مجرّاتها , وفي خجلها المعتّق , ومحيي الدين جرمة , سندباد الحداثة , صياد وحوش اللغة الأليفة , , جاؤوك في هذه الليلة العاشرة من ليالي الشعر العربي , جاؤوك ليقرؤوك شعرهم النازل من همس الملكة سبأ الي سليمان حيث العشق والله , همس بكل لغات الطير والريح والمطر والصحراء والحدس , أعرف أيها الشاعر , يا أبا خالد , أعرف أن بغداد حزينة , هذه الأيام , ولكن مدينة من سلالة بغداد لها كبوة وفقط , ستقوم بغداد لتعيد أبا نواس الي شارعه , الي صهبائه , وتعيد ماء دجلة راكعا عند قدميه , ستعيد المتنبي الي سوقه المليء بالحكمة ومفاجآت الكتب , سوق الوراقين , أيها الشاعر يا أبا خالد , ستعيد بغداد الحكمة الي بيت الحكمة , وتعيد السياب الساكن في نحافته العظيمة ولغته الفريدة , تعيده الي البصرة التي هربت من البصرة , تعيده الينا في المغارب والمشارق أيها الشاعر , أشعارك ليست أكفانا , رغم أننا في مواسم التعب , أشعارك أيها المتعب , أحلامنا التي عنها لا نتنازل , أزيد من نصف قرن من شهد الشعر ولا تزال اللعنة الجميلة تلاحقك , تسكنك , تضرب الغيمة جذورها فيك , فتخرج رعدا ووعدا , وبريقا وسلاما , قصيدة تراوح ما بين جلال المعني , ومخبوءات الصورة , قدام ملكوت اللغة فاتنة \ فتنة , أنت جلجامش أنت الذي رأي , أيها الشاعر , يا أبا خالد , في طريقك الي الله , أيها الشاعر , العب بالبرق كي يحترق الأسي , كي تتكوّر القصيدة عراقا بين يديك , يا شاعر المكابدة , يا عبد الرزاق عبد الواحد , في بساطة مدهشة , كنت تتنازل عن الخرج لتخاطبنا بالقلب , حديث العمق , دون جسور قد تنحني فتنكسر , لا جسور بيننا , أنت هنا في القلب , يا أبا خالد , أيها الشاعر , أعرف أن الصواريخ التي تضرب بغداد لا تبلغ الحلم في قصيدتك , أعرف أن هذه الصواريخ , وهذا المنفي لن يريحا الطفل فيك , لن يسكتا للقصب لحنا وموسيقي , الأحلام أكبر من المخاوف , أيها الشاعر , أن النفس تري من الجمال بقدر ما تكون هي نفسها جميلة , هكذا يقول افلاطون , وأنت الطيّب , يا ابن سومر وأكد وبابل , يا عبد الرزاق عبد الواحد , هنيئا لك هذا المجد الشعري الذي لا يؤتاه في هذه الأيام الا كلّ ذي حظ عظيم , هكذا عبّر لك وعنك يوسف سامي اليوسف ,أيها الشاعر , يا أبا خالد , بعد الجواهري أنت , الواقف بين التقليد العظيم , وبوابات الحداثة غير الخاوية , يا أبا خالد .
ثم قرأ عبد الرزاق عبد الواحد نصين موجعين من بينهما (صبر أيوب ) التي يقول في مطلعها :
قالوا وظلِّ … ولم تشعرْ به الابلُ
يمشي وحاديه يحدو ,,, وهو يحتملُ
ومخرزُ الموت في جنبيه ينتشلُ
حتى أناخِ بباب الدار اذ وصلوا
وعندما أبصروا فيض الدما جفلوا
صبر العراق صبورٌ أنت يا جملُ
أعقبته الشاعرة اليمنية سوسن العريقي التي قدمت عدة نصوص من بينها قصيدتها (إكتمال ) التي تناولت بها فكرة فلسفية بجمل شعرية بسيطة وعفوية تخلو من التعقيد كاشفة عن موهبة رائعة عززتها باكثر من إصدار , وبعدها قرأت أربعة نصوص مدافة بالجرح العراقي ثم قرأ الشاعر اليمني محيي الدين جرمة قصائد نثر واحدة منها كانت حول المتنبي , وقرأ الشاعر المبدع منذر عبدالحر ثلاث قصائد منتقاة من تجربته الثرية كونه واحدا من شعراء الجيل الثمانيني في العراق أو جيل الحرب ,ثم عاد الى المنصة الشاعر الكبير عبد الرزاق عبد الواحد ليختتم الأمسية بعدة قصائد مبللة بدموعه كما ودعنا الجزائر بالدموع في اليوم التالي .