لا خيرَ في معْرفةٍ لا تنْتهي في الفراغ

 محمد أنوار محمد

 

-1-
قَدَري رأيتهُ في عين الشرشور
أن أكتب كبريت الكلام
أن أستوعب الظلام كمنشفة بيضاء شاسعة
أن ألْتبِس على حواسِّ الأرض
أن أكونَ الحُوشيَّ.
-2-
قدَري رأيتهُ في عين الشرشور
أن أُقدِّر الحيِّزَ الذي لا حيِّز لهُ
أن أصلّي داخل الحجر
و الحجر يقظا بداخلي يُصلي
أن أنصت إلى أغصان الفراغ.
-3-
ذاتَ ظهيرةٍ، أثناء إنصاتي، سمعتُ هاتفاً: نَسلُكم قمحٌ أخبزُه في الجحيم، لوّنتكُم لأعرفَكم يا أخلاطَ الطين، و فرّقتكُم لأجمعكُم في ورقة التّوت البرّيّ الشّائكة.
-4-
يذهبونَ إلى البحر و ينظرونَ إلى الموج، و يضعون أكفَّهم تحت أحْناكهم، و يُدخنون السّجائر، و يتسوَّلون الكلمات المالحة. بينما يأتي البحر إليّ، و بعد إذني، أتركُه يقول ما يريدُ، و لا يكون إلا ما أريدُ.
-5-
بنظرةٍ شزراءَ ينظرُ الشعر إلى الشّعراء.
-6-
أسخر من الفُصول التي تحترم لُغتها.
-7-
شعرُ الحالات القصوى، هذا الشّعر، الذي أثقُ فيه، و هذا السّر.
لم يوجد شاعر حقيقيّ، إلا و تخرّج من مدرسة الحالات القصوى. ليسَ القصدُ أن تتعبَ: ليس مبدعاً من تُنهكُه الكتابة. ليس القصدُ أن تكونَ واقفا دائماً على الحافة. القصدُ أن لا تقف فوقَ التلة، و تكتفي بالنظر إلى شجرة الزيتون المخضرّة، و الصعوة بين أغصانها. القصدُ أن تتّجهَ إلى الشّجرة، و تفتحَ بابا في جذعها، و تدخُلَ إلى ما وراء قشرتها، و تتجولَ في مساربها. هكذا يجب أن تتجاوز ظاهرَ الأشياء. كلُّ تجاوزٍ حالةٌ قُصوى. و كلّ رغبةٍ في التجاوز ملمحُ حالةٍ قصوى. نسيجَ نفسه أو جُحيْشَ نفسه، لا يهمُّ. المهمُّ: الحالةُ القُصوى.
-8-
الصُّرحاءُ نادرون كواحات الصّحراء.
-9-
عن ” لماذا تكتب؟”
يسْتحضرونَ العنب، و حقيقتُهم في حبّ الملوك.
من لا يضع قناعاً يُعلنُ صَراحَ بَراحَ “ليعترفَ بي الآخرون”،” لأخرجَ من الهامش” ” لأصبحَ مُهما “.
أمّا أنا، بدون قناعٍ، لا أعترفُ بي. و منْ لا يعترفُ بنفسه، لا ينتظر أن يُعترفَ به.
لقدْ صرفتُ النظر عني. سيكون يوماً عظيماًَ يومَ أدخلُ في الفراغ.
-10-
لا أعترفُ بي، و لا أعرفُني
ادفعْ بنفسكَ إلى الأقصى..
-11-
البرازُ ما يكونُ كلّ يوم.
أمّا الشّعرُ فكبريتٌ.
أمّا الشّعرُ فياقوتٌ في ذاتٍ لا تطفو
أمّا التي تطفو فبصاقُ القمرْ.
-12-
لقد تراجَع الشّعرُ، و كثُر المصابون بفقر الشّعر.
-13-
تعلّمتُ أن أنظرَ إلى الشّمس حتى أعْمى، و من عماي تعلمتُ أن أضيءَ.
-14-
و تعلمتُ أن أجعلَ الحياةَ لا تتوقع أقوالي و أفعالي..رغْم أني كلما تقدمتُ في السير، أجدُ شيوخاً ينتظرون ” لقد مررنا من هناكَ ” ” هذا معروف ” ” كالمعتاد “…
ربما، لكني دائماً أنجحُ في إفشال خُططي.
هلْ يمكنُ أن تتوقّع الحياةُ بعد هذا أقوالي و أفعالي؟
…الجحيمُ هو أنا يا جُّونْ.
و لقد كرّستُ حَياتي لمحاربتي.
-15-
الحكمةُ، أكثرُ ما أكرهُ بعد الجنون
و أكثرُ ما أكرهُ، أكثرُ ما أحبّ.
-16-
الناسُ، ما أسْهلهم. بائعُ الجرائدِ ينصحُني بقراءة صحيفةٍ يقرأها الناس كثيراً. أدفعُ له درهمين و نصف، أنصحُه بدوري أن يتصدّق بها على أحدِهم ليقرأها بدلي. أعرفُ أنه لن يفعل. في الغد أعيدُ نفس الشّيء، و أقدّم له نفس النصيحة. أسمع العينَ اليُسرى تقول للعينِ اليمنى، ” إنّ صاحبنا جُنّ و حقّ عليه الحجْر “. ” يا عيوني، لأمتعكن ” . بعد أيام، أصبح البائعُ يقدم لي الجرائد مجاناً .
أخرجُ مُنتصراً في لعبة النّصائح.
في الحقيقة، أجدُ نفْسي غالباً في موقع بائع الجرائد. مع فارقٍ بسيط : أعرفُ استراتيجيةَ الدّرهمين و نصف.
م الفرقُ بين الاستراتيجي و الشاعر؟
…فرقٌ بسيطٌ جداً، ساحةُ المعركة.
-17-
أصغرُ منْ أن نكبرَ
و أكبرُ من أنْ نصغرَ
تلك المفارقةُ.
-18-
تعلّمتُ أن راحةَ البال آخر ما يجب أن أفكّر فيه ما دُمتُ شاعرا
عَدُوي لا يموتُ، أراه منتصبا أمامي، إنه أنا في كلّ وقت.
-19-
أكتبُ، لأني أريدُ أن أسخر
بكلّ بساطةٍ، هدفي الأسمى
أن أسخرَ من الزمن و الحياة و الموت.
-20-
المعرفةُ. آه، المعرفةُ.
اسمعْ، لا خيرَ في معرفةٍ لا تنتهي في الفراغ.
-21-
لا أرى إلاّ الضياع، و أتسلّحُ بالسّخرية.
-22-
عندَما أنظرُ
لا أرى إلا مكْتبةً غيرَ مُنظمةٍ
في غُرفةٍ غيرِ مُنظمةٍ
لشخصٍ غير مُنظّم
هذا هو العالَمُ.
-23-
أحياناً، أعودُ إلى الجدّية.
و لكن، أيةُ جدّيةٍ تنمو في غابةٍ من العبث.
-24-
“الخطابُ الإنسانيّ المعاصر”
لا بد أن أضحكَ.
-25-
و ماذا استفادتْ البشريّة من الحكْمة ؟
… إلى الجحيمْ.
-26-
في الصّغر تعلمتُ أن أحترمَ جبل “بادو”
“بادو” مأوى الذئاب و الأرانب
” بادو” وكْرُ العصافير و الصقور
“بادو” المباركُ
” بادو ” الرجيمْ
-27-
و عرفتُ فيما بعد أنّ ” بادو” في لُغة الأمازيغ يعني الحافةَ
ما أشعرَهُم أجدادي: “بادو” الحافة
” بادو ” في الحالة القصوى.
-28-
أرى كلَّ شيءٍ بوُضوح
حتّى لم أعُد أفهم شيئاً
و بدا واضحاً تيَهاني
حتّى أصبحَ الناسُ يحاصرونني بالنّصائح.
و يجدُونني مستعصياً:
رأسي قاصح.
-29-
لأنّ الوقتَ من الحديد و الإسمنتِ
و الأمورُ مُرتبةٌ
و كلُّ الأحلام في الكانون
… فأنا الآن عدوّي.
-30-
أرى الخيبةَ في وُجوه من كانوا ينتظرونني في جبل العظمة.
كلما قرأتُ حياة عظيم، إلا وجدتُ فيه شيئاً مني..
هل أكونُ تبعثرتُ في هؤلاء العظماء
و لم يبق لي إلاّ الحنين.
-31-
أمامَ مرآةٍ سوداءَ
… في زمنٍ مُتشرّدٍ
…في شارعٍ أعمى
… أُنصتُ لجرسٍ
… ينبهني إلى أنني من أمّةٍ فاشلة.
-32-
نَظَرتُ في وَجْهي الحزين مرّتين ثُمَّ قُلْتُ منْ هُنا مرَّ المسيحْ..مرَّ الكلام ذاتَ ريحْ…مرَّ الرمادُ سافراً محملاً بذكريات النار و الحطبْ.. مرّ الجحيمُ باردا مطأطئا الجبهةَ من بؤس العربْ.. مرّ محمدٌ…أنا..أشيرُ للشّمس حزيناً في غضبْ.. ذُوبي… و ذَوّبي…أنا ثلجٌ .. سعادتي إذا الطّوفانَ صرتُ في دُنى هذا السغبْ. مرّ محمدٌ…لماذا الآنَ…كي أشاهدَ العراقَ في غير العراقِ..كي أرى لبنانَ بينَ مديتينِ… مَدْية الأفعى و مَدية النّفاقِ..كي أشاهدَ الفلسطينيّ في الجريدة الصّفراء.. منسيّاً على الزقاق..كي أشاهد الورَم في ورَمي.. أعودُ لي.. أعيد في وجهي النظرْ…و أسْتطيرُ..من هُنا مر المسيحْ.. مرّ كلامٌ ذات ريحْ.. و من هنا مرت شعوبُ هدرةٍ خاوية..حاملةً فوق الأكاف خطباً واهية..حالمة حافيةً واهمة ..مسّوا و صبّحوا عليها برغيف من لظى الزقّوم في مذلة حامية.. ها أممٌ تمضي وأخرى بعدها تأتي..و تمضي… ثم تأتي إثرها التي نأتْ لجولة ثانية..أهلاً و سهلاً في خريطة الهوان.. و ادخُلوا و عرّشوا..و خرّبوا و شرّدوا..مرّ محمدٌ..أنا..يعدو إلى حتف على الضّفاف… لا أريدُني الليلة أصبحَ الشهيدْ..هل من مزيدْ..فبصري اليوم حديدٌ في حديدْ.
-33-
من الوارد جدّا أن أخرُجَ عن الموضُوع، و أتبعْثرَ، و أتكوْثرَ: سماتُ الغُبار.
-34-
بعضُ البشر لا يحْتملونَ أن يتقايسَ الفردُ مع ذاته. فرد يشعرُ أن كل شيء يوجد في داخله. يبدو الأمر هكذا، تجدُ طريقاً و تتبعُها..فجأةً…تنتفضُ كبُركانٍ و تنْطلق في أرضٍ عذراء.
-35-
عندما أتحدّث عني، يبتعدون. و عندما أتحدّث عنهُم يقتربون. أما أنا، فعندما يتحدّثون عني، أبتعد، و عندما يتحدّثون عن أنفُسهم أقترب. لكل طريقتهُ في التعبير عن الأنانية.
-36-
بالشّعر أتقدم تدريجيّاً إلى حتفي..
-37-
ما كانَ عليّ أن أجالسَ الخطر. لقد زرَع في رأسي المجازفة. و ها أنا أنتظرُ لحظةً رمادية لأقفز فيها و لا أعود.
-38-
أكثرُ ما أفكّر فيه الآن، هو أن أقفَ، و أمسكَ بالعالم، و أطوّحَ به في الفراغ.
-39-
سأذهبُ إلى المعرفة، و أنام.
-40-
لا خيرَ في معْرفةٍ لا تنْتهي في الفراغ.

 

 

اترك رد

%d مدونون معجبون بهذه: