بيان أو رسائل من دون عنوان
ريّان الشيباني
النائمون تركوا أحلامهم بطينتها الخضراء.. وهم حاليا مدفوعون للسهر بعيون قابضة على أرق مزمن.. في كولومبيا حيث المدينة الأكثر ازدحاما.. وتواطئا مع الغبار والأتربة.. لا يفوتك أن تلمح الجوالة برؤوسهم الشبيهة بالسيفونات، الأرصفة المتسعة لأفكار المجانين.. بين الجريمة المنظمة والواقع(المزدهر!) إذا أصبحت فلا تنتظر المساء وإذا أمسيت فلا تنتظر الصباح.. هكذا يجب أن تكون الأمور..بين صناعة العصابات وفن التراشق بالرصاص
أهلا بكم في كولومبيا..كل يوم نصحو على دم طازج.. وشطيرة أحلام لم تنضج بعد.
* * *
في أحسن الأحوال فقدنا حتى إحساسنا بالحب.. الطبيعة مجرد فلم(ACTION) قتل بطله مبكرا.. مما يعني بالضبط المُلِّح أن تعز قتلت فينا كمائن الأشياء.. الرغبة في التعبير عما يمكن أن نقوله.. حين تتهادى أمامك أطياف الناس الزائغة.. يبقى في متناولك رشقات الرصاص ولمعان السلاح الأبيض.. لا تستطيع اللحاق بالركب أيضا.. فالخطوط سيئة الطالع.. أو نحن بين يدي عرافة لا تتقن أبجديات الإقناع.. وفي ال(بين) مدارات صالحة للنوم الطويل..فهو أقرب الطرق المؤدية الى روما..
تقاد الخطابات و الامتعتة اللغوية كقطيع شارد.. مبهرجة بالرفض رغم أنه لو يستطيع أن يمنحنا حق اللجوء الى غيره لكان أفضل.. فنحن على مرماه اللصيق الذي لايفتأ أن يسوقنا إلى مصائرنا.
ليس بالضرورة أن نبحث في صيرورتنا عن الحياة.. الحب..هذه المفردات المثلجة كالايسكريم.. لا جدوى من البحث عن كينونة معدمة في مرايا حجرية ووطن استهلكته قيم يوتوبية صدئة..
وفي المساء تملئك الكائنات اللامرئية ضجيجا.. ثم تهرب هروبا كبيرا لتترك لك شاغر أحزانها.. حاملة معها أعضائنا الجنسية.. أو هي عاطلة عن العمل مؤقتا..
أجساد تنهض في الليل كالسحالي البرية وتهذي.. تعد بإخطبوط أدمغتها مسافات للتوقف والانصراف.. بإنسانية مفقوءة..
غبية هي الإنسانية كيما نفكر بمأزقها الوجودي (الماضوي/الراهن) في الوقت الذي يصبح معه السؤال (ترفا استعراضيا) غير قابل للمعاني الباهضة المتعلقة بما يمكن أن نصير إليه في عالم مطمئن ومتفائل.. لماذا لا نقول أن الاندثار شيء مرعب ومخيف؟! على الأقل ونحن نختزل العالم في وعاء هذه الأجساد القابلة لاستضافة جغرافيات جديدة وشائكة..
نحن ندرك أننا لن نضيف إلى العالم جديدا..دعونا نمتدح الخفافيش.. تلك الكائنات البشعة والاستالينية.. التي لم تسفك في حياتها النضالية إلا دم الليل المهترئ.. وإذا كان أيضا-الليل- يمنحنا مجدا إضافيا لا ندري أين سيكمن في هذه الطبيعة الجرداء.. وهنا لا أعني أحدا حين تأتوا ذات يوم لتدركوا كم هي الإنسانية غبية وبشعة.. نعم تروا ذلك عن قرب لان ثمة ما يجعل الموانع باعثة على عدم الفهم.. والجحيم متسع لأن نكونه..
كل شيء مسلوب.. في تعز.. آلة الحياة الحقيقية مثلا..المحاولات لخلق مجال صحي تدرك معه أن الطيور تصحوا باكرا أو المقاهي تفتح أبوابها في الصباح الغائم الذي لم نره .. وبالتأكيد غير موجودين فيه إذا حصل بفعل الصدفة.. كل شيء مقرف.. يابسة المعاني الحقيقية للحياة.. الناس كالأتاري تسيرهم آلة افترضوها وحددوا قيمتها السيزيفية مسبقا.. ومعها تبقى معاني كالأكسجين.. الهواء.. معاني مفرغة من محتواها فكل شيء مختلط بالرصاص.. بفارق عشري بسيط ستصبح أجسادنا عالية السمية..
عن أي شيء يمكن أن نكتب.. كيف ننمي هذا الغباء في مساحات عقولنا وندرك أنها كالأفيون والحشيش.. ومن البديهي أن تصبح هذه الأفكار مقولبة كالأسمنت على صحيفة محررها تسكنه روح عاهرة.. سيرة ذاتية تطاردنا “بهولوديتها”.. درامية نخسر معها ما يمكن كمصالحة.. ندفن معها رؤوسنا كالنعام.. لغة موحدة وتفكير موحد.. البئس والحزن إذن لامناص منهما.. والأذهان المتقدة لا جذوة لها.. فنحن في تعز.
نظلم الطبيعة إذا وصمنا مشاهد الحياة بالحيوانية.. إذا كنا لا نزال نطالب بحيوانيتنا المسلوبة.. الحيوانية التي يصبح معها العالم أكثر تفكيكا ومرونة.. بعيدا عن القناصة وعوادم السيارات بعيدا عن الكتب الموبوءة هي الأخرى.. لنقول أنها تمارس علينا زيف عاهر..وتنتعل أفكارنا بمقاييس مناسبة لفوضوية ميللر.. سياسة باموك.. ثورية تروتسكي الفضفاضة التي لم نزل نصل لها..
(………………………)
من غير المتوقع أن تفقد الليلة صوابها تجانبا مع استعادة الكثير من ذواتنا، سنظل معلقين في يباب الشارع بوتيرة رابضة بصحو مديد استلهمناه دون طاقة إضافية، أو عبثية محاولة.. لأن الشمس قاب قوسين من تدليها نحو حلوك جديد، وبينهما تربض الكائنات التالية:
* * *
“بائع الخبز”.. لا يفتأ يقتنص الربح من عقول “الشغيلة” قبل قراءتها في وجنة الخبز المتقزم.. ولا يشعر بانتماء أحاسيس سلبية من الفصيل السالب.. لان هناك ثمة مصالحة قادرة على اجتثاث الشحنات من فصيل واحد.. وعندما يكون ثملا يهدد مرؤوسيه باستبدالهم بشعبه إذا لم يكفوا عن تصديق الأخبار الناتئة من صحيفة الصباح وهي تعدهم بالدخول إلى مجلس التعاون الخليجي أو تعقب شائعات “الرقم القاتل”، يعرف جيدا أنه شخص إضافي وهو ما ناضل من أجله.. كما يعرف أنه يكتب لنفسه.. ومن دواعي انتمائه الأبدي للخبز أنه الوحيد من يشعره باليتم عند التزوج بأقرب صديق لا يحمل مفتاحا في باكت السيجار،”يعرعر” بديالكتيكية عالية، يحشر قضيبه في كل مشاريعه الإستيائية:”هات يامنتوع”، “أنيك عارك سكس”، “أنت إرهابي”….
* * *
“بائع الصحف” مدفوع بأبجدية أحكام متسرعة.. يندهش وهو يقرأ في صحيفة صفراء مقطع لا يليق بصاحبه.. ولا يفرق بين حك أنفه وحك ضروسه بأوراق قات لاتكل فمه.. يصدر للوهلة الأولى نفس متزمتة.. يطالبني بمغادرته لأن ثمة ما يدعوا إلى ذلك: أبوه ذو ميولات قارصة.. ولا يكف عن مراجعة كراسات الديون، وصديقته حين تدس خادمتها في يده “ناطورة” مثلما هو يدس قصائده المكتوبة بجذع شجرة لأرسلها عبر البريد الالكتروني.. “ماركيز لا يتقن الإملاء أيضا يا صديقي”…هههههههههههه
* * *
“نجيب”.. لا يتقن إلا اللكنة السوقية مع أصحاب رؤوس الأموال حال مغادرته مكاتبهم الملتمعة.. هم في صميم سكرته “الجبرت” الذي لا يفتأ يمتص الدماء، ولاشك بان ملامح وجهه جمدها الكحول وليس الجبرت..إذن هو يشبه مصاصي الدماء حين يكون فرحا بعد خروجه من “بيت خاله”.. قال إنه لا يفكر أسفل من السرة، الوحيد الذي يؤمن أن الله موجود كذا.. حتى يتسنى له مجاملة أمه أو الهروب إلى روحه الحقيقية دون هوادة..
* * *
لا داعي للتذكير أن “عز الدين” لن يصحوا باكرا؛ دأب العيش في الخرابات قريبا من الحمالين والحالمين بالشاحنات المرصوفة بخبز لن يطأ أفواههم..
كذلك لن يطأ فاه “عز الدين”.. وعلى ذلك ينام حتى يؤذن في داخله كائن الجوع طويلا.. وأحيانا يصلي التراويح في معدته.. ومن الواجب التنويه أن “عز الدين” عالق هنا.. سيظل كذلك حتى تأتي مكرمة الصدفة لتعلقه في العاصمة أو القرية.. عليه حاليا من الدين ما يقارب “8000”ريال لذا قرر أن يسمي نفسه “عز الدًّيْنْ”..
* * *
يتسكع “بائع النقد” حتى يصبح الليل في متناوله كوجبة.. من الضروري إذن أن يستفيق شبح الجوع الكاذب ليناوله سيقان القات بدرامية”شايلوكية”، يتناول بصوته الأجش تحايا مواهبه التي معظمها من الجامعة ولا يخفي شغفه بأجسادهن.. وبإمكانه أن يجردهم من ألقابهن التي صبغها لهن إذا اكتشف أن إحداهن رفضت الاسم الذي اقترحه لمجموعتها الأدبية.. وهي عاهرة لأنها لم تستمع إلى تحذيراته بشأن المنبوذين في ذاكرته.. حلمه فقط أن يلقي بامرأة على الأرض شظايا ثم يمارس معها الجنس.. أو يأخذ بأيديهن حتى يتسنى للآخرون الأخذ بأرجلهن..
من رسالة هبطت هنا اضطراريا
(……………………….)
-هم مخيفون.. نعم
..أشكالهم تبعث على الشفقة والحب.. والأسى أحيانا.. متخلسون من شعورهم الطويلة إن كان ثمة ما يسعدك في ذلك.. أظن أنه لا فرق بينهم وبين البشر..
هذا كل ما لدي في جديد مارس!! الشهر الذي أشعر بوجوده الفعلي فيما يسمى بالسنة.. ولكن لا أدري السبب الحقيقي في وجود ما يسمى بالسنة..
لقد صحوت على أثر رنين منبه صديقي.. وانتبهت إلى نبض البريد الوارد في تلفوني العجوز على رسالة تقول:”السلام علكم.. اليوم عيد الام 21مرس” أخي محمد مصدر إرسالها.. غير أني أحاول جاهدا بعد هذه الرسالة أن أكتب إليك شيئا ما بين مقاطعات فارع الشيباني وهو يسأل إذا كانت علامات الترقيم قد وضعت على مقاله الذي سينشر في الصحيفة ومحاولة الهروب من شبح طيفك الشاحب..
أمي العزيزة/أود أن أشركك في تصور أصدقائي، أصدقائي الذين ينامون النهارات..
آتي إليهم والذنب قد عشعش في ماكينة أجسادهم ..كيف يمكنهم التحور إلى ثيران بإمكانها تحمل العربات الحديدية.. أو يدورون كآلات هرس السمسم وهم من يرفضون أرستقراطية الواقع المنظم والرتيب..
وكان على كلينا أن يؤمن بعدم لزومية الضرورة بكونهم الذي يبررلنا حمل عصا فرعون أو ثعبان موسى أمام خيار آخر
أنهم حالمين بتعاستهم وهم يطلقون العنان لغابات رؤوسهم وشواربهم المعقوفة والتي تدل بأي حال من الأحوال أن أناس هنا لهم الحق في التفكير المغاير والحياة بسلام إلى جانبها.. ولعلي أرغب في مصادقتهم أكثر من أي وقت مضى لتصوري كيف يمكن أن يحيوا ولأرثهم القرائي والكتابي الرائع-قد لا أراه أحيانا كذلك- وهنا أجد أن أي محاولة لصرفهم عني بالدعاء محاولة يائسة ومبتذلة خاصة بعد الآن..فهم أكثر الناس تضررا من العادات والتقاليد البالية والرخيصة التي ننتهجها وهي بالضبط من تدفعهم إلى الانزواء وقد يكون الانتحار بالتمترس حول ثقافة العزلة والرفض..الشيء الآخر المقدس عندي أن مجالا خصبا لنشوء العلاقات الإنسانية يمكن أن تثمر بين هؤلاء المخيفين بعيدا عن الايدولوجيا والنمطية وقيود الفكر والأدب- وهنا قد لا أكون صائبا من وجهة نظرك الاجتماعية-خاصة وأن العلاقة تجر إلى ما بعدها من أشياء أحبذ وجهة نظرك فيها كثيرا..
إذن لا بأس وأنا أمني نفسي وأتمنى معها أن تكون مهاتفاتنا القادمة عن أشياء غير بعيدة ومنهكة في آن.. فليست عندي طاقة للرد عن أسئلة تثير أجوبتها اشمئزازك خاصة فيما يتعلق بالإله.. مثلا: ما جدوى أن تسأليني (الله هو الذي أوجدك؟) (أنت تؤمن بالله؟) ولتيقني أن الرسالة ستحول مسارها عنك أجيب إجابة مغايرة عن التي منت قد بحت بها كذبا:
أحس بأنني موجود.. وللتأكد من ذلك يمكنني أن أتحسس جسدي المادي بسهولة.. أنا موجود يا أمي.. هل أصرخ.. أحتفل بوجودي.. ولكني أفتقد أحيانا الاتصال بهذه الروح الخاوية: أي عندما أنسب وجودي إلى الله أرى بوضوح أن هناك شخصا ما يتمسك بمصيري أو على الأقل أتخيل أن هناك (أعني وراء السؤال) رجل يسوطني أن أكونه بمنظومة قيمية مفصلة بعناية، ولأن الزنازين مفصلة بنفس المقاييس أجدني في زنزانة أصغر من ذلك بكثير.. بيد أني أشعر أحيانا بحاجتي الى الإيمان بالله(الوثني- الفلكلوري- الثوري) الفضيلة التي يمكن أن أضعها في مخيلتي لاستثناء أن أكون شخصا ملحدا، ولا أرى مبررا كافيا لإلزامي بإقامة شعيرة واحدة سواء القتال فيما يتعلق بالله الثوري أو الصلاة فيما يتعلق بالله الوثني.. وهذه الأشياء سيئة بنظري فكما قال دريدا: “الصلاة ليست صحيحة ولا باطلة” وهي وجهة نظر أروسطية كذلك..
أما بشأني (الرجل الذي لن يستطيع أن يعيش مع العالم) والذي (يتصرف بمزاج حساس).. فأنا أنظر إلى تجربة سبع سنين بين عمال المطاعم المسحوقين باحترام.. تمسكا بهم ومداراة لأدبهم الرخيص والملعون
وللعلم أننا قررنا أخيرا اعتبار أنفسنا-بقرار جماعي- أشخاص تافهين ولا نستحق أدنى كرامة ومجردين من الإنسانية وكذلك من المفترض أن تسحب عضويتنا من قائمة الكائنات التي يجب أن يكون لها حقوق.. وبقدر ما هو هذا الغطاء تخفيف من أعباء الأعمال التافهة التي نقوم بها، نشعر بحقيقة أننا تافهين ومرتاحين لذلك.. ألفاظنا نابئة.. وأشيائنا لا تعترف “بتابوهات” المجتمع وأخلاقه.. سعيدين لأننا أكثر شئوما، وقد تلاحظين أنني أخاطبك بلغة جماعية للتهرب من رقيب داخلي لكني: (شخص تافه ولا أستحق أدنى كرامة) وهذا نص اعتباري لما يمكن أن تنطلي عليه أعمال شخص تافه يقابل سخرية الآخرين بابتسامة عاجية لا تبدو من حقيقتها سوى أسنان صدئة..
بقى أن أخبرك بأن أبي ذهب إلى الجحيم وأستغرب يا أمي أن بعض رواد العمل رفض مني هذه العبارة وأنا أرد على سؤاله حول ما إذا كان أحد العمال أبي، وسررت كثيرا لأن ردي كان موفقا للمرة الأولى بالرغم من أني لست أصوليا حتى أحكم على الآخرين بأوصاف كهذه ولكن لو لم يذهب إلى الجحيم لذهبت أنا الى مكان آخر غير العمل الذي أنا فيه.. وقد أكون في شقة سكنية أو على ظهر سيارة فارهة.. ليذهب إلى أي مكان.. ولتكن الجنة..فلا زلت أعامله كرجل غريب ذهب تاركا لي سيرة نصف ملونة(ذكيا وسكرانا) أو(سكرانا وذكيا)
أتمنى لك عمرا مديدا يا أمي.
ريان
21/3/2007م
(…………………………..)
كان الجدير بي ألا أدخل في معمعة الخوض حول ما يمكن أن يقدمه مشهد ثقافي “تعموي” .. والبحث وراء مطالب ذات طابع شمولي فيما يتعلق بالنشر أو ما يمكن أن أفعله لإقناع صحفي أن ثمة شكلية من نوع ما وراء عدم التفريق بين منحى ثقافي والبحث وراء فن الممكن، من شأنه أن يطرح مدى تحكم المفردات الجاهزة وواقع المرحلة في صنع تجربة العقول المركبة..
ولأن المبادرة غير ذاتية للامساك بزمامها سواء كان الأمر متعلق بمبدأ ايجابي أو سلبي لمنطق القمع افترضت أن شيئا ما سيخلق مبدأ غير متزن للكتابة في هذا الموضوع لرؤية أن الثقافة ممكن أن تخلق مجالا حيا إذا بدأ منها النصف الآخر كعملة تستطيع أن تخلق حراك تنويري …………………………………………………………………………………………..
(من مقال أردت توجيهه إلى أحد)
1/6/2007م