صورة من رواية “نعناع الجناين” لخيري شلبي

محمد أَنَقَّار

يمتد نثر خيري شلبي بإيقاع يتأرجح بين الانسياب و التدفق. و هو قد يشبه في ذلك بعض الأنهار. لماذا لم أقرن ذلك النثر بالنيل؟ الجواب بكل بساطة يكمن في أني لم أر النيل قط إلا في السينما أو التلفاز. لذلك يصعب علي معرفة إيقاع جريان هذا النهر العظيم حتى أستثمره في وصف طبيعة النثر الروائي لخيري شلبي الذي خبرته جيدا فوجدته يتمتع بخصائص تصويرية قويةو لغة روائية جريئة إن لم أقل شجاعة. و مامن شك في أن هذا الكاتب المصري يمارس التصوير بواسطة اللغة المكتوبة بوعي متعمد. أول ليس هو صاحب البرنامج التلفزي الشهير المعروف ب “بورتريه”؟. ثم أو ليس هو الكاتب الذي يتريث في سرده ليصف طويلا موضعا أو يرسم بالكلمات صورة شخصية؟
يقدم خيري شلبي في روايته الأخيرة “نعناع الجناين” (رويات الهلال، القاهرة، ع 694، أكتوبر 2006) مجموعة من اللوحات المرقمة و المعنونة يبلغ عددها واحدة و ثلاثين. و لقد أسميتها لوحات لأن طوابعها التصويرية لا يمكن أن تخفى عن أي قارئ منتبه. في كل لوحة شخصية أو حدث. و ليس من الضروري أن تحضر شخصية بعينها أو حدث بعينه في كل اللوحات باستثناء شخصية الراوي بالطبع. لذا لا يمكن اعتبار هذه الرواية رواية الحدث الواحد الممتد أو رواية الشخصية الواحدة التي تُعقد لها البطولة المطلقة. كأنها رواية القصص القصيرة. بيد أن شخصية عمي أبو السعود تبدأ بها الرواية و بها تنتهي. و حينما يحضر في بعض اللوحات بقوة يغيب عن غيرها غيابا تاما، أو يكتفي السارد بالإشارة إليه في لوحات ثالثة كأنه الشبح. و مع ذلك ليس عمي أبو السعود بطلا مطلقا.
في رواية “نعناع الجناين” يعيدنا خيري شلبي من جديد إلى عوالم القرية. و إذا دققت النظر في صوره اللغوية ألفيته يجهد من أجل الإمساك باللحظات الدافئة و الحميمة في تلك العوالم. يركز على جزئيات الأمكنة و الملابس و الأحاسيس، و يصبو من خلال كل ذلك إلى تقديم صور مفعمة بالدفء و الحميمية. لا يهمه الحدث في حد ذاته بل تصوير انعكاساته على النفس القروية. لذلك لا يمكن اعتبار “نعناع الجناين ” رواية الحدث الواحد، بل هي رواية التفاصيل المكانية و النفسية في موضع مخصوص من القرية المصرية.

تبدأ رواية “نعناع الجناين” بالحديث عن بدلة عمي أبو السعود و تنتهي به. و بين الحديثين تقديم لعديد من الأماكن و الشخصيات و بعض الموضوعات. أما راوي كل ذلك شاب جامعي لفتته منذ الصغر شخصية عمه أبو السعود فانجذب نحوها بقوة و عمد إلى التشخيص الدقيق لبعض سماته النفسية و الفيزيولوجية. و بين حديثي البدلة يقدم الراوي شخصيات جده حسن أبو السعود، و جدته معزوزة، و أبيه عبد العال، و أعمامه زكريا، و جبريل، و موسى، و خالته توحيدة القوية و قصة زوجها المقتول زلقة أبو زربة، و الحاجة زهرة خالة عائلة العقالوة، و ست عمرة حماة عمي أبو السعود المتغطرسة على أسرته و سليم الغرغاني تراتيرو زوج ست عمره، و حماد الخريجي منظف المراحيض، و الشيخ عرفات عمر الأعمى السليط و المنادي في الساحات، و الشيخ مختار الشربتلي صاحب البضاعة الطازجة دوما، و المعلم غازي داوود صاحب أفخم دكان في شارع “داير الناحية” ، و خالتي تفيدة المرأة الطيبة صاحبة صندوق المجوهرات الرفيع الذي أهدته لها أميرة تركية هي أختها في الرضاع. و يمثل ضياع هذا الصندوق واحدا من الأحداث الكبيرة في هذه الرواية. و لقد أفضى البحث عن سارق الصندوق إلى اكتشاف سلسلة من اللصوص يصفهم الراوي بطرائق لا تخلو من السخرية.

إلى أن يتبنى في خاتمة الرواية سمت الأسلوب الوقور في أثناء تصويره للخالة تفيدة و هي تتخلى عن الصندوق بشهامة عظيمة باعتباره مصدر كثير من الشر. تقول في صفحة 189: « طالما الصندوق عندنا فالشيطان في دارنا» . و فضلا عن الصندوق ثمة أيضا موضوعات إنشاء كُتاب القرية (ص10) ، و سقوط هيبة الألقاب بعد الثورة (ص40) ، وشهرة العم موسى في مجال تلقيح بقرات القرية ( ص 52)، إضافة إلى موضوعات الصراع بين أفراد عائلة العقالوة ، ثم بينهم و بين بعض شخصيات القرية. بيد أن الحدث الذي أثار انتباهي بحدة و جعلني أحقق معه مشاركة وجدانية عميقة كان صورة بدلة عمي أبو السعود. فهذا الرجل أول أفندي و أول من لبس بدلة في عموم الناحية يوم أن تخرج معلما . و لقد اغتبطت العائلة بذلك و اعتبرته واحدا من أمجادها الكبيرة إلى جانب الفحولة الجنسية لثيرانها. بيد أن الراوي سيستثمر هذا الحدث الفريد و يقدمه بأسلوب تراجيكوميدي من أجل تصوير جانب من جوانب الزمن الغادر. ذلك أنه على الرغم من أن عمي أبو السعود سيفلح في تحقيق مكاسب معنوية عظيمة في مجالات التربية و التعليم ( التدريس/ الكُتاب/ التفتيش/ المساهمة في إنشاء مدرسة/ ناظر مدرسة..) غير أنه لن يستطيع مع ذلك سوى الحصول على بدلتين طوال حياته، يلبسهما بالتناوب، و يكلف الراوي الصغير بحملهما إلى المكوجي من أجل الكي و التنظيف. أما البدلة الثالثة فلن يصل إليها حتى و إن جاء محصول العائلة من القطن وافرا.

يصف الراوي البدلتين فيقول:
« تلكما هما البدلتان اللتان ضجتا من حرارة جسده و لسع المكواة طوال سنوات و سنوات، يتم غسلهما مرة كل عامين بمعرفة محمد حسين المكوجي العتيق الذي تعلم أصول الصنعة في دسوق ثم عاد ليمارسها في بلدته فكان – كما يقول المأثور الشعبي – مثل ليمونة في بلد قرفانة. يقوم بتسريح الجاكيت بالإبرة الطويلة و خيط السراجة الواهن،في غرز واسعة، و ذلك لتثبيت حشو الصدر و الكتفين و البطانة، ثم يطرحها فوق تمثال خشبي لجسد فوق حامل معدني موضوع في قلب طشت الغسيل، يغمرها بالماء النظيف يرغى فوقها الصابون النابلسي بغزارة كثيفة؛ بالفرشاة الخشنة الناشفة يروح يكحت الرغوة هابطا بها بحرفنة و معلمة، تنزل كتل الصابون كطين الشوارع بعد هطول المطر، مرة و مرتين و ربما أربعة و خمسة إلى أن تنزل المياه نقية صافية . أما البنطلون فيطرحه فوق طاولة مدببة يلبسها في رجل البنطلون، و الطشت من تحتها يتلقى سيولة الوسخ المتدفقة. على يمينه – فوق الكرسي – جردل أو حلة ملآنة بالماء يغترف منها بالكوز النحاس ذي الخصر الرفيع و اليد المخروطة.
توضع الجاكيت بحاملها في حوش داره تحت وهج الشمس؛ البنطلون يطوي متدليا بالمشبك في حبل ممدود بعرض الحوش. بعد ساعات تجف تماما. » (ص36-37).
و الراوي إذ يصف عمليتي الكي و الغسل يضمّن الأسطر نغمة ساخرة تمتزج بحس مأساوي و تنكشف من خلال القراءة المتأنية. حتى التشبيه نفسه لا يخلو من أثار تلك النغمة. بيد أن ثمة حقيقة أخرى لا أظن أنها ستغيب خلال مثل تلك القراءة. و تتجلى تلك الحقيقة في شخصية المكوجي نفسه الذي يتفانى في مهمته بصدق كأن البدلة بدلته، أو كأنه يعارك في واقع الأمر الزمن نفسه و ليس البدلة. أي إن حب البدلة من لدن صاحبها عمي أبو السعود يضاهيه حب المهنة لدى المكوجي . و كأن خيري شلبي يود أن يقول لنا من خلال كل ذلك إن الحب و الصدق القديمين قد وليا و حلت محلهما اليوم قطع الغيار و الآلات الصينية و البريق الكاذب.
في خاتمة الروية سيجتمع كل أفراد العائلة الكبيرة من أجل اقتسام أموال محصول القطن. و خلال ذلك سترد الصورة التي تمثل بيت القصيد في كل الرواية حسب قراءتي. موضوع الصورة اللوحة الأخيرة ذات الرقم 31 ، المعنونة ب “أهزوجة الرضا”. و هو عنوان سحرني أكثر من عنوان الراوية ذاتها . هو مستمد من قيمة معنوية دقيقة، أو على الأصح من إحساس إنساني مرهف قد لا يكاد يجد له موضعا في زمننا المعاصر المفعم بطلب الماديات. تقول الصورة المستخلصة من لحظات الاقتسام العائلي:
« نظرتي وقعت على عمي أبو السعود، الذي اكتسى وجهه بملاءة شفافة من الحرج و الكسوف كأنهم ضبطوه في موقف مشين ، ترتعش الابتسامة المكسوفة على شفتيه كالمذنب يتلجلج بحثا عن ذريعة.
ظننت لأول وهلة أن أحدا قد أهانه على نحو ما، استعدت ما كان يقوله منذ هنيهة حينما عصر جبهته بين السبابة و الإبهام ثم قال بنبرة أليمة:
“تعرفوا يا أولاد متى فصلت آخر بدلة في حياتي؟.. كانت من حوالي عشرين سنة ”
فلم يأبه به أحد، كأنهم لم يسمعوه، فانفردت ملاءة الكسوف المربدة و غطت وجهه التعيس المقهور النبيل في آن.
كنت القريب منه طول عمري و أعرف أن آخر بلدة فصلها كانت في الواقع منذ ربع قرن مضى من الزمان، و لمست مدى زهقه من البدلتين الكالحتين العجوزتين.
في ظني أنه لو دخل الآن في الموضوع مباشرة و قال لهم بكل وضوح إنه قرر تفصيل بدلة جديدة لنفسه هذا العام بمناسبة ترقيته إلى مفتش بوزارة التربية و التعليم أو حتى بغير مناسبة، لوجد من الجميع ترحيبا و تشجيعا بل و تحريضا.. إنما ..لا.. فالغريب أنه متأكد من هذا، لكنه متأكد في نفس الوقت أن تحريضه على تفصيل بدلة جديدة لنفسه سيكلف العائلة ما لا تطيق ، إنه لواثق أن التشجيع و التحريض ليس نابعا من قناعتهم بأحقيته في تفصيل بدلة جديدة بعد طول حرمان من هذا الحق، إنما هو تشجيع على خلق ذريعة، فكل واحد سيلوح بأحقيته في تفصيل جلباب من الصوف، و سيقدم المبررات المقنعة.
خيبة الأمل في عين عمي كانت ومضة خاطفة إلا أنها كانت كشعلة من لهب لسعت الوجوه من بعيد لبعيد ثم انداحت عبر أوراق الشجر إلى الأفق الأبعد.. » ( ص 192-193).
هل هي متعة الانكسار التي يحلو للشيوخ أن يتلذذوا بها في حضرة من هم أصغر منهم سنا؟. أم هي اعتراف ضمني بالزمن القاهر الذي يجعلك تتوهم أنك على وشك الظفر بغنيمتك لكنك لا تستطيع الوصول إليها؟ أظن أن السطرين الأخيرين من الصورة يترجمان الإحساس الإنساني الذي انتاب عمي أبو السعود فشع في عينيه ثم تلقى الراوي ومضة الإشعاع ليبثها في شساعة الطبيعة ذاتها. إن خيبة عمي أبو السعود ثقيلة. و لقد أدرك بعمقه الإنساني أن همَّ جميع المحيطين به مطامح مادية ذاتية غير متعدية. و حيث إنه وعى جيدا أن الآخرين لن يستطيعوا مقاسمته ثقل الخيبة فقد راح ينظر إلى الطبيعة آملا أن يحقق معها مشاركة وجدانية فشل في تحقيقها مع البشر. إنها أهزوجة الرضا بالنصيب و القناعة و الصبر، و هي ملمح من ملامح الإنسان في بحثه الدؤوب عن الشريك و الندّ و الصاحب في دنيا الصخب. و بالطبع إن الأمر يتعلق بعبق من نعنع الجناين، لكنه عبق للأسف الشديد لا يخلو من طعم الخيبة.

اترك رد

%d