الفنانة جنان جرجيس ونشوة الابتكار في معرضها الفني (لغة الأقمشة)
علي إسماعيل علي
دافينشي،دالي، بيكاسو،فان كوخ، هل كانوا أنبياء مقدسين أوحى الله إلى ريشهم بسر من أسرار جماله؟
لا، بل كانوا بشراً. إنهم أشخاص ساروا على الأرض ومشوا في مناكبها. و لكن، ما سر خلودهم وخلود أعمالهم؟.
ذاك هو سر اللحظة الخالدة، اللحظة التي تقرر أن تكون فيها مميزا بما فيه الكفاية.
هؤلاء الفنانون العظام لم يشاءوا أن يكون مرورهم على الدنيا كمر الكرام ، تركوا بصماتهم المميزة التي أصبحت فيما بعد تعرف كمدارس في عالم الفن التشكيلي كالمدرسة الواقعية والمدرسة السريالية والمدرسة التكعيبية والمدرسة الرمزية وغيرها.
غير أن هؤلاء الفنانين على اختلاف مدارسهم -هم ومن تأثر بهم- جددوا في شكل الفن التشكيلي ومضمونه فقط ولم تطل أيديهم أدوات الفن ذاته، فالريشة ظلت الريشة،قلماً أم ريشاً أم أي أداة حادة أو غير حادة استخدمت في نثر الألوان ، واللون ظل اللون مائياً أم زيتياً أم فحمياً .فلم يتحرر الفن التشكيلي من ثنائية اللون والريشة وظل فنانوه حبيسي الريشة واللون يرسمون بهما أعمالهم الرائعة التي وان اختلفت أشكالها ومضامينها إلا أنها تبقى في الأخير أعمالا لم تكن لتوجد لولا الريشة والقلم.
جنان جرجيس، الفنانة اليمنية الجنسية العراقية الأصل ، تلك المسكونة بحضارة البابليين والآشوريين والسومريين والكلدانيين والأكديين ، الغارقة في تفاصيل الحضارات السبيئة والحميرية والمعينية ،كانت وما تزال تمارس عشقها للحلم الحلم في حد ذاته ، ليس حلم التجديد فحسب بل حلم الابتكار. لم لا، وهي الدارسة الأكاديمية لفن التصميم الصناعي ، ومهنة المصمم الصناعي كما يقولون تأتي في قمة الهرم الوظيفي بعد ملائكة الرحمة ، فالمصممون الصناعيّون هم المسئولون عن ابتكار الجمال في كل ما هو محيط بنا من أدوات ومعدات بدءاً بشوكة الطعام في مطابخنا و انتهاءً بالتفاصيل الدقيقة لمقعدك في أحدث الطائرات.
ولكن في ظل غياب التصنيع في الوطن العربي ماذا يمكن ان يبتكر المصمم الصناعي؟ ولمن تبتكر؟ ومن هنا اتجهت جنان جرجيس مثلها مثل الكثير من زملائها وزميلاتها إلى استغلال طاقتها الابتكارية في الفن. فعملت كمصممة للأزياء والديكور والإكسسوارات في دائرة السينما والمسرح في بغداد وشاركت بعد تخرجها مباشرة من أكاديمية الفنون الجميلة في جامعة بغداد بتنفيذ العديد من الأعمال الفنية الإبداعية على مستوى السينما والتلفزيون والمسرح.
كانت مسرحيات جنان تحصد الجائزة تلو الجائزة في كل مكان ، فمسرحيتها (المومياء) التي وصفت بشاعة الحرب الموجهة ضد الحضارة العربية تنقلت بين مهرجانات بغداد المسرحية والقاهرة التجريبي وليالي قرطاج المسرحية لتحصد العديد من الجوائز كأفضل مصممة أزياء عربية.
و إن ظل نشاطها محصوراً في مجال الفن فأن ذلك لعدم وجود دور للأزياء في اليمن التي اختارتها جنان جرجيس كموطن دائم لها تحمل جنسيته وتعيش في كنف زوجها الشاعر والمؤلف المسرحي عبدالقادر صبري الذي ينتظر بدوره أن تشق مسرحياته طريقها نحو الجماهير كما تفعل أعمال زوجته الآن.
لغة الأقمشة كان هو العنوان الذي اختارته الفنانة جنان جرجيس لمعرضها الذي فاجأت به الجميع و أدهشتهم. فجميع لوحات المعرض رسمت دون استخدام قطرة لونية واحدة ، وطبعا دون وجود شعرة لريشة مها كان نوعها. فلم يكن ثمة غير القماش والقماش
فهذه الفنانة التي جاءت من عالم الأزياء والأقمشة إلى عالم الفن التشكيلي بقلب متدفق وروح متمردة و أفكار لا تحب الظل أبدا .. جعلت من اللحظة ابتكاراً حين قررت أن ترسم لوحاتها (بالقماش) وليس على القماش كما هي العادة في الفن التشكيلي.
لم تكن جنان تميل إلى الأضواء لنقول أنها ابتكرت طريقتها في الرسم هذه من باب (خالف تعرف)،فهذه الفنانة التي في سجلها ما يربو على الخمسة عشر عملا مسرحيا ، وثلاثة افلام سينمائية ، وعشرات المسلسلات و البرامج التلفزيونية الناجحة، لم يشاهدها احد يوماً تقف على خشبات المسارح مع طاقم العمل المسرحي لتحية الجمهور بعد كل عرض كما هي تقاليد المسرح. بل كانت تغادر القاعة بمجرد أن يقفل الستار تجبنا للأضواء.
كما انه لم يسجل ان قامت بالإدلاء بتصريح صحفي واحد لأي مجلة أو جريدة أو وسيلة إعلامية كانت ، رغم تنقلها بين العديد من البلدان العربية ودول العالم.
إنها فنانة مسكونة بهاجس الإبداع و الإبداع فقط ، ظلت تبدع وتبدع إلى أن ابتكرت هذه الطريقة العصية في تكوين العمل الفني والتي و إذا لم تتحول إلى مدرسة جديدة لاحقاً – وهذه مسألة لا تهم جنان جرجيس حسب تعبيرها- فإنها حتماً ستبقى محتفظة بسر الدهشة الأولى التي تركتها في أذهاننا ونحن نتنقل بين أرجاء معرضها الفريد.
لقد حاولت جنان جرجيس أن تقتحم عالم الفن التشكيلي مجردة من كل أدواته و أسلحته فرسمت دون إراقة قطرة واحدة من ألوان القزح الشمسي ، وأبدعت دون أن تجترح حتى ولو نصف ريشة من جسد طائر هزيل ، فجاءت أعمالها أشبه (بمنحوتات )على القماش ومع ذلك فهي لم تستعمل حتى دقة إزميل واحدة.
هذه الفنانة التي تعشق القماش لفتنا بالكثير الكثير من خيوطه الحالمة لتشكل لوحاتها من دهشة أفواهنا الثاغرة فكيف كان لها ذلك.
لغة الأقمشة، وما من لغة غيرها، خاطبتنا بها الفنانة عبر لوحاتها الواحد والثلاثين المنتشرة عبر قاعة العرض وعبر أروقة البيت الألماني للتعاون والثقافة بصنعاء ، فها قد دوّى صوت السيد (جيدو سيبيتش) المدير التنفيذي للبيت الألماني باليمن معلناً دخول الفن التشكيلي مرحلة جديدة انطلقت من صنعاء لكن لا احد يعرف أين ستستقر.
ومن وضوح العنوان استشفت اللوحات شفافيتها وصدقها واكتست بروح الفنانة التي يعرف عنها المقربون منها عشقها للوضوح حد السطوع وللصراحة حد الإدماء. ورغم جرأة ُثقافة جنان جرجيس المتمردة على كل صنوف التقليد والرتابة الطاغية على الفن العربي – كما تصفها مجلة (أراميكا )الأمريكية في عددها الصادرس في شهر مارس 2007م- إلا أنها تجنبت الاصطدام بذوق الجمهور في معرضها الأول ،فجاءت أعمالها متراوحة بين الرمزية الشديدة حين عبرت عن زيف الرجال بشفه حمراء وعن مكرهم بالأعين المغلقة (لوحة رجال) في حين عبرت عن وضوح النساء بأعين مفتوحة للهواء والشمس على اتساعها (لوحة نساء) إلى واقعية بسيطة رسمت فيها صورة ببراعة الشاعرة العراقية الرائدة (نازك الملائكة)
فلماذا نازك؟
تقول جنان جرجيس : “نازك كانت البداية ومن عينيها انطلقت شرارة الفكرة، فمنذ أن أتممت قراءة الأعمال الكاملة للشاعرة نازك الملائكة من كتاب كان يزين احدى أرفف مكتبة زوجي وأنا مسكونة بسحر هذه المرأة العظيمة التي خطت للشعر العربي خطاً جديداً من الإبداع و أرسلته على سجيته بعد أن حررته من كافة قيوده الرتيبة. ومع ذلك هاهي تمضي وحيدة في فراش الموت في احد مستشفيات القاهرة . حينها أحسست برغبة شديدة في تخليد ذكراها . فكرت في أن أرسم وجهها بالطريقة التقليدية ، ولكن نازك لم تكن يوماً امرأة تقليدية، وحينها لمعت في ذهني فكرة قص القماش إلى دوائر صغيرة و أصغر ومن خلال تجميع المئات من هذه الدوائر في لغة متجانسة رغم اختلاف ألوانها وخاماتها استطعت أن ارسم وجه نازك الملائكي، وفي كل مرة يشاهد فيها احد ضيوفي الصورة ويتعرفون على(نازك) دون مساعدتي كانت ابتسامتها تزداد إشراقا فقررت أن أكمل مشوار الابتسامة “
قراءة سريعة لبعض لوحات المعرض:
عشتار : إلهة الحب والخصب والجمال عند الآشوريين تلك الجميلة التي تزين تاجها ثلاث وردات ترمز إحداها إلى الحب والأخرى إلى الخصب الثالثة الى الجمال كانت اللوحة التي تتوسط المعرض والتي اختارها البيت الألماني كغلاف لبطاقات الدعوة لكن الفنانة ربما أرادت من خلال اختيارها لهذه اللوحة ان توجه رسالة المحبة والسلام ورغبة العالم في العيش من اجل الجمال وبالجمال. ولقد ساعدت هذه الطريقة في إضفاء بعدا واقعيا للوحة اذ ارتدت عشتار تاجا حقيقيا تعلوه وردات حقيقيات
دون كي شوت – الفارس النبيل الذي أفنى حياته يحارب طواحين الهواء استطاعت الفنانة أن تقدمه بأسلوب ساخر، وفي رؤية جديدة للوحة (سلفادور دالي) إذ أظهرته متكئا على سيف من القماش سرعان ما يمكن أن ينهار فماذا عساه أن يفعل هذا السيف في زمن الأسلحة الفتاكة التي تسبب الموت والدمار لأطفال العراق وفلسطين والصومال و أفغانستان في كل لحظة وفي كل آن من الأوان.
إلحاح الذاكرة2007: لوحة سلفادور دالي الشهيرة والتي يظهر فيها ساعات منشورة على حبل الغسيل، كانت التحدي الأكبر،إذ كيف يمكن إظهار كافة التفاصيل الدقيقة للساعات وعقاربها باستخدام دوائر القماش فقط ،لكن الفنانة أبتت مرة أخرى وبجدارة أن لغة القماش لا حدود لعبقريتها و أن القماش بميوعته هو الأقدر على التعبير عن الساعات المايعة والنهايات المتماهية في أشارة واضحة إلى احتجاج الفنانة على تمييع القضايا المصيرية الكبرى رغم الحاجة الملحة إلى حلها ومن خلال تجميع آلاف القطع الدائرية من مختلف أنواع الأقمشة وبصبر و إلحاح لا تعرفه ألاّ فنانةٌ مثابرةٌ تعرف تماماً ماتريد ، وتصر على الوصول بكل ثبات إلى مبتغاها.
لقد نجحت الفنانة في تجسيد رؤية معاصرة لدالي الذي احتج على ما هو أقل خطورةً من عالمنا المليء بالتلوث البيئي و المدجج بأسلحة الدمار الشامل والمشوب بالاستغلال الدائم لقدرات وثروات الشعوب المنهكة في زمن العولمة المفترسة.
ملوك: ولأن الملوك والحكام هم وراء المأزق الذي تمر به البشرية في ألفيتّها الثالثة فقد سخرت منهم الفنانة بأسلوب ذكي لا يخلو من الإبداع ، فأظهرتهم على شكل سلالة تتوارث التيجان الكبيرة والأعين الموحشة كسواد قلوبهم فيما ترتسم على شفاههم ابتسامة بلهاء فارغة من أي نوع من أنواع الحس الآدمي لتعبر عن جمود مشاعر رجال السلطة وتبلد أحاسيسهم وبرودتها.
مارلين وشارلي: لقد تركت (مارلين مونروا) ملكة الإغراء في السينما العالمية أثراً بعيد المدى على الساحة الفنية العالمية لا يعادله سوى ذالك الأثر الذي تركه الفنان الانجليزي العالمي (شارلي تشابلن) ومن خلال اختيارهما كشخصيات لمعرضها ربما أرادت جنان جرجيس أن تتحدى نفسها حين قرر ت أن ترسمها بالأسلوب التجريدي وبدون إظهار تفاصيل الوجه ، وهنا لجأت إلى الحركة والإكسسوارات فبدت مارلين واضحة المعالم من خلال التقاطها في أشهر مشاهدها التي ظهرت فيها حين عبثت الريح بفستانها الأحمر القصير على مداخل احد الفنادق المشهورة آنذاك. أما شارلي فلقد كانت عصاه وقبعته اللتان لازمتاه طيلة حياته أدل دليل عليه غير أن قبعة شارلي البائسة حظيت عند جنان جرجيس ببعض النجوم التي رصعتها ربما كمكافأة على عطائه الجميل وجهده الرائع في زرع الابتسامة على قلوب الملايين من البشر حينما كان العالم في أمس الحاجة إلى نصف ابتسامة إبّان الحربين العالميتين المدمرتين اللتين شهدهما عصر شارلي.
اليمن : بحضارته وتنوعه عاش في مخيلة الفنانة جنان جرجيس منذ طفولتها وحتى قبل أن تطأ قدمها هذا البلد الحالم. تقول جنان جرجيس “أنها كانت تستوحي الكثير من خطوط موضاتها من الأقمشة والأزياء اليمنية المتنوعة ، وحينما جاءت إلى اليمن حاولت أن توثق هذا التراث الغني بتأسيس دار للفلولكلور والأزياء اليمنية، إلا أن المشروع لم يكتب له النجاح رغم موافقة الرئيس على عبدالله صالح عليه حينها .
و في معرضها كان أن أفردت جنان للحضارة اليمنية أكثر من خمس لوحات حيث رسمت القلائد اليمنية التي تشتهر بها صناعة الحلي والفضة و أضفت على القلائد بعداً حقيقيا حينما رصعتها بالفضة وبالأحجار الكريمة الحقيقة.
أما لوحة باب اليمن فهي كفيلة بالتعبير عن نفسها وعن فرادة الطراز المعماري اليمني عبر العالم.
ومن خلال لوحة شموع يمنية استطاعت الفنانة أن تجسد شفافية الحياة اليمنية ،ذلك باختيارها الذكي للفوانيس اليمنية القديمة مظهرة الشموع وهي تتلألأ من داخل الفوانيس لتعبر عن المستقبل المشرق الذي ينتظر هذا البلد الخير الذي تحمل جنسيته وتفخر به.
وهكذا .. و أنت تتنقل بين أرجاء معرض الفنانة المبدعة جنان جرجيس تشعر أنك تريد أن تتوقف أمام كل لوحة لساعات طوال ، بل تشعر أن اللوحات هي التي تحدق فيك وتفترس أفكارك، ومن أي زاوية أتيتها فإنك تلحظ بعداً جديداً لكل لوحة وبشكل مثير للدهشة والانفعال في آن واحد،فمن اندهاش بالأسلوب الفريد الذي اختارته الفنانة لتعبر عن نفسها به، إلى انفعال مفعم بالإجلال والتقدير لحجم المجهود الكبير المبذول في كل لوحة إلى اندهاش بتنوع الأفكار وتمايزها اللامتناهي.
انك تشعر باختصار أنك في مكان لم تكن يوما فيه و أنك أمام لحظة قد لا تتكرر، ربما تشبه تلك اللحظة التي قرر فيها كل من بيكاسو ودالي و دافينشي أن يجمدوها كي يبثوا فيها سر خلودهم المذهل.
صنعاء-12-ابريل-2007م