كتاب محمد عفيفي مطر التذكاري بين مغامرة التجريب ومئذنة الدموع
شوكت نبيل المصري
2007
صدر في الآونة الأخيرة عن المجلس الأعلى للثقافة وتحت رعاية لجنة الشعر كتابٌ تذكاري عن الشاعر المصري الكبير محمد عفيفي مطر بمناسبة وصوله سن السبعين ، ذلك الكتاب التذكاري الذي تأخر صدوره عامين كاملين ، كما تأخرت احتفالية سبعينية الشاعر نفسها ، والذي واكب صدوره – ربما بمحض الصدفة وحدها – المؤتمر الذي ينظمه المجلس الأعلى للثقافة للشعر العربي ، والذي يغيب عنه مطر وغيره من الشعراء لأكثر من سبب ، نذكر منها – على سبيل المثال – عدم تمثيل الشعر المصري عموماً بشكل حقيقي ، وعدم تمثيل قصيدة النثر المصرية والشعراء الشباب على وجه الخصوص ، كما أن الجائزة التي يمنحها المؤتمر ، والتي تتمتع بالسرية ، معلنةٌ ومقررةٌ سلفاً أمام الجميع ، هذا بخلاف التجاهل الفج ، الذي مارسته المؤسسة الثقافية المصرية في معرض القاهرة الدولي للكتاب – المنتهية فعالياته منذ أسابيع قليلة – على عفيفي مطر ؛ إذ تم التلاعب بميقات الاحتفالية التي حاول بيت الشعر الفلسطيني إقامتها ضمن فعاليات المعرض، لكن المؤسسة الثقافية القائمة ممثلةً في اللجنة المنظمة للمعرض ارتأت في ذلك التكريم الخارجي للشاعر كشفاً لعوراتها في الحدث الثقافي المصري الأكبر ، إذ أنه سيصبح التكريم الأول للشاعر في تاريخ المعرض المصري ومن مؤسسةٍ غير مصرية ، ويأتي بعد مقاطعة الشاعر لندوات المعرض وفعالياته لتسع سنوات متتالية ، بسبب محاولات التهميش غير المبررة والتخبط التنظيمي المبرَّر. وقد انبرت اللجنة المنظمة ووزارة الثقافة في إهدار محاولات بيت الشعر الفلسطيني لإقامة الاحتفالية ، حتى نجح القائمون على المعرض في إجهاضها ، ومما يؤكد ذلك التوجه تضارب تصريحات المسئولين داخل وزارة الثقافة ، وتغطيتهم النهائية على ذلك التضارب بتأجيل الاحتفالية إلى وقت لاحق ، على أن تقام في شهر مارس تحت رعاية اتحاد الكتاب العرب العائد في العام الماضي إلى كنف القاهرة .
لكن الكتاب التذكاري الذي نحن بصدده صدر بالفعل ، وبعد غياب طويل كان من بين نواتجه مقاطعة الشاعر للجنة الشعر حتى صدور الكتاب . وقد قام بإعداد الكتاب والتقديم له الشاعر السبعيني حلمي سالم، وخلافاً للمقدمة التي سطّرها حلمي سالم ، انقسم الكتاب إلى قسمين: أولهما المختارات الشعرية ، أما الثاني فالدراسات والشهادات. ولعل المطالع للكتاب بصورةٍ أولى ليشهد تضارباً في إخراجه الفنيّ ، فقد تصدر صفحة الغلاف عنوانٌ هو “شاعر مئذنة الدمع” بينما كُتِبَ على كعب الكتاب “سبعون عاماً من التجريب والمغامرة” ، وهو تضاربٌ لا يشفع له سوى الاختيار شديد الغرابة أيضاً لتركيب (مئذنة الدمع) والتي لا تمتلك تفسيراً لا في الكتاب ولا في نصوص الشاعر الممتدة لنصف قرن من التجربة المتجسدة في أكثر من ثلاثة عشر ديواناً شعرياً وأربع مجموعات قصصية وديوان لمسامرة الأولاد وأربعة كتب نثرية منها سيرته الذاتية بخلاف الترجمات والمقالات.
ولعل المقدمة التي سطّرها الشاعر حلمي سالم لم تعلل هي الأخرى ذلك العنوان المبهم ، فقد اختار لمقدمته عنواناً آخر هو: “شعرية الحرث والزرع” ، ذلك العنوان الذي اختزل تجربة عفيفي مطر الشعرية الرائدة لتصبح تجربةً ترابيّةً زراعية!! وكان من الممكن أن نقبل عنواناً آخر كشعرية الأرض والدم أو شعرية الرفض والأسئلة، على أساس أنها مفردات تمتد ما امتد النص المطري في لحم اللغة وجسد الإيقاع. ومما يلفت النظر في المقدمة أنها جاءت مشفوعةً بإحدى القصائد الأولى لمطر ، والتي تخدم توجه كاتب المقدمة ، ثم انطلقت تلك المقدمة موزَّعةً بين كونها شهادة ذاتية حيناً وقراءة نقدية في شعر مطر حيناً آخر، فمرةً تتوجهُ للتدليل على ريادة مطر للأجيال التالية له ممثلةً في حلمي سالم نفسه، ومرةً أخرى تنتقد لغة مطر التقريرية المباشرة – على حد تعبير حلمي سالم – في ديوان الاحتفالات الذي كتبه الشاعر أثناء اعتقاله السياسي في مطلع التسعينات . وهي مقدمةٌ لا بأس بها إذا عبّرت عن كاتبها فقط ، أما إذا اعتبرناها مقدمة تحمل رؤية لجنة الشعر التي أصدرت الكتاب أو على الأقل ترتضيها فلعل الأمر سينطوي على كثيرٍ من الاختلاف في التقييم ، خاصةً وأن اللجنة تحفل بالكثيرين من رواد المجال الأدبي وعمالقته شعراء كانوا أو نقاداً ، لا يختلف الكثيرون على مكانتهم العلميّة والثقافية .
وتأتي في المقام الثاني مجموعة الاختيارات الشعرية التي شكَّلَت القسم الأول من الكتاب ، والتي تمثلت في سبع قصائد فقط لم تعبّر مطلقاً عن المراحل الشعرية المختلفة التي مرَّ بها عفيفي مطر والتي لخَّصها الشاعر حلمي سالم في مقدمته ، ولم تراعِ بشكلٍ أو بآخر التوجه العام للكتاب التذكاري لشاعر ما يزال حياً بيننا بجسده ونصّه ، فكان من المفترض أن يُتْرك الاختيار له ، أو على الأقل تُقبل اختياراته (خاصةً وأنه عضوٌ في لجنة الشعر التي أشرفت على صدور الكتاب) ، أما أن يتم إقصاء الشاعر كلياً عن مساحة الاختيار ، فهذا يحمل في طياته قسراً جديداً لشاعرٍ يحمل فوق عظام أنفه علامةً شاهدةً على تعرضه للقمع والقسر والتسلط والجبروت . وبخلاف قصيدتيْ “وشم النهر على خرائط الجسد” و “نوبة رجوع” فإن بقية المختارات لم تؤدِ الدور المنوط بها من التعريف بشعرية عفيفي مطر لمن لا يعرفه ، وهي أيضاً لم تعبر لمن يعرفه عما يعرفه من تنوعات تلك الشعرية . والغريب في الأمر أن المختارات أقصت تماماً القصائد الأخيرة للشاعر والتي حفل بها ديوان الشاعر “معلقة دخان القصيدة” الصادر أخيراً عن الهيئة المصرية العامة للكتاب ، بل وقصائد من ديوان قيد النشر بالهيئة العامة لقصور الثقافة تحت عنوان “المنمنمات” ، والذي نشرت مجلة “الثقافة الجديدة” بعضاً منه ،كما نشرت مجلة “أدب ونقد” – التي يرأسها الشاعر حلمي سالم نفسه – بعض قصائده .
أما قسم الدراسات النقدية فقد ابتدأت بدراسة للشاعر المصري الكبير أحمد عبد المعطي حجازي ، وهي دراسةٌ كان من الأولى أن تختصر لشهادة ؛ لولا ما حشده شاعرنا حجازي فيها من رؤيته الخاصة للشعر ، والعلاقة بين الابتداع والابتداء ، ثم العلاقة بين الشعر والفلسفة، وعلاقته بالأساطير أيضاً ، ثم تناوله لمفهوم الصعلكة الذي رأى حجازي أن عفيفي أحد المنتمين لها ، معللاً ذلك بعلاقة الصعلكة بالرفض والإباء والترفع والرغبة في التفرّد ، وهو وصفٌ له وجاهته ومبرراته التي ساقها حجازي بأسلوبه النثري المترابط والناجع في الإقناع والذي يستهدف الوصول إلى غايةٍ ما ، ولعلها مقارنةٌ غير عادلة إذا وضعنا وصف حجازي لمطر بـ (أحد الشعراء الصعاليك) في مقابلةِ وصف مجلة الشعراء الفلسطينية لمطر ، في عددها الرائع الذي أفردته للشاعر ، إذ وصفت عفيفي مطر في عنوان عددها بأنه (آخر الشعراء الملوك) ، ولا أدري هل هي رؤية الآخرين المفخِّمة لصعاليكنا ، أم أنها رؤيتنا المحدودة لملوكنا ؟! وخلاصة القول: إن شاعرنا الكبير حجازي يقدَّم لنا رأيه في نص شاعرنا الكبير مطر، ويرى – بجانب ما رآه وبلغةٍ غير مباشرة – أن عفيفي مطر شاعرٌ تغلب الصنعة (بمفهومها البلاغي القديم) على شعره أكثر مما يغلب الطبع (أيضاً بمفهومه البلاغي القديم)، وشاهد ذلك قول حجازي في دراسته/شهادته : “إنه شاعرٌ يختار لنفسه ويتوج نفسه بيديه فيختار موضوعه كما يختار لغته”.
ثم تتابع في الكتاب التذكاري الذي نحن بصدده مجموعةٌ من الدراسات الأكاديمية المتنوعة ، وبغض النظر عن دراسة الشاعر والناقد الأكاديمي د. حسن طِلب التي عرض فيها قراءةً سريعةً في سيرة عفيفي مطر الذاتية “هوامش التكوين” ، والمغامرة النقدية التي قدّم فيها الناقد أمجد سعيد قراءة لقصيدة مطر الجديدة “ترن الجلاجل في أعناق الإبل”، والتي رصد فيها الناقد أمجد سعيد مستويين أساسيين في القصيدة ، وكَشف عما تنطوي عليه القصيدة من مؤثرات ثقافية إسلامية وفلسفية ويونانية وإنسانية تعبّر عن انتماء هذه القصيدة إلى تاريخ مطر الشعري الممتد بثقافته الواسعة – بغض النظر عن هاتين الدراستين القصيرتين كمًّا المتميزتين مضموناً ، تأتي أربع دراسات أكاديمية أخرى طويلة وعميقة ومتأملة ، اتخذت دراستان منهما طابعاً شمولياً في النظر إلى شعر محمد عفيفي مطر ، وهما: دراسة الدكتور محمد عبد المطلب “مقابلة مطر في بيته الشعري” والذي يتمتع بخبرةٍ طويلة في التعامل مع نص مطر الشعري ، ودراسة الدكتور وليد منير “استدعاء جرح الكتابة” والتي تتمتع بتناول أكاديمي متميِّز يَغلُب على معرفتنا بأن كاتبها شاعرٌ من الشعراء السبعينيين المتميزين . بينما أخلصت الدراستان الأخريان في التمركز حول موضوعٍ محدد داخل خطاب مطر الشعري ، فكانت دراسة الدكتور عبد الناصر حسن حول الإبهام وأبعاده في شعر مطر، وهي دراسةٌ جديرةٌ بالتقدير ، وتستحق الوقوف أمامها طويلاً ، ونأمل أن يفرد لها كاتبها من جهده ووقته مساحةً أكبر لتخرج في صورة كتابٍ نقدي كامل ، ليشمل محور الدراسة المنجز الشعري الكامل لمطر بتفصيلٍ وتعمق . بينما كانت دراسة الدكتور أيمن تعيلب حول الحرية وعلاقتها بالأسلوب اللغوي في شعر عفيفي مطر ، وهي دراسةٌ نجحت في اختيار محورها وإثبات مقولاتها ، ليس فقط بمقدمتها المنهجية ولكن بما استقصته داخل نص مطر من ظواهر أسلوبية متفردة .
ولعل باب الدراسات في الكتاب الذي نحن بصدده يستحق بالفعل كل تقدير واحترام لولا أنه انتقص من حق الشاعر في القراءات النقدية الغائبة الكثير والكثير ، فعفيفي مطر – الذي تزعم معظم الدراسات تربعه على ما يسمى بالغموض الشعري في الشعر المعاصر – لم يتعرض له الكثير من الدراسات النقدية والأكاديمية بشكلٍ كاف ، لكن العدد القليل ممن تعرضوا لشعره يتمتعون بخبرةٍ جيدة في التعامل مع نصه ، وبخلاف الدكتور محمد عبد المطلب الذي حفل الكتاب التذكاري بدراسته ، نجد نقاداً آخرين خبروا نص مطر الشعري بشكلٍ أو بآخر ، لكن أصواتهم غابت عن هذا الكتاب التذكاري الذي كان من الممكن أن يقارب ولو من بعيد قامة عفيفي مطر الشعرية ومكانته في الحداثة العربية وحركة الشعر العربي ككل ، نذكر من هؤلاء النقاد – على سبيل المثال لا الحصر – الدكتورة فريال غزول والدكتور شاكر عبد الحميد والدكتور صبري حافظ والدكتور صلاح فضل والدكتور محمد فكري الجزار والدكتور إبراهيم منصور والدكتور عبد السلام سلام والدكتور رمضان بسطاويسي والدكتور مراد مبروك وغيرهم الكثير ، حيث أن الهيئة العامة لقصور الثقافة أصدرت وحدها في العام الماضي كتابين نقديين عن الشاعر ضمن سلسلة كتابات نقدية. ولكن يبدو أن الإعداد لقسم الدراسات اعتمد على ما توافر عليه المعدون للكتاب ، دونما مشقة التوجه بالمكاتبة إلى هؤلاء النقاد أو غيرهم ، وهو حال كثيرٍ من المؤسسات الثقافية المصرية التي تترك للصدفة وحدها إدارة محافلها وبرامجها المختلفة .
وأخيراً جاءت الشهادة الوحيدة التي تضمنها الكتاب التذكاري للشاعر الستيني محمد محمد الشهاوي ، وهي شهادةٌ صادقة عن عفيفي مطر ، ولعل صدقها نابعٌ من مفردات مطر التي نظمها عاشقاً الشاعر محمد الشهاوي ، لكننا لا نعلم سبب كونها الشهادة الوحيدة !! فهل تأخر الشعراء الستينيون عن الشهادة لواحدٍ من رفاق مغامرتهم الإبداعية ؟ أم هل امتنع السبعينيون الآن عن كتابة شهاداتهم التي تملأ المطبوعات والمجلات الثقافية حتى ولو كان موضوع الشهادة عن شاعرٍ من الشعراء الجدد ؟! أين ذهب جيل الستينات والسبعينات والثمانينات بل والتسعينات ؟! أين أبو سنة ورفعت سلاّم؟! أين فاروق شوشة وأحمد الشهاوي وفريد أبو سعدة ؟! بل أين محمد سليمان وفتحي عبد الله ومحمد آدم وصبحي موسى وعماد فؤاد والسماح عبد الله وشريف الشافعي والكثير والكثير؟! وأين ذهب الشعراء العرب من كافة الأقطار العربية، أم أن مراسلتهم بغرض شهادةٍ شعرية تتكلف أكثر من تكلفة دعوتهم وإقامتهم على هامش مشاركتهم في معرض الكتاب أو مؤتمر الشعر ؟! بل أين هم شعراء الأقاليم المصرية الذين عبّر عنهم وعن أحلامهم وخضرتهم قبل جوعهم وقهرهم محمد عفيفي مطر في شعره ونثره ؟! كل هذه التساؤلات وأكثر تتوجه إلى المجلس الأعلى للثقافة ممثلاً في لجنة الشعر ، وإن كان القائمون على هذا الكتاب لم يجدوا من يشهد على تجربة عفيفي مطر الشعرية الرائدة في كتابه التذكاري ؛ فإني أجد بين كل من ذكرت أسماءهم وغيرهم الكثيرين من يحتفي بتلك التجربة الإبداعية ويشهد على ريادتها وفرادتها وتميّزها .. قل اشهدوا فإني معكم من الشاهدين .