سمير عبد الفتاح في رواية السيد”م” .. ثلاثة تصورات عن الموت واستجابة ذهنية واحدة!
محمد أحمد عثمان
لطالما كشفت أعمال سمير عبد الفتاح القصصية عن شغف لا يرتوي بمعالجة تيمات ذات طابع تجريدي وفلسفي متوسلة لذلك مونولوجات وديالوجات تحظى بقيمة تفضيلية بين أدواته السردية. من زاوية النظر هذه يمكننا مقاربة سمير عبد الفتاح في إطلالته الروائية الأولى: (رواية السيد “م”) الصادرة مؤخراً، في 185 صفحة من القطع الصغير، عن دار عبادي للدراسات والنشر.
تتخذ الرواية من الموت بما هو موضوعه- أبدية- للتأمل ذريعة للنفاذ إلى العوالم الداخلية لشخوص الرواية وسرد ردود أفعالهم الذهنية، في الغالب، إزاءها. من هنا تلك المونولوجات والمجادلات ذات الطابع الفكري المحض التي تزخر بها الرواية والتي تلعب فيها تيمة الموت دور المحفز الرئيس. إلى ذلك، تنحو الرواية إلى نوع من التمركز حول التيمة الواحدة، مبديةً كثير تحليق تأملي ونظري حولها قياساً إلى الاكتناز بالانعكاسات الملموسة والعينية. ما يضفي عليها مظهر الافتراق عن المسار العام والتاريخي للرواية بما هي “نثر حياة” يتفادى تجريدات العلم والفلسفة، مثيرا، في نفس الآن، مشروعية التساؤل حول المدى المسموح للروائي الذهاب إليه في معارضة المسار العام، بما تنطوي عليه العملية من مخاطرة فتح باب العمل الأدبي على مصراعيه أمام التأثيرات الوافدة بكثافة من حقول أخرى- فلسفية وعلمية- من شأنها أن تضع المنتوج خارج نطاق القولبة اللازمة للفهم… تبدأ الرواية بمشهد كابوسي تتضافر على إظهاره جمل وصفية قصيرة وشديدة الإيحاء إلى جانب حوارات على درجة من النزق والالتباس، يضفيان على السرد نوعاً من الحيوية تأسر القاريء منذ الوهلة الأولى. من ناحية أخرى ربما انطوى المشهد، بما يحمل من شبهة تحقيق مع شخص لا يعرف، هو نفسه، ما جنيته بالضبط، على مبرر للاقتران في ذهن القاريء بعالم كفكاوي حيث الكابوس صفة ملازمة للواقع. لكن الوصول إلى نهاية المشهد كفيل بوضع حد للالتباس. فلسنا، هنا، إزاء واقع كابوسي أو متحول إلى كابوس. بل أمام كابوس فعلي يداهم-كما سنعرف حينها- على نحو متكرر نوم الراوي( الشخصية المحورية في الرواية) في الكابوس، يجد الرواي نفسه وجهاً لوجه مع شبح يخبره بأن موعد موته قد أزف. وبما هو كذلك، أي مجرد كابوس، فهو يمتلك، بداهةً، قابلية التمايز عن العالم الواقعي بمجرد اليقظة. هذا الوعي بالتمايز بين الانطباعات التي يثيرها الكابوس ليلا وتلك التي يثيرها النهار يحدث لدى الراوي أيضا. لكن، وعلى عكس المتوقع، بدلاً من أن يؤدي إلى التخفف من الضغوط والتأثيرات النفسية المزعجة التي ترافق الكابوس، نراه يفضي، في الحالة، إلى مزيد من الحيرة والارتباك. وأقصى ما يحدث للضغوط تعرضها لنوع من التصعيد بحيث تتحول إلى استقصاءات ومناجات داخلية تستبطن ظاهرة الكابوس والموت المخيم عليه. بهدف الوصول إلى عقلنة مشكلة الموت والعثور، في نفس الوقت، على وسيلة تجعل الكابوس يكف عن مداهمة لياليه، يلجأ الراوي إلى استطلاع آراء عدد من الشخصيات ابتداءً من تلك التي تشاركه في المسكن وانتهاء بزملائه في العمل. وهكذا، يجد الراوي نفسه مغموراً بفيض من المجادلات الذهنية ووجهات النظر، تنزع في مجملها إلى الإلمام بالمشكلة من زوايا مختلفة، مقترحة المخارج من رعب الكابوس. تترواح الحلول بين الكتابة( تدوين الكوابيس) التي نصحه بها زميله في العمل “حميد” ونصيحة حفار القبور بالإمساك بالكابوس من خناقه ودفنه في حفرة إلى استخدام العلاجات المهدئة حسب نصيحة أحد شركائه في السكن. هنا أيضا، للمرة الثانية، يصدم الراوي توقعات القراء. طبيعته التأملية وفضوله المفرط لا يسمحان له بالاستقرار على احد الحلول. عوضاً عن ذلك نراه يستأنف رحلة التيه المشفوعة بالقلق، في تأرجح لا شفاء له بين ثنائيات غير قابلة للتصالح من قبيل الموت- الحياة، الليل-النهار، الكتابة- الحفرة ..الخ.
اللافت في الشخصيات تركيبها ذو البعد الواحد. ولا ينفي عنها الملمح واقع امتلاكها ردود أفعال ذهنية متباينة تجاه المشكلة. في الأخير كلها مستغرق في التفكير بالموت. تحاوره أو تداريه، تتصالح أو تتخاصم معه، باذلة كل ما في وسعها لسبر جوهره الغامض. وهي إذ تفعل ذلك تبدو مستعصية على الانفتاح على آفاق حياتية أخرى. كما لو كانت مجرد أصداء للراوي أو التماعات على نظارته- هل لديه نظارة؟- المتلونة بالخوف من الموت. محيلة هكذا على عالم مختنق ومتحشرج يهيمن على أفراده، بلا رحمة، وسواس الفناء . جزئياً، يجد ملمح البعد الواحد الذي يسم الشخصيات تفسيره في وضعية السارد. فموقعه كسارد جزئي غير مشارك في الأحداث فحسب، بل ويقع في البؤرة منها، علاوة على مشاعر الذعر والهلع المستمدة من واقع المأزق الوجودي الذي يحدق به. ذلك يجعل طبيعياً ومفهوما التمدد في هواجسه بحيث تشمل الشخصيات الأخرى وتصبغها بلون مشاعره. التناقض المنطقي الذي يجد قارىء رواية سمير عبد الفتاح نفسه بمواجهته مجردا من أي تبرير فني يتمثل في التالي: من ناحية، يحضر الموت في الرواية، تباعا، تحت صيغ ثلاث. في الأولى يحضر تحت معناه الحرفي، أي بما هو حد نهائي لحياة الفرد. الثانية والثالثة تحتكران لنفسيهما معنيين رمزيين. يُظهر الأول الموت بوصفه تبدلاً في هوية الفرد ناجم عن تبدل في محتوى ذاكرته. ويظهره الثاني كنوع من الاستلاب في شخصية الفرد لصالح الآخرين بحيث تغدو شخصيته، بما هي أسلوب حياة وتفكير، كما لو كانت مجرد صدى أو بوق أو -بلغة الرواية- صندوقا يودع فيه الآخرون أفكارهم..
من ناحية أخرى، تبدل دلالة الموت في وعي الراوي من المعنى الحرفي إلى المعنى الرمزي ثم الرمزي ثانية لا يرافقه تحول في شخصية الراوي ولا تبدل في استجاباته الذهنية. إذ نلاحظ أن الأخيرة، منذ بداية العمل إلى منتهاه، تدور وتدور دون أن تبارح مكانها داخل أفق المعنى الحرفي للموت مما أدى إلى سقوط الرواية – وتحديداً في أقسامها الأخيرة- في الرتابة والتكرار.
ملاحظة أخيرة جديرة بالتسجيل. حملت الرواية عنوان (رواية السيد”م”) ونظرا لأن المتن لا يتضمن أية إشارة إلى الراوي بالحرف الوارد في العنوان إذ يجري سرد الأحداث من موقع ضمير المتكلم وفي ظل إغفال كامل للاسم فقد بدا العنوان ليس فحسب، منفصلاً عن المحتوى ومعتسفاً، بل يقلل من القيمة الفنية للإغفال بما هو معادل لأزمة هوية تعانيها الشخصية المحورية للرواية.