قهوة أميركية – لأحمد زين.. رواية تواجه مدينة عربية
فيصل درّاج
المدينة بأهلها، بهؤلاء الذين تفرض عليهم هندسة المدينة النظام واحترام الوقت والاعتراف المتبادل. فإن اجتاح المدينة غرباء لا يعرفون أعرافها، تحوّلت إلى كيان هجين. والمدينة هي ساحة «الإنسان الغُفل»، الذي تتيح له الجموع اللامتجانسة والمواقع المتنوعة إمكان الاختفاء، وتسمح له بحرية ذاتية واسعة، مستحيلة في القرى والبلدات الصغيرة. ما يجعل تاريخ المدينة تاريخاً للحضارة، وهو ما يصل بين المدينة والفضاء العام الذي يتمتع باستقلال ذاتي لا تمكن السيطرة عليه.
عمد أحمد زين في روايته «قهوة أميركية» (المركز الثقافي العربي، 2007) إلى تأمّل اغتراب المثقف في مكان هجين، لا هو بالمدينة في هندستها العقلانية، ولا بالقرية في شفافيتها الفقيرة. تحتشد الرواية بأسى، لا يصدر عن مكان لا يعرف المدن ولا تعترف به المدينة، بل يصدر عن مثقف حمل معادلة خاطئة، حين اعتنق أحلاماً مدينية في مدينة تدعى «صنعاء»، كما تقول الرواية. رصد الروائي مثقفاً مثقلاً باغترب متعدد الأبعاد: فهو غريب عن مكان غريب عن القيم المحتملة التي يهجس بها المثقف، وهو غريب في معادلته التي تنشد غايات إنسانية واسعة في مجتمع ضيّق، وهو بُقعيا من زمن حالم. مهما تكن مستويات الاغتراب، فإنّ الجوهري الذي تدور حوله الرواية هو: إمكان الحلم الفردي في مجتمع يحرق الأفراد والأحلام الفردية.
بنى أحمد زين خطابه الروائي، المتطلّع إلى مدينة حقيقية مرغوبة، بمستويين: مسار الفرد المغترب، المحكوم بدائرة مغلقة، تنفتح على الرغبات والأوهام والكوابيس وتنتهي إلى الضياع والبَدَدع. ومسار ثان، يزامل الأول ويلازمه، قوامه المواد البشرية اللزجة المتناثرة في طريق المغترب، التي تسخر بصفاقة لا تطاق من أحواله، وتأخذ بيده إلى مساره الكئيب المحتوم. ولهذا يراوح الفرد المغترب في مكانه، فالغرفة القذرة امتداد للشارع القذر، والمقهى القذر امتداد للمكانين معاً، وبقايا البشر المتناثرة في الأسواق والشوارع والمقاهي والباصات تجسيد عنف بشري غير قابل للمعالجة. يتبقى للمغترب خيال رحيم، يزور فيه رغباته ويستعيد كلمات الكتب، ويتبقّى له مكان شاذ عن المألوف هو «معهد اللغة الأجنبية»، الذي يبدو قطعة قماشية زاهية ونظيفة أُضيفت إلى لباس واسع فضفاض يعلوه الذباب. حين يتحدّث السارد عن المكتب الرسمي يقول: «دخل عسكري وضربت قدماه الأرض بقوّة، فتطاير الغبار من قطعة موكيت قديمة، لم يعد ممكناً تمييزها عن الأرض المغبرة التي تغطيها»، أما البشر الذين لا يدركون مدى بؤسهم فـ «تغمرهم السعادة، أو تدفنهم كما تدفن الجثث، وهم يتدحرجون في أزقة ضيقة، مزدحمة بالزعيق والقمامة والسيارات القديمة، التي تشبه خردة متحرّكة تنفث سمومها السوداء، في شوارع مبقورة بشق طويل في المنتصف، لتصريف المياه..». بشر مؤتلفون مع مكانهم، ومكان كالح صورة عن ساكنيه، ومدينة ليست هي بالمدينة طافحة بسعادة الأموات. إذا بدا البيت، في المدينة الحقيقية، امتداداً للشوارع والمخازن والحدائق، فهو في مدينة الأموات امتداد لمقبرة متحرّكة. لذلك فبيت المغترب في «العاصمة اليمنية» كما تقول الرواية، مظلم زنخ الرائحة تنقطع عنه المياه والكهرباء، تحفّه بيوت بينها وبين النظافة المادية والمعنوية قطيعة صادقة. صاغ أحمد زين، روائياً، سؤالين جوهريين عن معنى المدينة: تقوم عبقرية المدينة على فضائها العام الذي يولد بين البشر تضامناً ورغبات مشتركة، على خلاف «شبه المدينة» المحتشدة بالتكاره والفوضى ومصادرة الحياة. وتصدر عبقرية المدينة أيضاً عن مركز هندسي ينظم علاقات البشر بالمدينة وعلاقاتهم ببعضهم بعضاً، على خلاف «شبه المدينة» العربية التي تصبح السلطة فيها مركزاً للمكان والبشر والمصالح المختلفة. ولهذا يكون على الإنسان العربي، الذي يعرف معنى المدينة، أن يذهب إلى طريق ضيّق، يحتمل العزلة والسفر والانقطاع عن حياة الآخرين، ويحتمل الجنون.
يضيء زين أحوال المغترب بصيغة «المجنون». فالمجانين يملؤون الشوارع، وهو ما أشار إليه المصري يوسف القعيد في روايته: «قسمة الغرماء»، والمغترب مجنون قادم أو محتمل، والجنون حرية حزينة، تملي على الحر الحزين أن يقايض اسمه المحدّد بنعت هجائي يحشره بين «المجانين». لكن الروائي وبرهافة بعيدة من الضجيج يكثّف موضوعه في مجاز «الاغتصاب» الذي يتلامح محدوداً ثم يتشجّر حتّى يبدو اغتصاباً بصيغة المفرد والجمع معاً. فالعسكري الأشعث الذي تثير خطواته غبار قطعة قماش «رسمية» متهتّكة، يغتصب المثقف المغترب بعفوية مستريحة. لكن الاغتصاب الموسّع، الذي لا يمثّل العسكري البائس إلاّ وجهاً منه، يأتي من قبح «المدينة» اللامتناهي. يملي هذا الاغتصاب، الآتي من البشر والهواء والأشياء، على المغترب أن يخرج من طبيعته الأولى إلى طبيعة ممزّقة، تخلط بين الوقائع والأوهام، وأن يهرب إلى مدينة متخيّلة، تأتي من الكتب والرغبات ومن «موقع أوروبي لتعليم اللغة الإنكليزية» منسجم الشكل لطيف الأرجاء. والاغتصاب الذاتي هو العقاب الذي يلحق بنفسه إنسان اختار قيماً نبيلة. إذا كانت الرقابة السلطوية النموذجية هي التي تضع في الإنسان عادة مراقبة لسانه وحركاته، فإنّ الاغتصاب الاجتماعي المتكامل، هو الذي يدفع بالمغترب إلى التخلّي عن ذاته. فلا هو قادر على قبول القذارة ولا على التساكن معها، ولا على قبول الوجوه القبيحة ولا على الهرب منها. تدفعه تناقضاته إلى التبدّد تاركاً، وهو الباحث عن الانسجام، البلدة مع عشوائيتها المستريحة، قبل «وجبة القات» وبعدها. ربما يكون في عنوان الرواية: «قهوة أميركية» ما يشير إلى تناقض لا يمكن حلّه، فهي سلعة جميلة سيئة المذاق. وربما يفصح العنوان عن تلك السخرية السوداء، التي تفترش الرواية، من دون تعمّل أوتكلّف، ذلك أنّ أبهة القهوة المستوردة في أرض «البن اليمني» تبعث على ضحك غير مريح.
أنتجت رواية أحمد زين خطاباً عن مكان هجين، لا هو بالمدينة ولا بالقرية، يطرد الانسجام ويستبقي بقايا الأشكال. ينطوي الخطاب، الذي يتاخم اليأس، على بعدين: فهو في هجائه المقذع، دعوة حارقة إلى مكان له ملامح المدينة، وهو في نثره المتماسك المتناسق نقض للقبح والهيئات المتداعية، كما لو كانت علاقات البنية الروائية المختلفة دعوة إلى بنية اجتماعية أخرى، بنية متمدّنة، لا تساوي بين امتلاك السلع والنظر إليها، ولا بين أصالة التاريخ العريق ومكان قديم مملوء بالتفكّك.
كيف تكون إنساناً حالماً في قرية زائفة تتعهّد تربية الكوابيس؟ أجاب الروائي عن السؤال بخطاب، يجمع بين الثقافة والمساءلة الذاتية والنثر المتخفّف من زوائد الكلام. تطرح الرواية موضوع المدينة العربية، التي تفتقر إلى المجتمع المدني والعقلانية والحوار الاجتماعي، وتعجز عن التمييز بين السكن والانتماء، وبين السكن والبناء، ذلك أنّ السكن يحتاج إلى تنظيم، تنجزه عقول منظّمة. تصدر المدن عن عقول توائم بين الحسبان الدقيق والقيم الجمالية، وتلائم بين الحاجات الإنسانية وتكامل الكلام الجماعي، بلا اتكاء على جدار بلاغي يدعى: الأصالة. قليلة هي الروايات التي كشفت بلا مساومة عن فضائح «المدينة العربية» ومنها هذه الرواية.