حوار مع صـــــادق غانـــــــم
أبريل 2007 م
حاوره افتراضياً: لطف الصـراري
• البدايات لا شأن لها بالنتائج في معظم الأحيان، لكن الكثير من التراتب المنطقي اللعين يصر على أننا نخطئ بداياتنا.
• تعــز مدينة تكف عن حب أبنائها عند مرحلة معينة من الحلم أو الاحتياج.
لقد احترت كثيرا قبل أن أفاتحه بنيتي في إجراء حوار معه، ربما لأني أعرف مسبقا أنه سيرفض الفكرة إجمالاً، ولهذا السبب تحديدا، عدلت عن إخباره نهائيا عن نيتي السيئة، والتي ربما اعتبرها هو أيضاً كذلك، كمحاولة لصدي عن تنفيذها و التهرب من أي ظهور لا يراه مناسباً، ولأني لم استطع التخلص من الفكرة، فقد رأيت أن أجري هذا الحوار الافتراضي مع كاتب لا تحظى كثير من الاعتبارات لديه بأي اهتمام مثلما تحظى اعتبارات المهنية الفنية. سأكون مضطراً إذن للاستعانة بعلاقة الصداقة التي تربطني به والكثير من الحوارات التي طالما استهلكتا في مقيلنا وأسمارنا طيلة شهور.
قبل أن أبدأ، أود التنويه إلى أن المعني بهذا الحوار هو: الكاتب، الروائي/ صادق غانم، صاحب النزعة التفكيكية في كل شيء حتى أغلفة وأوراق الكتب التي يلتهمها دون هوادة. لا أدري إن كان علي أن أبدأ بداية تقليدية مع كاتب غير تقليدي؟ لكن ربما علي أن أبدأ كالتالي:
• صادق غانم، أي شكل من البدايات يعجبك، أنت الذي تبدأ أشياء كثيرة دون اهتمام للظرف الموضوعي لكل بداية، ودون الجزم بأية نهاية؟
• الرحيل دائما إلى نقطة البداية شيء مقرف، ولكننا لم نجد أفضل منه. هل يوجد لدينا خيار آخر؟ قل لي أنت. البدايات لا شأن لها بالنتائج في معظم الأحيان، لكن الكثير من التراتب المنطقي اللعين يصر على أننا نخطئ بداياتنا، ولذلك لا نصل إلى نتيجة مرضية. هذه ليست تسويات عادلة بأي حال.
• ألا تلاحظ أنك تتحدث بـ”نا” الجماعة! هل هذا تحول يوحي ببداية جديدة؟
• أووووووووه.. انتبه يا صديقي! هذا أنت الذي تتحدث وليس أنا.
• لم يكن يجدر بك أن تنبهني لذلك. لقد ارتبك سياق الحوار وعلي أن أبدأ من جديد. لماذا لا تهدأ حتى وأنت افتراضي؟ أرجوك.. حاول أن تصمت في المرة القادمة عندما يعتريك هذا النزوع اللعين. اتفقنا؟
• ………………………………………
• كما تريد. لكن دعني أقول لك شيئاً؛ في(الانطفاء بتقانة الهذر)، يروي خليل “اعترافاً غير عادي”، فيقول: (أنا أناني …، وإن كنت لا أدين سلوكي هذا إلا أنه يؤلمني – بشكل مبهم – الاعتراف بحيازتي لهكذا صفة.)؛ هل يمكن أن تسبب الأنانية الكثير من المتاعب لصاحبها؟
• الاعتراف هو المؤلم، خاصة عندما ترى أنك الوحيد الذي يقر هكذا اعتراف. وربما كنت مخطئاً بتقديرك لبعض الأمور، مع ذلك، فلا يمكن أن تكون مخطئاً في كل شيء. هناك أخطاء ليست من صنعنا، ونحن نتحمل نتائجها دون أن يسمح لنا حتى بالإشارة إلى مرتكبها. ليس خطأ الإنسان أنه أناني، وأنا مع عدم الاعتراف بالأنانية طالما كان ذلك ممكناً.
• هل يفترض بالكاتب أن يكون أنانياً أو أن يعتد بذاتيته، على الأقل، لدرجة الأنانية؟
• بل قل: هل يفترض به ألاّ يكون كذلك؟
• لم أفهم قصدك!
• حتى أنا لا أفهم.. (مدريش……..)
• كتبت الكثير من النصوص القصصية، وعلى حد علمي، فقد نضدت بعضها في مجموعة وسلمتها قبل ثلاثة أعوام لاتحاد الكتاب اليمنيين، ولديك رواية (الأخرس) التي لم تقتنع بإنهائها إلى الآن، حتى أنك بدأت بمشروع رواية جديدة بحماس كان يبدو قابلاً للانطفاء في أية لحظة، هل تأثر مشروعك الروائي بسبب من تعثر نشر مجموعة (إشهار القلق كحنين)؟
• لا أخفي تأثري من إرجاء نشر مجموعتي، رغم أن وزارة الثقافة أصدرت مئات الأعمال في العام2004م، وأصدر الاتحاد أعمالاً أخرى بعضها قدم بعد (إشهار القلق). لكني أيضاً أحتمل، وعلى نحو أعتبره أكثر دقة، أنني تأثرت بتفكيري بأسباب تعثر نشر المجموعة. ولو كانت لدي إمكانية النشر على نفقتي الخاصة، لكنت استوضحت الكثير من الأسباب بشكل واقعي. ومع ذلك فأنا أحاول أن ألاّ أتوقف عن الكتابة حتى في ظل تعثر الإصدار.
• قبل أيام غادرت تعز إلى صنعاء، هل لأنها لم تعد تعني لك أي ارتباط مكاني، أم أن هذا ضمن مساعي الكاتب لإثراء تجربته؟ وهل لمغادرتك علاقة بمغادرة مشابهة لكتاب آخرين من أبناء تعز؟
• إذا كنت تذكر بعض الأحاديث التي كنا نلوكها، فقد قلت أكثر من مرة أن تعز مدينة تكف عن حب أبنائها عند مرحلة معينة من الحلم أو الاحتياج. هاجس المغادرة كان لدي منذ فترة، وكنت أنتظر لأسباب مختلفة، كان أهمها إكمال ليسانس الفرنسية، ومن ثم تعزيز الدافع لهذه المغادرة. ولأن صنعاء مستأثرة بخاصيتها كعاصمة، تبدو لي أقرب محطة يمكن أن أتوقف فيها حتى أستعيد أنفاسي والمغادرة مرة أخرى إلى حيث أجد ما أريده ممكناً. وليس لاختياري صنعاء علاقة بكتاب آخرين سوى أنهم أصدقائي ولدينا أشياء متشابهة يمكن أن تجعل عبء الزمان والمكان قابلاً لأن يطاق بدون إحباط.
• هل أنت متفائل بهذه المغادرة؟
• اسمح لي.. هذا سؤال غبي أو متغابي، هكذا أراه. وبالمناسبة، أنا لا أعرف ماذا يقصد الناس بهذه المفردة. أما على صعيد معرفتها كشعور، فربما كان البحث عن معنى للسعادة أجدر بالاهتمام، وهذا ما أستطيع تشبيهه بعذاب (سيزيف)، ومع ذلك فأنا (أتفاءل) بطريقتي الخاصة.
• قمت بمبادرة إقامة معرض شخصي للفنان الصديق/ ريان نجيب، كان ذلك في شقتك التي أقمت فيها العام الماضي بتعز أو كما اصطلحنا على تسميته آنذاك بـ”بيت صادق للفن”، هل ما زالت لمثل هذه المبادرات إمكانية للظهور؟
• المبادرة فعل جميل أقوم به بدون حماس مسبق. وإذا جزمت الآن أنني سأكرر ما قمت به، فهناك احتمال كبير لعدم القيام به. كان معرض ريان شيئاً جميلاً بالنسبة لي، وعندما أتذكر مثل هذه الأشياء الجميلة، أشعر بالارتياح لمجرد أنني قمت بها. لقد كنت أنت كذلك مساهماً في إقامة معرض ريان و أظنك تتفق معي أنه كان رائعاً، ورغم أن بعض “العقلاء” قد اعتبروا ما قمنا به مجرد “زنقلة”، إلاّ أنها كانت زنقلة جميلة ونعتز بها. أليس كذلك؟
• نعم، لقد كان جميلاً بكل ما فيه من بساطة و “زنقلة”. …………………….. هل تسمح لي بسؤال عام؟
• …………………………..
• لا لا، أرجو أن ترد. حتى بنعم أو لا.
• هذا يعتمد على طبيعة سؤالك..!
• إذن، هل يمكن أن أعرف رأيك حول المشهد الأدبي في اليمن! تحديدا، ما يتعلق بالقصة والرواية، نحن نسمع ونرى الكثير عن إقامة ندوات نقدية، على المستوى العربي، تتناول الرواية الـ”كذا”، مصرية، سورية، مغربية، جزائرية…الخ. لا أحد يتحدث عن الرواية اليمنية رغم وجود نماذج روائية منذ عشرات السنين.
(قهقهة متوثبة، مع هزة رأس يميناً وشمالاً، بدلاً من الصمت).
• ربما أسأت فهمي. لا أقصد أن تطلق أحكاماً عامة، كل ما في الأمر أن فضولاً من نوع ما يعتريني لاستيضاح ندرة النقد في المشهد الأدبي الذي ربما يتحسن بتلاشي هذه الندرة.
• أولا، أنا لست ناقداً، ثم أن ما تسميه الندرة ليس من شأني أن أُحولها إلى وفرة نوعية. هناك كمية وافرة من النقاد أو من يعتبرون أنفسهم كذلك، لماذا لا توجه هذا السؤال لهم؟ أما إذا كنت مصراً على معرفة رأيي، فسأقول لك أن الحراك النقدي والحراك الإبداعي لا يتطور أحدهما إلا بتطور الآخر، وما دام الكاتب لا ينظر سوى من الزاوية المتعارف عليها لدى الناقد، فسوف يظلان كلاهما (عمياء تخظّب مجنونة)، لا الكاتب تحرر من رهابه ولا الناقد خفف حدة وصايته. وهذه هي الأحكام العامة التي لا تقصدها.
• هل لنا أن نتعرف على طريقتك في الكتابة؟
• أكتب بأي نوع من الأقلام وعلى أي نوع من الورق، وأفضّل الكتابة على لوحة مفاتيح الكمبيوتر.
كلانا يبتسم باتجاه الآخر للحظة، ثم نواصل:
• متى سنقرأ جديداً لصادق غانم؟
• بعد أن أكتب هذا الجديد ويصبح قابلاً لأن يقرأ.
• هل معاييرك صارمة في السماح لأعمالك بالظهور؟
• ليس هكذا تماماً، لكني لا أحب أن أزعج القارئ بأعمال غير مرتبة. يكفي أشيائي المبعثرة داخلي.
• لننتقل إلى الأحكام العامة التي أقصدها هذه المرة، ماذا تعني المرأة لصادق غانم؟
• كائن من حقه أن يعيش مثل الآخرين.
• الأدب؟
• اقرأ (الأدب الملتزم) لسارتر، و (بيان السريالية) لأندريه بريتون. وما تتوفر عليه لـ”ميشيل فوكو”.
• الحلم؟
• فرناندو بيسوا، وكل ما يخصني.
• فرانز كافكا؟
• تمثيل أفضل من اللغة.
• أراك تتململ قليلاً! هل مللت الحوار يا صديقي؟ إذا رغبت بمغادرتي فلا بأس.
• تقصد الاستجواب…! أخيراً فهمت، هذا جيد.
• (وإذاً)! هل سنلتقي قريباً؟
• بالتأكيد سنلتقي، و لكن ليس قبل أن تهدأ الضوضاء قليلاً.