وقت تـَعرّى

نصر جميل شعث

عبر مجموعته الأولى “وقت تعرّى” – الصادرة حديثـًا – يقدّم الشاعر الفلسطيني الأربعيني : سامي أبو عون ، نفسَه للمشهد الشعري الفلسطيني دونما رتوش أو فذلكات تجريبية . إنها تجربة تصوّف رائدة في مجالها ، على الأقل في غزة ؛ مَمْشى الحزانى ومفرق البؤساء وكبوة البسطاء الأنقياء في زمن البأساء . فمن حال كهذه حريّ أن يولد شاعر متصوف مشاءٌ جيئة وذهابًا في المدى ، يتخذ له صومعة بين الصوت والصدى ، يرفرف ويدروش خارج لفظة ” الوطن ” القاصرة . هذا ، حقيقة ، ما نلحظه في ” الصفير ” الذي يتكرر متحوّلا من صفير جماهيريّ مؤذٍ إلى مؤثر صوفيّ يأخذه للأعلى ، حيث ” صفير القباب موسيقى ” ، وحيث ” قباب الصفير اعتلى ” . وحذو ذلك مؤثراتٌ صوفية تحرّر الذات دون أن تسلخها من محبة التراب ؛ من مثل : الرفرفة ، الصدى ، الغمغمات ، الحفيف ، ووشوشة المشهد التي يلملمها فجرُ الأعالي ، والفجر مثلَ صوفي يمضي إلى موته الأخير . وهنا براعة في الائتلاف الصوَري ، الكوني ، بين الروحي والحسي ، بين التعرية والإسدال ، كما يتجلى شبق الروح بالحسي ، على نحو : ” برتقالة تخلع ثوبها / وترتدي عشقها ” ، ” الفراشة تخلع ثوب الأسئلة / تقفل ستائر المشهد ” . وسوف يبلغ الشاعر مدىً أقصى في عشق الوطن وإعلائه ، بعد أن أبرأ قصيدته من صفير الجماهير وثقوب الكلام ؛ نجد ملمح الإبراء والإعلاء في قصيدة قصيرة واحدة ، فقط ، بعنوان : ” أغنية البقاء ” ، فيها الوطن ممهور بوعد صُوفيّ زاهد عن النشيد الفاجر للعمامة المهزومة . غير أنّ ، ملامح (هذا) الشاعر لا تنام / فـ /هنالك طفل اسمه سامي أبو عون يرنو إلى الله / يتسلق المستحيل والمخيم وجدائل علامات الاستفهام / يستغيث بأنفاسِه ” ، ويُـلبسُ روحَ الوطن صوفَ الحماية من الحاضر بغدِ الرؤيا والمستحيل : ” سَرْوًا أحيا فوقَ جرحي الحيّ / في حاضر يلبس عمامة مهزومة / أرى قلادة للصغار / نورًا في الأفق ينمو / موسيقى لطيورٍ واثقة / صبحًا يعزف أغنية البقاء / نكسر ملح حناجرنا / نتثاءب بأنفاس الغدِ الذي يصعد / فينا .. بقاء ” . وهذه القصيدة التي تكاد تكون الوحيدة التي يمزج فيها الشاعر تواعده الصوفيّ مع الحبيب بوعده لحاضر الوطن الكابي بغدِ الرؤيا الإشراقي . وهنالك ، قصيدة أخرى تخصّ المكانَ ، وهي بعنوان : ” طقوس فرعونية ” ؛ لا تعدو عن كونها تجليًا لمعالم الحضارة والنيل لعين مَزَجَتْ النوستالجا ببكارة الدهشة . قبالة هذا الاستثناء نرى عموم التجربة المضمومة في نحو أربعين قصيدة في كتاب من 96 صفحة من القطع المتوسط ؛ نراها حالات ( عشق وشطح وتوله وانعتاق وحلول ومماهاة وتجلٍّ ) منظومة ، ببراعة ، بكلمات المعجم الصوفي .

هناك ، إذًا، دافعان يدفعان بالقارئ للإشادة بهذه التجربة الحية : الدافع الثاني متكئ على صَمَدِ الدافع الأول الذي يترجم نفسَه بصيغة اعتراف على لسان القارئ . فبدوري ، لم تصادفني ، على تواضع قراءاتي ، قبْلا من ذلك ، في هذا الحيّز الفلسطيني الضيق والمشدوه ، تجربة مماثلة في وفائها وخصوصيتها ؛ لهذه الإطلالة والبكورة . ومن الأخيرة ، إذًا ، مولد النشوة ، بما هي البكورة دافع للإشادة الثاني . حيث الدهشة هي مجموع المصادفة والنشوة . وهذا التعريف خلو من الفلسفة ، لأن الشاعر خلوّ من شبهات الفلسفة المجتلبة . خلوّ .. وفائض بماء القصائد والنثريات الصوفية . وقد بدا ، أول ما بدا ، عنوانُ المجموعة محمّلا بالإشارة أو الخطوة الأولى من خطوات الجهاد الصوفي : ألا وهي ” التعري ” ، أي الخلع بمعنى الانعتاق والتخلي ، لأجل التحلي ، ثم التجلي عاريًا في الحقيقة العارية .

إنّ الرائعة الأولى من روائع المجموعة أنها ، فعلا ، عرّت ذاتها لينتشي القارئ . فمن ناحية ، تخلصت الذات من الحجب التي يفرضها غموض ” التجريب المسيء” على قصائد الأبعاض بشكل عام . ومن ناحية أخرى ، وقوع القارئ في نشوة العرْي ، إنما يعني تحرره وتلهّييه وانحجابه كوعي ( ذات ) عن ذهنية النقد المعهودة ( الموضوع ) ، إلا النقد الانطباعي أو التأثري ، لكونه تآلف روح مع روح . هنا تحلّت روح القارئ بنعمى النشوة . وهنا تماهيا القارئ والشاعر . إنها حالة من الزهد الجميل ، والمنجاة والسعادة ؛ بمعزل عن التصادم البنيوي داخل التفكير الجدلي والمعرفي البهيظ . حتى حين يقود الانتباه إلى صور مشقلبة من قبيل : ” صفير القباب ” و ” قباب الصفير ” ؛ فإنها ليست إشارة إلى حنكة وتدبير وسخرية شاعر ، بقدر ما هي فلتة لافتة ، تفصح عن دروشة المتصوف في أول شطحاته ونزهاته وإفاداته الخلاقة من التراث الصوفي ، والهندسة الروحية .

ولعله ليس من قبيل إفساد النشوة أن نقترحَ التقارب بين الشقلبة أو الدروشة الصوفية لدى الشاعر ، وبين الخربطة والهلوسة السوريالية ؛ بدءً بلوحة الغلاف ، للفنان العالمي سلفادور دالي . وكان أشار الشاعر ، بشكل نادر وخجول ومفتوح على اللازورد الكابي ، إلى انكسارات الوطن في حاضر يلبس العمامة المهزومة . وهنا ، يمكننا اعتماد اللوحة كخلفية كافية وكمرجع ، يغني عن الكلام . و أما السجع ، في القصائد التي لم تقيّدْ نفسَها بالوزن ، فليس سجعا تطريزيا أو بلاغيا ؛ بقدر ما هو إيقاع ضرورةٍ للداخلين في الدروشة . إيقاع انعتاق ومشي وتجلّ خارج الثوب / الجسد . غني عن القول : إن نشوة سماع القصائد أبلغ وأعلى من نشوة قراءتها ، لكونها ضربًا من الدندنة ، لا الترتيل . فلنسمع هذه ، من قصيدة : ” ماشيًا ونفسي ” ، وقبل أن نمشي :

حزين أيها الصادي
حزين
الأعالي نبأ
والندى متكأ
على عود إخوان الصفا
لابسًا روح الحياة
طاقية للخفا
ماشيا ونفسي …


الله …
يا لجام التقارب
اقترب
اقترب
فلا شيء ..
يحجب عني السبيل
ومني ..

اترك رد

%d مدونون معجبون بهذه: