تنويعات الأحلام والصور في: « 3 Kaleidoscopes » لمصطفى عائشة

د. سعاد أنقار

في ظل حلم موسيقي فريد يصبو إلى وضع نوع من الموسيقى العربية جنب باقي المؤلفات الموسيقية العالمية الأصيلة وجعلها تراثا متداولا بين مختلف الشعوب والأقطار ؛ صدر للعازفين أشرف كاتب (كمان) وغزوان زركلي (بيانو) قرصا مدمجا CD يحمل عنوان « إيماء Gesture »[1]. ولم يكن اختيار العازفين أعمال سبعة مؤلفين عرب إلا تلبية لرغبة أكيدة منهما تتطلع إلى إسماع نغمات مؤلفين اختاروا دربا عسيرا وطرقوا مجالا تأليفيا غير مألوف أو مبتذل. وانطلاقا من هذا القصد الفني الأصيل تضمن القرص باقة من المقطوعات الموسيقية الشيقة للمؤلفين الآتية أسماءهم : ضياء السكري، وجمال عبد الرحيم، وبورغوس جلاليان، وزايد جابري، ووليد الحجار، ومصطفى عائشة الرحماني، وعزيز الشوان.
ولكون غاية العازفين قد اتجهت أساسا إلى مجال موسيقي غير متداول بكثرة في البيئة العربية فقد جعلتنا اختياراتهما نعيش في ظل أجواء مفعمة بالتأمل وأحلام اليقظة. ولا شك في أن هذه الأجواء الحالمة قد عشناها سابقا مع مؤلفات ضخمة من قبيل « عايدة » و « عطيل » لفيردي، و « شهرزاد » لرمسكي كورساكوف، و « أرابيسك » لكلود ديبوسي، وغيرها من المؤلفات الغربية الشهيرة ذات الموضوعات العربية والإيحاءات المشرقية. لذلك نحس بأنفسنا الآن ونحن نستمع إلى قرص « إيماء » أننا نعيش صنو تلك اللحظات مرة ثانية ولكن بطرائق تشكيلية وتصويرية مختلفة عن سابقاتها.
وفي هذا الصدد نلفي في مقطوعات القرص استلهاما للبيئة العربية من قريب ومن بعيد، ومحاولة لإعادة صياغتها بمختلف الأشكال والتعابير الممكنة من قبيل توظيف ربع صوت في مقطوعة زيد جابري « إيماء »، واستلهام أحد الموشحات الأندلسية في مؤلف لضياء السكري بـعـنوان “في قصر الـزمــن Au palais du temps” ثم استلهام لإحدى الرقصات الشعبية المصرية في الحركة الثالثة « Rondo » من سوناتة للموسيقار المصري جمال عبد الرحيم. وإضافة إلى استلهام هذه السمات العربية نلمس في مقطوعات القرص استشرافا لمكونات الموسيقى الأوربية وغوصا في أعماق النغمات العالمية إلى حد أننا يمكن أن نتصور في كثير من الأحيان أن بعضا من جمل القرص الموسيقية إنما صيغت من قبل مؤلف غربي خالص.
وانطلاقا من هذه الثنائية الغربية الشكل، العربية الروح كانت لحظات استماعي المتلذذ بمقطوعات القرص، كما كانت أيضا تأملاتي لأبعاد ومعاني اللغة الموسيقية الحالمة التي صاغ بها كل مبدع مقطوعته. ولأن المجال لا يسع لرصد تأملاتي حول كل عمل على حدة، اخترت الحديث في هذا الصدد عن مقطوعة « 3 Kaleidocopes » أو « ثلاثة مِشكالات » لمؤلفها المغربي مصطفى عائشة الرحماني[2]. إنها من بين مقطوعات القرص الجميلة التي تتميز بامتياحها من أساليب وقواعد موسيقية غربية خالصة، كما تتميز بعمق معانيها، وكثافة دلالاتها وإيحاءاتها، وصورها المعبرة عن تفاصيل فنية وحالات نفسية متنوعة.
ولعل المستمع إلى هذه المقطوعة أن يلاحظ منذ الوهلة الأولى أنها تتطلب براعة وتقنيات هائلة في العزف على آلتي الكمان والبيانو، وتلك هي المهمة الصعبة والشائقة التي اضطلع بها وبمجهود واضح كل من أشرف كاتب وغزوان زركلي.
ويمكن أن نقول في هذا الصدد إنه على الرغم من عربية مؤلف مقطوعة 3Kaleidoscopes صاحب الأعمال الموسيقية العديدة المستلهمة بوضوح من نغمات حضارة الأندلس وأجواء مدينة تطوان، وموسيقى بعض الأغاني والموشحات ؛ فقد اتجهت مقطوعته الجديدة هذه المرة إلى أسلوب غربي صريح وإلى طريقة يصعب فيها وضع اليد على فكرة أو إحساس عربيين إلا من خلال الاستماع المتكرر والتأمل العميق للمعاني المجردة التي ضمنها المبدع مقطوعته.
صاغ مصطفى عائشة مقطوعته « ثلاثة مِشكالات » في إطار ما يطلق عليه بالموسيقى اللامقامية Musique Atonal –بغض النظر عن اختلاف الآراء حول نجاعة دلالات هذه التسمية- وهي نظرية موسيقية ظهرت في بدايات القرن العشرين على يد مبتكرها أرنولد شومبرغ A.Schömberg (1875 – 1951). وينحو هذا الاتجاه في مجمله إلى اعتماد قواعد نظرية وهارمونية جديدة تقطع الصلة مع كثير من المقومات التي طبعت علم الهارمونية (القديم)، فنظريات شومبرغ تقوم على نظام التآلفات المركبة من اثنى عشر صوتا Dodecaphonie بدلا من سبعة أصوات، كما تنتظم في إطار سلسلات Séries يقوم المؤلف بتحديدها بطريقة رياضية بدلا من انطلاقه من السلالم الكبيرة والصغيرة ذات القواعد الجاهزة والمعروفة.
وقد نعت نهج شومبرغ الإثنى عشري من قبل كتاب وموسيقيين ومستمعين عديدين بكونه نظاما يبتعد عن إحساس المستمع وعن مشاعره، ويقترب بدلا من ذلك من العمليات الرياضية ومن القواعد الموسيقية المعقدة لذلك يرى كثير من الموسيقيين أن شومبرغ إنما هو عالم في النظريات الموسيقية التطبيقية وليس فنانا مبدعا مخاطبا للعقل والإحساس.
ويمكن أن نقول تأسيسا على ما سبق أن اعتماد مصطفى عائشة على أساليب وقواعد مدرسة فيينا وهو الفنان المغربي الأصل إنما يعد اختيارا موسيقيا غاية في الجرأة والطرافة، فقد تعودت آذاننا العربية أن تلقى أنماطا موسيقية تدخر بين ثناياها مباشرة في الخطاب ومنطقية في التخييل، كما تزخر برومانسية واضحة في بنياتها وأشكالها. إضافة إلى أن موسيقانا في مجملها تتجه إلى إدخال الكلمة الموجهة للفكرة والإحساس والدلالة العامة، ولا تنصرف بشكل كلي إلى الاعتماد على لغة الموسيقى الخالصة الداعية إلى الوقوف على فنون تأويلية وتصويرية لا حصر لها. وطبقا لما سبق لن تستلذ كثير من الآذان العربية بالاستماع إلى موسيقى مؤلفة في إطار نظام شومبرغ النغمي خاصة وأن هذا النظام يوصف بلا منطقيته وبدلالاته اللامعنوية وباقترابه من القواعد المعقدة والصعبة ومن النغمات المتوترة والغريبة بدلا من امتياحه من الجمل الموسيقية الجاهزة والموجهة دلاليا.
كل ذلك يحذو بنا ونحن نستمع إلى مقطوعة « ثلاثة مِشكالات » إلى صياغة السؤال الآتي :
هل نستطيع أن نصدر حكما نقديا ونقول إن « ثلاثة مِشكالات » إنما هو تطبيق محض للقواعد الموسيقية الغربية الحديثة وتغييب للتخييل وللذاتية العربية ؟ أو نصدر رأيا مخالفا لذلك ونسجل أن هذا العمل الجديد نقل دقيق وعميق لأحاسيس الفنان ولمواقفه الإبداعية والإنسانية رغم شكله الغربي البحت ؟.
لا شكك أن الاستماع المتكرر للمقطوعة قد يفرض على المتلقي لحظات تأمل وتفكير أو حسب تصور غاستون باشلار Gaston Bachelard لحظات من « أحلام يقظة » يحاول من خلالها فهم تلك الصور التي يرغب مصطفى عائشة في تحويلها إلى بنى موسيقية ونغمية، أو إلى لغة تحاول أن تحاكي أشياء الواقع الخارجية فتحيلها إلى رموز وانفعالات وصور موسيقية متباينة. ولعل أول صورة تصادف المتلقي فيعنى بتفسيرها وتأملها ومقاربة إيحاءاتها المادية صورة مصطلح « المِشكال Kaleidoscope » المضمن في عنوان المقطوعة.
يحيلنا المِشكال في هذا الصدد إلى شكل مرصوص بمجموعة من القطع الزجاجية الصغيرة التي إذا ما حركناها انبعثت منها أشكال هندسية ورسوم وخطوط مختلفة الاتجاهات ومتغيرة الألوان. وبالاستماع إلى مقطوعة 3Kaleidoscopes سيلاحظ المتلقي أضربا من « التصوير » و « التشكيل » الموسيقيين، وكأن مصطفى عائشة يرغب بذلك في أن يحاكي بدقة حركات المِشكال وأن يعكس بطريقة موسيقية وحرفية صوره وألوانه المنبعثة من هنا وهناك.
وانطلاقا من هذا التوجه الدلالي الذي يحيل إليه عنوان المقطوعة سيتخيل المستمع صورة المِشكال وسيحاول المقابلة بين حركاته المتغيرة وبين الجمل الموسيقية المشكلة والمتحولة في شتى الاتجاهات. وهكذا سيتمكن المتلقي من رصد مجموعة من « الصور المتقابلة » المتميزة بسرعتها الإيحائية وبتحولها السريع من معنى إلى معنى آخر قد يكون مناقضا للأول وقد يكون منسجما معه. وتبعا لذلك يمكن أن نحصر بعضا من « الصور المتقابلة » مرئيا وموسيقيا على الشكل الآتي :
1-في أحايين كثيرة تصمت إحدى الآلتين (البيانو أو الكمان) وتترك لزميلتها إمكانيات التعبير والتشكيل اللحني. إنه صمت ناطق يجعلنا نتخيل حركة المِشكال وقد غابت أشكال جانب منه وحضرت أشكال جانب آخر في حلة شكلية جديدة مركبة ومختلفة.
2-وتقوم إحدى الآلتين في مناسبات عدة ببدء خطوطها اللحنية من النغمات الغليظة وتستمر مسترسلة إلى أن يستقر بها الأمر في النغمات الحادة، وكأن المؤلف بذلك يرغب في تصوير خطوط المِشكال وأضوائه الواسعة في أولها والآخذة في الانحسار عند آخرها.
3-ولتصوير النهايات المنحسرة والحادة لخطوط المِشكال تستعمل الكمان في فرص كثيرة صيغة Pizzicato وهي طريقة تؤدى بها النغمات نقرا على الوتر من دون قوس، مما يعطي انطباعا بنهايات الخطوط.
4-وعندما يتم العزف على آلتي البيانو والكمان معا تتشابك الألحان مع بعضها بعض كما تتقطع في أذهاننا خطوط المِشكال القصيرة والطويلة وتتداخل ألوانه المتغيرة بين الفينة والأخرى.
5-ولأن المقطوعة صيغت في نظام Dodecaphonie (التآلفات المركبة من اثنى عشر صوتا التي أشرنا إليها سابقا) ؛ فإن قفلاتها لا تعطي إيحاءً بالعودة إلى المقام الأساس أو إعلانا بالاكتمال والنهاية، وكأن المؤلف بذلك يرغب في أن يعطينا انطباعا بإمكانيات تشكيل ما لا نهاية من الخطوط والأشكال الهندسية في كل حركة نحرك فيها المِشكال.
6-وقد تضمن المؤلف جملا قصيرة وموجزة وهو بذلك يجاري حركة المِشكال السريعة ويضاهي حركة ألوانه المتغيرة بين الفينة والأخرى حيث إن الصورة التي يمليها المِشكال لا تظل ثابتة في وضع محدد وإنما تتميز بالتحول السريع، وكذلك لا ترتكز جمل المقطوعة في معنى معين وإنما تتحول من معنى إلى آخر قد يكون مناقضا للأول.
وهكذا يمكن أن نستمر في استخراج عديد من الإيحاءات المتقابلة بين حركات المِشكال المرئية وتشكلات الموسيقى السمعية. بل إنه زيادة على ذلك يمكن أن نقول إنه على الرغم من أن المرء سيجزم في أول الأمر بالاتجاه الغربي البحث لمقطوعة « ثلاثة مِشكالات » فإنه مع ذلك يكمن أن يتصور من خلالها بعضا من الرسوم ذات الحس العربي وأن يتخيل أيضا بعضا من المعاني البعيدة المستمدة من البيئة المشرقية. وفي هذا الصدد نتصور ذلك الأسلوب الذي اعتمده المؤلف للتعبير عن تشابك خطوط المِشكال وتداخل ألوانه وتفاعل أشكاله وتساندها في لحظة معينة وكأنها محاولة لتجسيد لوحة أرابيسك، أو بعبارة أدق رسوم « تسطير » تتعدد فيها الأشكال الهندسية، وتتكاثف فيها الخطوط والألوان، وتشكل ما لا نهاية من الزخارف والأشكال الجميلة. وجميع هذه الخطوط الشكلية بصمات طبعت الحضارة العربية القديمة.
وكون المِشكال يعطينا أشكالا هندسية فهذا لا يعني أن محاكاة ذلك موسيقيا يعطينا بالضرورة صورا محدودة ونهائية، وإنما تلج بنا نغمات المقطوعة إلى انفعالات تنفتح على عالم خارجي وكوني أكثر رحابة وشساعة. ولعل تأملات المستمع للأصوات المرتفعة حينا والمنخفضة حينا آخر، وحركات الموسيقى الهادئة مرة والسريعة مرة أخرى أن تجعله يحلم ويستحضر ذهنيا موضوعات وعوالم شتى. آنذاك يظل الحلم حسب عبارة باشلار « محملا بالانطباعات السلبية المعاشة خلال النهار »، كما تبقى انطباعات التوتر والغرابة والتناقض والغموض انفعالات نفسية وسمات لصور جمالية تستثيرها فينا المقطوعة المعنية فتستشعرها ذواتنا بمجرد الاستماع إليها مما يحفزنا على التساؤل : هل تعكس تغيرات خطوط المِشكال السريعة تغيرات حالاتنا النفسية، وأحلامنا، وتأملاتنا التي تختلف تبعا لاختلاف الأشخاص ؟ وهل يحيل المِشكال إلى عالم خارجي وزمن إنساني متحرك يشكل في كل حركة أو لحظة صورة جديدة ؟ وهل تكون أضواء المِشكال وألوانه أشعة أمل إنساني يصبو إلى تحقيق الجمال والسكينة والراحة النفسية على الرغم من تخبطنا اليومي في مصائب وحروب ومعارك تفضي إلى حالات نفسية متوترة ومتناقضة وغير مفهومة ؟.
من خلال جل هذه الأسئلة نخلص إلى أن المعاني والصور الموسيقية المبثوثة في مقطوعة « 3Kaleidoscopes » إنما هي غير نهائية أو محدودة، تخضع للتحول السريع بين لحظة وأخرى، كما تخضع للإيحاء والحدس والتلميح أثناء عرضها، وهي بذلك لا تقوم بعملية تطوير الفكرة وتنميتها على غرار الأعمال الكلاسيكية الأخرى، وإنما هي مجرد فلاشات Flashes موسيقية مدروسة تعطي انطباعات معينة وتترك فرصة تصور معاني أخرى مناسبة للحلم والتخييل الفنيين.
وانطلاقا من ذلك نرى أن توسل مصطفى عائشة بنظام شومبرغ لن يمنعنا من حرية الخيال والتخيل والتأمل والتلذذ بالتفكير والحلم. فلنغمات « 3Kaleidoscopes » موسيقى تقربنا أكثر من الذات : ذات المبدع وذات المتلقي وهما معا ينشدان الحلم داخل عالم كوني وخاص في وقت واحد يذكرهما بمختلف الأشياء المعيشة يوميا.
هذا بعض ما تتميز به مقطوعة « 3Kaleidoscopes » لمصطفى عائشة الرحماني. ويجدر بنا أن نعترف في هذا المقام أن باقي مؤلفات قرص « إيماء » الموسيقية غاية في الجمال الفني، لها جميعها قصص معينة، وحكايات تتخيلها فترويها، ولوحة ترسمها وتصورها. إلا أنها في نهاية المطاف تحتاج هي الأخرى لوقفات نقدية متأنية.

[1] – سان بترسبورغ، سلسلة 2002 Beaux .
[2] أستاذ ومؤلف موسيقي بالمعهد الموسيقي لمدينة تطوان – المغرب.

اترك رد

اكتشاف المزيد من عناوين ثقافية

اشترك الآن للاستمرار في القراءة والحصول على حق الوصول إلى الأرشيف الكامل.

Continue reading