حوار مع الشاعرة الفلسطينية منى ظاهر

 

حاورها في القاهرة: أحمد السلامي

منى ظاهر شاعرة وكاتبة فلسطينيّة مقيمة في مدينة النّاصرة التي تقع ضمن المدن الفلسطينية المحتلة، أو ما اصطلح على تسميتها بمناطق 48 ، كانت في القاهرة للمشاركة في ورشة عمل حول الكتابة الإبداعية، حين أجرينا معها هذا الحوار..

*حضرتِ مؤخّرًا ورشة عمل حول الكتابة الأدبيّة. هل تعتقدين أنّ الإبداع قابل للتّداول في ورش كهذه؟
– الإبداع طبعًا غير قابلٍ للتّداول في ورشات أدبيّة. لكنّني أكيدة أنّه يكشفك على تجارب مبدعين ومبدعات آخرين وأخريات.
يعني الورشة الّتي شاركت بها في القاهرة، كانت أهميّتها بالتّعرّف على إبداع الآخَر وإنسانيّته، بكلّ ما فيها من مكنونات إيجابيّة وسلبيّة.
في هذا السّياق، تحضرني مشاركتي الأخيرة لمهرجان متنقّل جرى قبل شهور في شمال فرنسا، هناك تيّقنت أنّ الرّوح الّتي فينا هي المحرّكة، يعني لمجرّد أن تستمع مثلاً إلى شاعر ألبانيّ وأنت تدركُ أنّك لن تفقه شيئًا من لغته، وإذ بك تندهشُ وأنت تحاول أن تفسّر ما يقوله من خلال موسيقى حروفه ونبرات صوته وإحساسه المتراكم في قصيدته والّذي يكاد يخاطب داخليّتك من مشاعر وأحاسيس. وهو بالمثل لا يفهم العربيّة لكنّه منقاد لما فيها من موسيقى ونغمات تخاطبه وقريبة منه.
هذا مثال على أنّ اللّقاء بحدّ ذاته مهمّ ففيه التّواصل وانكشاف الآخَر عليك وانكشافك عليه بكلّ ما فيه وفيك من ثقافة وحضارة وإنسانيّة وإبداع.
مثل هذه اللّقاءات من شأنها أن تلغي الحدود الجغرافيّة والمكانيّة، ليكون اللّقاء ملتقى ثقافيّا وأدبيّا لهدف التّعميق والتّواصل.
*هل يشغلك المكان الّذي تقيمين فيه؟ هل أنت معنيّة بنقل هموم كلّيّة جماعيّة في أدبك.. أمّ أنّك معنيّة بالتّعبير عن ذاتك؟
– كلّنا نحمل أكثر من وجهٍ فينا.. فمسارح الوجه الواحد كثيرة.. وباختلاف الوقت والزّمن والتّجربة الحياتيّة، فإنّك قد ترى وجهك مختلفاً في المرآة الّتي تعكس ملامحه. ويراه الآخرون وجها مغايرًا أو مشابهًًا في مرآتهم..
ونصّك الشّعريّ/ الإبداعيّ هو كما ملامح وجهك..
 “لأنّّ الحياة سخيّة مع من يعيش أسطورته الشّخصيّة” – باولو كويللو.
ولأنّ رحلتي مع الإبداع هي أسطورتي الشّخصيّة، هي رحلتي المصيريّة، فإنّ الحياة ستكون سخيّة معي، بالرّغم من أنّ أسطورتي هي طريق شائك ومليء بالمصاعب والمعاناة الشّخصيّة والمجتمعيّة العامّة.
إنّها رسالتي الّتي أتلذّذ فيها بالحياة ونعلم أنّ اللّذة قمّتها تكون متصاحبة مع الألم. ولأنّ اللّذة هي المعنى فإنّ إبداعي هو معناي. وأنا أومن بأنّ الشّخص الّذي لا لذّة لديه هو شخص موشك على الانتحار.
إبداعي هو تجربتي الّتي أغوص فيها في أعماقي وأتواصل فيها مع ذاتي غير المجرّدة من وجودي الإنسانيّ والكونيّ وأواصل فيها كلّ التّجريب لتحقّق الشّعريّة في نصّي. وأنا أذهب إلى تجربتي في لاوعيي أوّلاً ووعيي ثانيًا ولا أغلق بابًا منها في كلّ المراحل منذ بدايتي الأولى في الكتابة.
لأنّ الإبداع هو فتح الأبواب لقوّة عليا خفيّة تَدْخُلُ المبدعَ أيّ تدخُلُني، ومنها تكون الرّاحة بعد الألم. علمًا بأنّ هذه القوّة تعملُ من خلالك وبواسطتك. والإبداع هو الاستسلام لتلك القوّة اللامعروفة السّاكنة فيك. هنا مهمّ التّأكيد أنّ المبدع ليس هو القوّة العليا تلك، بل في مرحلة الإبداع هو يتماهى ويختفي في جوّانيّة إبداعه، إن كان كتابة أو رسمًا مثلاً.
وأقول:  تُوضَعُ الحدودُ لِنتذوَّقَ طعْمَ اختِراقِها
          وتلتقِي أحداثُ الأزمِنَةِ في تحليقِ الفراشة.
إنّ الإبداع بشكل عامّ كما أراه أنا وكما يراه غيري من المبدعين أيضًا، على ما أعتقد، هو أن تكون وتتواجد خارجَ السَّرب، أن تتمرّد لتبحث عن طريقك الفردانيّ المميّز وأن تتخلّص من نفسيّة المجموع. وغالبًا ما يعطي المجموع شرعيّة لمن يدافع عن هويّة المجموع ويلغي هويّته هو. أنا أؤكّد عدم تناسي هويّتي المميّزة الّتي تشير إليّ أنا- إلى حريّتي الشّخصيّة، وهي تترجَم في نصوصي.
في الكتابة، الّتي تعاصر حركة الزّمان وصيرورته، تفريغ للذّات وبحث عنها في سراديب الرّوح/الجسد/ الكينونة الّتي تشمل فيها العقل والفِكر والقِيم، لإخراجها ومحاولة انعتاقها إلى عالم لا محدود. وبهذا تكون الكتابة في جوهرها تفريغًا من أجل التّوليد والبلورة. وفي مشروعي الإبداعيّ، أنا أواصل التّجريب لغةً وجوهرًا. مهمّ عندي أن أتميّز في أسلوبي وذلك لا يأتي إلاّ بجهود القراءة والدّراسة والتّجربة والإنفتاح على عوالم مختلفة ومغايرة. وأن أكون أنا، لذا ما زلت أنقش في روحي.. وسأواصل..
وللمرأة في مجتمعنا العربيّ الفلسطينيّ عمومًا أن تبحث عن نفسها وتحاول أن تخلّصها من كلّ القيود والمركّبات الحياتيّة المضطهِدة.
وأيضًا وفي مجتمعنا الفلسطينيّ في أراضي ال 1948، من المهمّ للمرأة أن تبحث عن نفسها وتخلّصها مرّتين، وأنا كامرأة من هذا المجتمع وكفرد من النّساء- أعايش هذا البحث عن الذّات، من جرّاء تمييزين واضحين: أوّلا: لأننا عربيّات من أقليّة فلسطينيّة في داخل دولة إسرائيل، وثانيا: لأنّنا نساء نعيش في مجتمع ذكوريّ، تطغى عليه  منظومات مجتمعيّة بطريركيّة، فيها سلطة الرّجل هي الغالبة.
 لذلك أحاول أن أكسر حواجز في داخلي وأعبّر عنها وعن صراعي بها وفيها بالكتابة.
لذا فإنّه حتّى لو كان بوحي هو ذاتيّ في نصوص معيّنة فإنّه يخاطب مجموعة وتتماثل المجموعة فيه، لذا فإنّه يضحى عامًّا أيضا.
 وفي خضمّ هذا الواقع المجتمعيّ الّذي أعيشه، ومع تزايد إعلان المجتمع الدّولي بتوفير الإمكانيّات المتساوية لكلّ الأفراد فيه، فإنه يترتّب على كلّ مجتمع تطوير القدرات الذّاتية لأفراده ومشاركتها مجتمعيّا وإنتاجيّا، ومن هنا أهمّية تغيير الأدوار بين النّساء والرّجال في المجتمع، أيّ تغيير التّقسيم الوظيفيّ بين الجنسين.
لذا فإن المرأة الكاتبة الّتي تساهم بالكتابة في مواضيع معيشيّة حياتيّة ثقافيّة وأيضًا تعنى بالمرأة، هي تساهم في عكس واقع تعيشه، ومن ثمّ تسعى للتّأثير عليه.
 لأنّني أعتقد أنّ المبدع عمومًا لا ينفصل عن واقع شعبه وهمومه وعن آماله وأحلامه، لذا فأنا أحاول وأعمل في طريقي الإبداعيّ لأن أخرج من الأنا الفرديّ  لأكون في الذّات الإنسانيّة الّتي لا تنفصل عن كونها جزءًا من الطّبيعة.. فأنا جزء من البحر والوردة والشّجرة والكينونة العامّة.
من المهمّ أن أشدّد على أنّ الكتابة مهمّ أن تنبع من حقيقة، أيّ أن تكون كاتبًا حقيقيّا صادقًا في رسالتك، ولا يأتي ذلك عندي إلاّ بحفر في الرّوح- في روحي أوّلا- أن تتعلّم أن تكون أنت.
وكما تقول نوال السّعداويّ فإنّ “الكتابة هي بقاء الذّات.. هي مقاومة الموت”. وعندي الكتابة هي تحليق الرّغبة.. هي مرحلة اللّذّة في الهذيان، هي الكلامُ الجديدُ، الوطنُ الغرامُ.
إنّ الكتابة هي وسيلة للثّورة أيضا، وكما قال الشّاعر نزار قبّاني “قومي، إنفعلي، إنفجري لا تقفي مثل المسمار”، فإنّها أنواع وأساسها الموهبة عندما تكون موهبة إبداع من أجناس أدبيّة كثيرة، ولأنّني من هذا العالم الأدبيّ والشّعري ولي ولادات شعريّة وأدبيّة، فإنّني أساهم مجتمعيّا في إحداث تأثير أو تغيير ولو كان تأثيرًا أو تغييرًا متواضعًا في إبراز هموم المرأة وقضاياها.
لذا فإنّني لا أوافق على هذه المقولة الّتي تؤطّر الرّؤية للعمل الإبداعيّ.
فكثيرًا ما انطلقت أعمال من ذاتيّة إلى عامّ ومن عامّ إلى ذات. يعني من المهمّ أن يكون النّصّ متحرّكًا وهنا يكون دور المبدعة ودور المبدع . ولا يفوتنا أنّ قراءة النّصّ الحقيقيّ من المهمّ أن تكون شموليّة وتغوص في العمق لتكتشف عطر الورد الخفيّ لتشمّه. إضافة إلى أنّ قراءة النّصّ الواحد تختلف بحسب القارئ ورؤيته ومنطلقاته المختلفة الّتي يقرأ فيها النّصّ المعيّن.
وعلى فكرة أنا لا أحبّذ هذا التّقسيم في الأدب، إلى أدب نسائيّ موقّع باسم امرأة وأدب رجاليّ موقّع باسم رجل.
إنّ الأدب هو أدب إنسانيّ،  هل سمعنا أحدًا يدعونا إلى لقاء لأدب رجاليّ؟ لماذا إذن تتمّ دعوتنا إلى لقاء لأدب نسائيّ؟
أصلاً هذا التّقسيم من شأنه أن يعزّز سياسة التّمييز ضدّ النّساء.
نعم هناك أدب نسويّ وهو الّذي يحمل فكرًا وينادي بتغيير الأدوار المجتمعيّة بين الرّجل والمرأة. وقد يكتبه رجل أو تكتبه امرأة.
 
*هناك تنوّع في تجربتك الإبداعيّة على صعيد التّعامل مع الجنس الأدبيّ واللّغة والموضوع.. فهل أنتِ مع التّجريب الدّائم- أمّ أنّك تجرّبين فقط لكيّ تصلي إلى بداية جديدة او مرحلة إبداعيّة في تجربتك؟
– ..ما بين محاولاتٍ لكتابة الشّعر والنّثر ونصوصٍ تأبى التّصنيف:
.. أعتقدُ أنّ كتابة الشّعر هي تجربة طلسميّة، وأظنّ أنّ الكثير من الشّعراء والشّاعرات يحاولون الحديث عن تجربتهم في الكتابة.. أنا على يقين أنّ الكتابة الشّعرية هي الولوج في مسار غامض غير واضح تمامًا، منه تولد القصائد.
ما يمكنني الحديث عنه هنا هو لحظة البرقِ الأولى في انطلاقِ النّصّ الشّعريّ عندي، وهذا يلخّص إلى حدٍّ ما تجربتي في كتابة الشّعر:
هذا البرق الأوّل وتلكَ الومضَةُ الأولى الّتي تستلبكَ من زمانك ومكانكَ، كماها اجتذابك الفطريّ الوحشيّ لكائن يستوقفك.. يقتنصكَ في لحظةٍ ما، يترككَ بعدها لصَنعتِكَ في أن تحلّق معه في انفعاليّتك  خيالاً وواقعًا لتنقش في داخل روحك، وتلتقي كلماتك بتواتريّةٍ بعدها على بياضِ الورقةِ في جسدِ قصيدةٍ أو نصّ شعريّ.
نعم، تهبني القوّة الخفيّة الإشراقة الأولى.. الجملة الأولى أو الشّطر الأوّل من قصيدتي، أقولُ إنّه الوحي أو الشّيطانُ الشّعريّ.. إنّه اللاوعي القابع فيّ، المنتهز للحظةٍ يكون فيها بدئيًّا وغريزيًّا ليقذفَ من أعماقي نسجَ حروفٍ أترجِمُها بانفعاليّة وتواتريّة كلماتٍ على بياضٍ في ورقة..
قد يضيعُ منّي نسج الحروفِ  هذا في لحظة منامَةٍ أو سهوةٍ، لذا فالورقة باتت شقيقتي وشقيقة وسادتي لأقتنصَ معها نداءً مستفحلاً آتيًا من قعرِ أبديّتي مُلتفًّا بشعريّةٍ باسقةٍ من روحي.. بعدها أبني فضائي المتناسلِ من تلكَ النّطفة الآتية من تلكَ اللّحظةِ.. لتولدَ القصيدةُ كاملة من اختمار كلّ كينونتي: روحًا، جسدًا، فِكرًا، حِسًّا ونغمًا.
تكتملُ القصيدة بتلاقٍ مع الوعيِ لغةً وموسيقى  وصُوَرًا وتركيبًا، وتكون ذروة النّشوة عندي حين يكون جسدها كاملا.. فتتنفّسُ روحي بهاءً وارتياحًا. وأنا أعمل على تطوير فِكري وأسلوبي كامرأة فلسطينيّة تعيش في خضمّ هذا الواقع الّذي نعايشه كلّنا. لذا فإنّني أجرّب.. أنا أبني هويّتي الكتابيّة وفردانيّتي الإبداعيّة من خلالي أنا- مضمونًا وأسلوبًا وشكلا.. وحاليّا أنتمي في هذه المرحلة  للتّجريب الواسع.ويكفي هنا أن أقتبس مقولة محمود درويش: “إنّ شقاء التّجديد المتعثِّر أَفضل من سعادة التّقليد المتحجّر”..
ولا أنكر أو أنفي أنّ الكاتب كما الإنسان متأثّر وامتداد لمن سبقه.. لكنّه يبحث عن فضائه الشّخصيّ وسط الخضمّ الكبير من المبدعين والمبدعات في العالم العربيّ والغربيّ.
والإطّلاع قراءة وتجربة على إبداع وثقافة الآخر مهمّ في هذه الرّحلة الإبداعيّة الطّويلة الممتعة والشّاقة.
الإبداع هو عمليّة طليعيّة، فيها يكون المبدع رئةَ الحريّةِ لمجتمعه الّذي يعيش فيه، لذا فإنّ الإبداع بكلّ أنواعه لا يكون أبدًا محطّ مساومة.
وكما نعلم فإنّ الإبداع يشكّل حالةً ثقافيّة تتبدّى فيها كلُّ المتغيّرات و المتحوّلات الّتي تطرأ على المجتمع خلال حركةِ الزّمن و صيرورته .
لذا لا يستطيع الأدبُ والفنون الأخرى على سبيل المثال، أن تقفَ كلُّها موقف الحياد فيما يتعلّق بأمور على هذه الدّرجة الرّحميّة الصّلة بالذّّات الإنسانيّة ،كالرّوح والوطن والذّات، و ليست تقبلُ أن تحيدَ مواقفُ هذه الإبداعات و رؤاها ووجهات نظرها. أنا أقصد هنا أنّ المبادىء الأساسيّة  الإنسانيّة لا تقبل الحياد كرفض العنصريّة واحترام التّعدّديّة  وتقبّل المختلف واحترام الكلمة المتأتيّة من إبداع حقيقيّ مهما كانت. وطبعًا المواقف دائمًا حرّة ومتغيّرة.
ومن مهمّات المبدع/ة أيضا خلخلةُ التّابوهات، لكن قبل خلخلة التّابوهات خارجًا، من المهمّ خلخلتُها في داخلنا أوّلا من خلال مرورها من لا وعينا إلى وعينا، ونكون بهذا قد ذوّتنا مفهوم الخلخلة، من خلال تذويت السّعي إلى إعادة التّفكير بكل التّابوهات الموجودة عندنا وفينا.
لست ممّن يرون في الإبداع المتأتّي من موهبة وعمل جادّ حدًّا يقف عنده أو سقفًا ينحني أمامه. إنّما الموهبةُ (الشّعريّة مثلاً)، هي الّتي تعطي للكلمةِ دورَها الجميلَ و تحفرُ مكانها الصّلصاليَّ في جسد النّصّ أو القصيدة، بحيث نعرفُ أنّ اليد الّتي كتبتها هي يدٌ عارفة مسؤولة،  يكون هدفُها الكشفَ من أجل المزيد من المعرفة و ليس الإبتذال.
لذا فإنّ الإبداع عموما يمنح مبدِعَه أجنحةً لا حدودَ لها للتّحليق الحرّ.
أنا حاليًّا منشغلة في كتابة نصّ يرفض التّصنيف، فيه محاولة لتفكيك دواخل الإنسان بما فيها من تحوّلات وأفكار ومعتقدات ورغبات وهذيانات ومشاعر، لا تنفصل أبدًا عن متغيّرات الزّمان والمكان.
هو نصّ فيه محاولة لتفريغ الذّات وبحث عنها في سراديب العقل/ الرّوح/الجسد/ الكينونة. وطبعًا ليس المقصود تفريغًا من أجل التّفريغ السّطحيّ فقط، بلّ هو تفريغ الجوّانيّ العميق فينا من خلال الحفر والنّقش، من أجل التّوليد والبلورة والبناء.
هو نصّ تجريبيّ يحاول بناء لغة جديدة، من خلال العمل على تفكيك المبنى العاديّ للّغة لتجديده، ناهبًا من جماليّتها وشفافيّتها، لكن مجدّدًا فيها.
هو نصّ من شأنه أن يحفّز القارىء/ القارئة عمومًا على التّفتيش والتّنقيب ومساءلة نفسه عن دواخلها، وبالتّالي عن رغباته وأفكاره ومصارحة تخبّطاته، من خلال الحديث عن وعيها وتفكيكها من أجل فهمها ومواجهتها، إن أمكن، بما فيها من مشاعر وأفكار ومعتقدات ومساءلات وأحاسيس متنوّعة.
* من خلال اهتمامك بمتابعة تجارب الآخرين من أبناء جيلك على المستوى العربيّ- هل تجدين ملامح مشتركة يمكن الحديث عنها في تجارب هذا الجيل؟
– لا أدري إن كنت حقّا أستطيع الإجابة عن هذا السّؤال حول رؤيتي للسّاحة الأدبيّة العربيّة. لكن ما أستطيع قوله في هذا الصّدد هو أنّ هناك الكثير من الأقلام والأصوات الّتي نتابعها عبر الموادّ الأدبيّة في الصّحف والمجلاّت المتخصّصة وغير المتخصّصة ولا أنسى صفحات الإنترنت- شبكة الاتّصالات المعلوماتيّة والنّدوات والمؤتمرات الأدبيّة.
النّصّ هو الباقي أبدًا والإبداع والتّجديد فيه، قالبًا وقالبًا/ صورة وشكلاً، لغةً ومضمونًا وفِكرًا، هو من يستطيع أن يقول القول الفصل.
طبعًا لا أستطيع أن أنفي دور الإعلام في ترويج أديب ما أكثر من غيره. وكما نعلم فإنّ الإعلام بكافّة أشكاله قادر أن يلعب الدّورين المتأثّر والمؤثّر.
وقد يغمرُ الإعلام أحدًا أو يلفت الأنظار لآخر. والنّصّ يبقى ليقرّر.. بعد بهتان الأضواء واختفائها.
أنا شخصيًّا من متتبّعي كلّ جديد وقديم. وأنتقي قراءاتي بحسب ما يهمّني في تطوير فكري وثقافتي وأدواتي.
تلعب شبكة الإنترنت دورًا كبيرًا في كسر حواجز العزلة بين الكتّاب العرب، فهل تعتقدين أنّ هذا النّوع من التّواصل الإلكترونيّ يغني عن الأنواع الأخرى من التّواصل المباشِر مع الكتاب والمؤلّف؟
– نحن في زمن أضحى العالم فيه موصولاً بكلّ أجزائه ومتواصلاً في واقعٍ واقعٍ من خلال الشّبكة العنكبوتيّة- الإنترنت، في كلّ المجالات المختلفة.
من المهمّ هنا التّشديد على موضوع الإنتقائيّة، أيّ أنّه وفي خضمّ تهافت المواقع العديدة والكثيرة، من المهمّ أن يحافظ الكاتب والكاتبة، الشّاعر والشّاعرة على خاصيّة ينفرد بها، وأن ينتقي مواقع تلائم فكره ومبادئه لينشر فيها إبداعه.
إنّ المواقع الكثيرة من شأنها أن تعرّف بنتاج الكاتب وإبداعاته، لكن من المهمّ التّعامل مع كلّ ما ينشر فيها بحذر ونقد، في ظلّ المتسلّقين، وسهولة النّشر والسّرقات الأدبيّة.
بالطّبع هناك مواقع أدبيّة مهمّة تستقطب إبداعًا جادّا يتأتّى من موهبة ومصقولاً بثقافة ويخلو من الابتذال. نعم هذه المواقع الجادّة هي منبر ومحور تواصل النّصوص ومبدعيها معًا لمزيد من التّعريف بهويّتنا ولغتنا وفكرنا وأيضا للانكشاف على نصوص الآخر وثقافته وإبداعه.
لكنّني أؤكّد أنّه لا غنى عن الكتب والإعلام المكتوب، مثل المطبوعات الورقيّة الّتي لا يمكن الإستغناء عنها.
ولا ضير من أن يكون للصّحيفة نفسها موقعًا الكترونيًا من شأنه أن يصل إلى الأذهان الّتي لم تتمكّن أصابعها من أن تمسك المطبوعة الورقيّة. اليوم ونحن في هذه القرية الصّغيرة بسبب التّطوّر التّكنولوجيّ والعلميّ، يمكن أن تصل إبداعاتنا إلى العالم كلّه من خلال الضّغط على بعض الأزرار من لوحة مفاتيح الحاسوب.
فعلى سبيل المثال الكتاب الممنوع تداوله بين النّاس ورقيّا هو كتاب مقروء إلكترونيّا. في هذا الصّدد هنا، من المهمّ التّساؤل عن سلطة الرّقابة في البلاد المختلفة على مواقع الإنترنت والّتي إن كانت موجودة على هذه المواقع في بلاد معيّنة، فإنّه للأسف أيضا قد تطال الأدب الجيّد في مواقع أدبيّة مهمّة وتبقي على الأدب الغثّ في مواقع أخرى هزيلة.
طبعًا من المهمّ حسب رأيي دخول الكتاب الصّادر ورقيًّا إلى كلّ البلاد وإلى كلّ النّاس على مختلف شرائحهم، لكن إن تربّص المنع لذلك، فإنّ الشّبكة العنكبوتيّة موجودة وهي ستتولّى أمر دخوله، وهنا سيكون دور المتلقّي المتصفّح للإنترنت في قراءته، على الرّغم من أنّه لا يزال هناك أشخاص لا يتعاملون مع لوحة المفاتيح! ولا يمكن أن نتخلّى عن العلاقة الإنسانيّة بين المبدعين والمبدعات حسب رأيي. من هنا طبعًا أؤكّد على أنّ الشّبكة الإلكترونيّة لا تغنيني عن حوارٍ إنسانيّ مباشر بين البشر العاديّين فما بالك عندما يكون الحوار بين المبدعين والمبدعات.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
– هذا الحوار نشر سنة 2007

اترك رد

%d مدونون معجبون بهذه: