العرب من وجهة نظر يابانية

خالد ربيع السيد

المستعرب الياباني “نوبوأكي نوتوهارا” قضى ما يزيد عن أربعين عاماً في دراسة العالم العربي ،لغته، ثقافته، واقعه وكل ما يتعلق بحياته اليومية. وبطبيعة الحال زار جميع الدول العربية زيارات متكررة خلال هذه السنوات الطويلة، وصادق وتعرف على الكثير من العرب : نقّاد ، أدباء، أكاديميين، مفكرين، فنانين وأناس عاديين. لكنه كان منحازا دائما للأدباء المثقفين، حيث يعتبرهم مرآة الشعوب وصوتها الصادق. قرأ وترجم ودرّس لطلابه في الجامعات اليابانية أعمال : إبراهيم الكوني، بوعلي ياسين، غسان كنفاني ـ الذي لفت نظره للقضية الفلسطينية ـ ، يوسف إدريس، يحيى الطاهر عبدالله، يحيى حقي ـ الذي أثار فضوله نحو الصعيد المصري ـ ، نذير نبعة، ومحمد الماغوط ومحمد شكري . ترجم رواية الأرض لعبدالرحمن الشرقاوي . الحرام ليوسف إدريس ، بين القصرين لنجيب محفوظ ، تلك الرائحة لصنع الله إبراهيم . شخصية مصر لجمال حمدان . مدن الملح لعبدالرحمن منيف .. وقائمة طويلة من الأعمال العربية الحديثة الأكثر تأثيراً في الثقافة العربية . ولد سنة 1940 ولا زال يتمتع بكامل حيويته .
أصدر في 2003 كتابه (العرب ـ وجهة نظر يابانية) عن دار الجمل، الذي كتبه بالعربية وعبر فيه عن رؤاه وإنطباعاته حول تحليل الشخصية العربية والواقع العربي ومقارنته بالواقع والثقافة اليابانية ، فعل “نوتوهارا” ذلك دون أن يكون متحاملا على العرب، غير أنه ممجدا لثقافة اليابان في منهج إستقرائي تحليلي بعيد عن التشنج، فهو متأمل سيسيوثقافي عميق حتى في واقع بلده .
ما أورده هنا مقتطفات مبتسرة من آراءه التي صاغها في قالب سردي شيق يجمع بين المشاهدة والقصة المفضية من السبب الى النتيجة ، وهذه المقتطفات سريعة وبعيدة عن المتعة المتحققة من قراءة الكتاب ذاته، ويركز الكاتب فيها على أن القمع هو أصل الداء العربي المستشري في كل مكان من الوطن العربي تقريبا من ضمنها طبعا (اللاصدق) الذي يعيشه العالم العربي وخصوصا من الجانب السياسي والثقافي وإحتقار الحكام للشعوب ..يقول : أول ما إكتشفت في المجتمع العربي هو غياب العدالة الإجتماعية، وعندما تغيب العدالة يصبح الفرد هشاً ومؤقتاً وساكناً بلا فاعلية لأنه يعامل دائما بلا تقدير لقيمته كإنسان، وأستغرب ـ كما يقول ـ لماذا يستعملون كلمة ديموقراطية كثيراً، إن ظروف الواقع العربي لا تسمح بإستعمالها لأن ما يجري فعلاً هو عكسها تماماً ..عندما تغيب الديمقراطية ينتشر القمع .. ويُرجع نوتوهارا انعدام العدالة الاجتماعية الى غياب الديموقراطية، فالحاكم العربي يحكم مدى الحياة، لذلك لا ينتظر الناس منه اي شيء. كما ان الحكم الطويل يعلم الحاكم القمع حتى لو لم يمارسه. وبذلك يصبح الشخص والسلطة شيئا واحدا. واذ يخاطب الحاكم العربي رعاياه بـ«أولادي»، فانه يجسد بذلك النظام الأبوي – الذكوري المسيطر على الجميع، فيما الحاكم هو المستفيد الاول من هذه «الأبوة العاطفية» التي تساعده في السيطرة على الرعية وعلى ممارسة جميع أشكال القمع.

ويرى أن الوطن العربي ما زال بكامله يدفع ضرائب القمع ، وأن آلية القمع مترسخة في العصر الحديث، ويلازم القمع عدم الشعور بالمسئولية تجاه الآخرين وتجاه الوطن ، وذلك يأتي من شعور غائر بالخوف ، فالمواطن العربي لا يستطيع الخوض فيما يطلق عليه (النظام) . يخاف الناس من رجال الأمن والشرطة السرية ويسمونهم برجال المخابرات ، ويتمتع رجل الأمن بإمتياز إجتماعي وإقتصادي سواء في الأرياف عند المزارعين أو في الصحراء عند البدو وبالطبع في المدينة ، فيغدقون في كرمه وهيبته، وتعد له الولائم وتشترى صداقته . تلك الإزدواجية سببها الأول والأخير هو القمع والخوف الثابت من بطش السلطة.

ويرى أن المجتمع العربي مشغول بفكرة النمط الواحد على غرار الحاكم الواحد والدين الواحد، ولذلك يحاول الناس أن يوحدوا أشكال ملابسهم وبيوتهم وآرائهم ، وتحت هذه الظروف تذوب إستقلالية الفرد وخصوصيته واختلافه عن الآخرين . أعني يغيب مفهوم المواطن الفرد لتحل محله فكرة الجماعة المتشابهة المطية للنظام السائد. في هذه المجتمعات يحاول الفرد أن يميز نفسه بالنسب كالكنية أو العشيرة أو بالثروة أو بالمنصب أو بالشهادة العليا في مجتمع تغيب عنه العدالة ويسود القمع وتذوب إستقلالية الفرد ويغيب الوعي بالمسئولية .

يقول تختفي المسئولية الإجتماعية التي يجب أن تكون نابعة من الفرد بلا رقابة ولا قسر، وبسبب غيابها نجد المقاعد في الحدائق العامة مكسرة ومخلوعة ونجد معظم مصابيح الشوراع وصناديق البريد محطمة ، دورات المياه العامة قذرة بصورة لا توصف والمباني الحكومية يلحق بها كل أنواع التخريب. المواطن العربي ينتقم من كل ما تملكه وتديره الحكومة لأنه ينفس عن القمع الذي يدمره ، لقد كانت تلك المظاهر السلبية مكرسة في المجتمع الياباني ولكن اليابانيون تجاوزوها وعرفوا مسئوليتهم عن الملكية العامة معرفة جيدة . لا أستطيع الفصل بين القمع وعدم الشعور بالمسئولية في المجتمعات العربية .

لقد فهم أن هناك محرمات لا يجوز الإقتراب منها : السياسة والجنس والدين ، وهي غائبة تماماً حتى مطلع الألفية الجديدة عن الصحافة المسموعة والمكتوبة والمرئية . لا يجوز لأي أحد أن ينتقد أي مسئول كبير، نحن في اليابان من المعتاد أن تجد على ناصية الشارع سيارة تحمل مكبرات صوت وتهاجم رئيس الوزراء والوزراء والحزب الحاكم . يقول إن علاقته بيوسف إدريس وثيقة وإنه قد زار اليابان عدة مرات، وأنه يبحث عن سر نهضة اليابان التي أدهشت العالم، ويريد أن يعرف الأسباب، وبعد زيارته الثالثة سألته: هل وجدت الإجابة؟ قال: نعم، عرفت السبب، مرة كنت عائداً إلى الفندق في وسط طوكيو حوالي منتصف الليل، ورأيت عاملاً يعمل وحيداً فوقفت أراقبه لم يكن معه أحد، ولم يكن يراقبه أحد ومع ذلك كان يعمل بجد ومثابرة كما لو ان العمل ملكه هو نفسه، عندئذ عرفت سبب نهوض اليابان، وهو شعور ذلك العامل بالمسؤولية النابعة من داخله بلا رقابة ولا قسر عندما يتصرف شعب بكامله مثل ذلك العامل فإن ذلك الشعب جدير بأن يحقق ما حققتموه في اليابان .

ويقرر “نوتوهارا” بأن العرب ،كما هو معروف، مورست عليهم العنصرية وما زالت حتى وقتنا الحالي، وهي عنصرية في عدة مستويات وأنماط . فمثلاً أصحاب السيارات الخاصة يتفاخرون بسياراتهم وكأنها مجد فريد أحرزوه، ولا يدركون أنهم فقط إمتلكوا النقود التي جاءتهم في الأصل نتيجة لبيع النفط ، والنفط إكتشفه الغرب وإستخرجوه وإنتفعوا منه ، ثم دفعوا للعرب قيمته . لا يدرك العربي أنه لم يفعل شيء ومع ذلك يتفاخر بالتكنولوجيا التي لم يخترعها. و يتبارا إن كان غنياً بشراء أحدث الموديلات وهذا التفاخر يتحول الى تعالي على الآخرين واضطهاد لهم . مع أن ملكية السيارة أو أي جهاز في البلدان المتقدمة صناعياً لا يعد إمتيازاً .

البدوي كما يعرفه “نوتوهارا” هو الذي يعرض نفسه للطبيعة بلا غطاء، وهو ينتقد الفلاحين وسكان المدن ويسخر منهم ويعترهم جبناء يحتمون بالجدران والأبواب المغلقة بينما هو يقف أمام الطبيعة بلا حواجز . هذه النقطة جوهرية في حياة البدو ، ونقطته الجوهرية الأخرى هي رغبته المتكررة في الإنتقال من المكان المجدب الى المكان الخصب. ترسخ كل ذلك في حياتهم الروحية وحصلوا على روحهم الإبداعية من خلال تجربة الحياة في الصحراء، التي يعتقدون أنه حياة مكتملة واستعانوا بأدوات خاصة مثل البندقية والسيارة ، ومن أروع من تكلم عن البدو جمال حمدان في كتابه الرائع “شخصية مصر” و عبدالرحمن منيف في الجزء الأول من “مدن الملح” قدم شخصية متعب الهذال المتمتع بالصبر والإيمان ، وإبراهيم الكوني في أعماله قدم عالم الصحراء بإنسه ونباتاته وحيواناته وأساطيره . البدو بالنسبة لنا نحن اليابانيون عالم ثري وسحري وهم يدركون تماماً معنى الآية القرآنية الكريمة “وجعلنا من الماء كل شيء حي” ،وهم رغم قلة الماء لديهم كريمون به وإن حدث في تاريخهم حروب بسبب الماء ، لكن الكرم دعوة مفتوحة للعلاقات الصحيحة مع الآخر وهم يفتخرون بذلك . البدوي صبور وربما تعلم ذلك من رفيقه الجمل . فعندما نسأل البدوي ، ماذا تفعل عندما تفقد كل شيء؟ فإنه يقدم جواباً صريحاً واضحاً : أعتمد على الصبر .

ويقول أخيراً عندما أقابل شخصية عربية مثل عبداللطيف اللعبي أساءل مندهشاً : لماذا لم تتحول أفكار اولئك الكتاب الى حركة حماعية ؟ لماذا نقابل دائماً حالات فردية عالمية ولا نقابل حركات شعبية على المستوى نفسه . إن الفرد الذي يحمل في داخله الجماعة يتغلب على القمع ويكون مسؤولا عن مجتمعه .

اترك رد

%d مدونون معجبون بهذه: