الشاعر اليمني طه الجند في مجموعته (أشياء لا تخصكم)

محاولة لإيقاف السفلة من أجل سرد الحكاية
أو: عن وطن يبدو لبقاً على الخريطة

أحمد السلامي

بين جيلين
تأخرت قصيدة النثر طويلاً عن التبلور داخل المشهد الشعري اليمني قياساً بتحولاتها في المشاهد الشعرية العربية الأخرى، فقد ظلت هذه القصيدة إلى بداية عقد التسعينات من القرن الماضي مجرد شكل شعري عابر يستضيفه بعض شعراء الأجيال السابقة في حالات نادرة بجوار إخلاصهم العميق لقصيدة التفعيلة ، بل وللقصيدة البيتية .
إلا أن عقد التسعينات شهد ولادة جيل شعري جديد، لم يحفل كثيراً بتجارب الأجيال الشعرية المحلية السابقة، واتخذ لنفسه مرجعيات شعرية عربية وعالمية بحكم الظروف التي توفرت في التسعينات وأدت إلى انفتاح المشهد الثقافي اليمني على المشاهد الثقافية الأخرى، إلى جانب ظهور المواقع الأدبية العربية على شبكة الانترنت، وهذا ما سهل لعدد من الشعراء الانفتاح على التجارب الشعرية الأخرى والبحث عن مرجعيات جديدة لتجاوز النموذج المحلي الذي ظل ومازال وفياً للإيقاع الشعري الصاخب وللطبيعة المنبرية الطاغية على الكتابة الشعرية في اليمن.
كما أن وصول المطبوعات والصحف العربية بكثافة إلى اليمن ساعد على التعمق في المشهد الشعري العربي الذي التقط خيوطه وآفاقه مجموعة من الشعراء الشباب، فيما ظلت زمرة من أصدقائهم على صلة وطيدة بالنموذج المحلي الذي ترسخت جذوره على يد شعراء كبار في مقدمتهم الشاعر الراحل عبد الله البردوني.

ارتباك ومكابدة

يأتي الشاعر طه الجند الذي عانت تجربته في بدايتها من حالة ارتباك واضحة فتأجل بذلك مشروعه الشعري لفترة من الزمن أصدر خلالها تجربته الشعرية الأولى ” مراث لزمن الجراد ” وبعد توقفه عن النشر لمراجعة تجربته الشعرية فاجأ طه الجند الساحة الشعرية في اليمن بصدور مجموعته الشعرية الثانية ” أشياء لا تخصكم ” وهي المجموعة التي قدم من خلالها صوته الشعري الخاص بعد مكابدات أوصلته إلى بلورة رؤية جديدة لما ينبغي أن يكون عليه الشعر في وعيه وفي ممارسته لكتابته.

يقسم الشاعر مجموعته إلى ستة محاور فرعية تحمل العناوين التالية:
ـ أحوال في البر
ـ شهادات ميدانية
ـ حكايات أول القرن
ـ أشياء لا تخصكم
ـ مهن بعض الكائنات
ـ من أقوال العابر

يقفز طه الجند على كل التنظيرات التي كتبت حول قصيدة النثر، بعد أن اكتوى في بداية تجربته بنار التصورات الجاهزة حول الشعر، فنجده في نصوص مجموعته الجديدة راصداً لوقائع حياتية يومية تتفوق على الخيال الشعري بحيث يتحول الواقع الذي يعيشه الشاعر إلى محفز شعري في حد ذاته .
من هنا ومن خلال الوعي الذي يحيط بالذات وبما تعايشه منذ الطفولة أستطاع الشاعر أن يحدث قطيعة واضحة بين تجربته الأولى وتجربته الثانية ” أشياء لا تخصكم” التي ارتكز في كتابتها على قدر كبير من الاستسلام لصوته الداخلي ولمخاوفه وهواجسه الخفية التي يسردها بتلقائية تتحول بدورها إلى جسر لتأمل مشاهده الحياتية وذكرياته الدفينة، وبذلك تصبح الرؤية الشخصية للشاعر تجاه العالم من حوله وتجاه عوالمه الداخلية أقوى من التنظيرات النقدية التي تحاول أن تؤطر الشعر دون أن تتمكن من احتواء تشعباته ومنابعه التي تتيح لكل شاعر أن يبتكر أو أن يعثر على نبعه الخاص.
تحتشد المجموعة بصور شعرية ومفارقات عديدة تقوم على الجمع بين الأضداد كما نرى في عنوان النص الثاني من المجموعة “غموض ساطع ” :

ـ كم يحتاج الجدب من الرعود لينبت ص 10

إلى جانب ذلك لا تخلو المجموعة من ملامح السخرية والتهكم في بعض نصوصها، كما أن اتجاه الشاعر نحو كتابة أغلب نصوصه في قالب قصيدة النثر جعله يلجأ إلى الاستعانة بالسرد في النصوص الطويلة باعتبار أن السرد هو الحامل الأسلوبي البارز الذي تمتاز به قصيدة النثر.
وفي عنونة نصوص المجموعة نجده يتجه في أغلب العناوين إلى الاكتفاء بكلمة واحدة، وفي أغلب النصوص نجد أن العنوان لا يكتفي بكونه مجرد سهم للإشارة إلى النص بل إنه يصبح جزءاً من النص ذاته بحيث لا يمكننا عزل العنوان عن السياق القرائي والدلالي للنص.
تتضمن المجموعة الكثير من الإشارات التي تصف اللحظة الشعرية وآلية تعامل الشاعر مع تجربته، ففي حين ظهرت تجربته في ديوانه الأول تتقصد الشعر وتسعى خلفه بعناء كبير دون أن تتمكن من الإحاطة به، يقول في النص الأول من مجموعته الجديدة:

ـ بلا ملامح جاءت الكلمات ص10
هنا يعثر الشاعر على جمرة الشعر من خلال سعيه لنفي (ملامح الكلمات) تلك الملامح المستهلكة التي أحتاج الشاعر لنفيها لكي يؤسس لتجربته ملامحها الخاصة.

تجفيف جثة الغريق

في نصوص المحور الأول من المجموعة الذي حمل عنوان (أحوال العابر) نقرأ نصاً بعنوان (تربص):

كم يحتاج الغريق لتجفيف جثته
والذهاب إلى الجحيم دون مساعدة الآخرين
هذا ما فكر به البحر حين رآه
أما هو فقد ابتسم لألمعيته:
سأستدرج الموج إلى البر
وحين يصير حفرة ضحلة أملؤها بالرمل
هكذا أريحه من اللهاث والتبجح ص11

في هذا النص يتوحد الشاعر بالغريق أو يستعير ثنائية البحر والغريق ويصعد بفكرة النص إلى مستوى شعري يؤنسن صراع الإنسان مع الطبيعة ويمنح الأخيرة فرصة للسخرية من الإنسان/الغريق الذي بدوره يتحول إلى ند عنيد له أيضاً خططه للإيقاع بقوى الطبيعة والسيطرة عليها.

لباقة الوطن على الخريطة

يسخر طه الجند من الوطن دون أن يسميه لكنه يشير فقط إلى التناقض بين صورتين مختلفتين للوطن، الأولى صورة رسمية تتأمل الوطن على الخريطة وفي الكتب المدرسية، والثانية صورة للوطن في الشتاء القادم بما يحمله من جفاف وجدب:

كم تبدو لبقاً على الخريطة
وسمحاً في الكتب المدرسية
بربك هل هذا يكفي
لإنضاج المناسبات الخرساء
ومطاردة الشتاء القادم ص12

لطالما تغزل الشعراء بالوطن وكتبوا من أجله القصائد التي تضج بالحماس وتفتديه بمهج الأرواح وبالحب المعمد بالدماء، وهاهو يتحول لدى الشاعر هنا إلى مجرد بقعة في الخريطة واسم في كتب المدرسة لا يقدر على حماية أبنائه من فصول الفاقة وشتاءاتها المتوالية.
وعلى غرار الوطن كمفهوم هلامي بات يبتلع أهله ويطعمهم أناشيد مناسباته، حظيت المدينة العربية باهتمام الشعراء الذين مازالوا ينسجون من اجلها الكثير من الشعر، لكن طه الجند يكتب نصاً بعنوان (صنعاء) يغيب فيه المكان ويبحث عن أي ملمح إنساني يربط بينه وبين المدينة دون أن يعثر عليه:

لم ألمح ضفائرها من بعيد
لم نلتق في ميدان عام ص15

وعلى نفس السياق يقول في نص آخر :

لم أشارك في معارك الدفاع
لكنني بطل
بطل رغماً عنهم
الأوسمة فقط للجبناء
وغبار القطيع ص16

كانت قصيدة النثر العربية وما تزال عبر تجاربها المتعددة تعبر عن انحيازها للذات الفردية والهواجس الشخصية، لهذا السبب يعتبر الكثير من الدارسين هذا الشكل الشعري الجديد ابناً شرعياً للحياة المدنية بخصائصها المختلفة التي تنمي الشعور الفردي في مواجهة الشعور الجمعي، غير أن طه الجند الذي نتأمل هنا في بعض نصوص مجموعته (أشياء لا تخصكم) يتعامل مع قصيدة النثر برؤية تنطلق من الشأن الذاتي ومن القلق الشخصي وصولاً إلى البحث عن تجسيدات هذا القلق في الآخرين من حوله.

وجبات أمريكية أو حمولة الـ (بي 52)

في قسم آخر من المجموعة بعنوان (حكايات أول القرن) يسجل الشاعر خلاصة تأملاته لأحداث الحرب الأمريكية على العراق عبر خمس حكايات شعرية يستحضر فيها أحداث الحرب بنبرة ساخرة، كما تحضر مفردات (بي 52- المارينز- السي إن إن – بغداد – البنتاجون – أمريكا)، يتأمل الشاعر الأحداث بيأس ممزوج بالسخرية لينقل للقارئ صورا شعرية تعبر عن الأجواء النفسية التي طغت على من تابع ويتابع تلك الأحداث:

– … الـ بي 52 توزع الوجبات السريعة
واللعب الملونة على الأطفال
حتى لا يدركهم الملل
……………………….
………………..
– لنذهب إلى النوم مبكرين
ونغلق أجهزة التليفزيون
حتى لا يفاجئنا المارينز بالقفز منها
إلى غرف النوم
للقبض على المشتبه بهم (ص45)

من يتابع طه الجند عن قرب يعرف أنه يجيد تقديم نصوصه الشعرية للمتلقي عبر منصة الإلقاء بشكل مسرحي ملفت، لهذا السبب تبقى المنصة حاضرة في وعي الشاعر أثناء كتابته للنص.
فنجده في مقطع بعنوان (الحكاية الثانية) يختتم سطور المقطع بجملتين قبل أن ينتقل إلى الحكاية الثالثة:

قفوا أيها السفلة
حتى نكمل الحكاية (47)

كأنه هنا يوقظ الجمهور أو يستبقيهم للإستماع إلى بقية الحكايا المؤلمة عن الحرب وقاذفات القنابل العنقودية، بل كأن هاتان الجملتان كتبتا خصيصا لمنصة الإلقاء الشعري.
ويختتم حكاياته عن الحرب وعن أمريكا بحكاية أخيرة عن الحذاء الأمريكي :

أمريكا / حذاء ضيق
سيلقي به المسافر/ في المحطة القادمة
ويكمل رحلته خفيفا
كالفراشات البرية (48)

 

لمجرد زيادة الصفحات

في المجموعة عدد من النصوص المموسقة على نمط قصيدة التفعيلة، وهي من بقايا حنين الشاعر إلى تجربته الأولى، غير أن إيقاع التفعيلة في بعض تلك النصوص يبدو محايداً بفعل سيطرة الشاعر على الإيقاع لصالح الدلالة في النص.
لكن وجود مثل هذه النصوص الإيقاعية داخل مجموعة نثرية يحدث شرخا صوتياً لدى القارئ الذي يكون مستمتعا بتتابع النصوص النثرية بتلك النبرة الساخرة، إلا أن الشاعر آثر أن يورد تلك النصوص الموزونة لكونها تلتصق بنبرة التذمر واليأس من الواقع الذي يعيش فيه، رغم أن السياق الموضوعي والفني للعمل لا يشفع له إيراد تلك النصوص في مجموعة شعرية كهذه لم تكن بحاجة لإضافة نصوص أخرى تتخللها لمجرد زيادة عدد صفحاتها.
كما نلاحظ أن النصوص الإيقاعية في المجموعة تقود الشاعر إلى الوقوع في فخ الجمل الشعاراتية المألوفة التي تبدو وكأنها تقال للمرة الألف كقوله في نص (الملتبس):

وجروح الليل تتعرى وتعوي
كقطيع من دواب الأرض
يعلو ويهيج (ص 31)

وقوله:

صرت كيراً في يد الحداد
أدماه الزفير
لا يرى غير دخان
وممرات جحيم.

أن تكتب لنفسك

يتيح لنا التأمل في نصوص هذا العمل الشعري أن نتبين ما أشرنا إليه سابقاً حول مكابدة الشاعر للوصول إلى رؤية أو أسلوب شخصي في كتابة القصيدة، حيث نجده في النصوص التي انكتبت تحت عنوان (أشياء لا تخصكم) يعود إلى ذاته، والعودة إلى الذات هنا تتمثل في مستويين، المستوى الأول يتجلى في عودة الشاعر إلى ذاته للتقليب في خباياها وانكساراتها وهزائمها بعيداً عن الانشغال بالقضايا الكبرى. أما المستوى الثاني فهو مستوى فني تكنيكي يتمثل في تحطيم الشاعر للنماذج الذهنية التي كانت قد ترسخت في وعيه بالشعر والإنطلاق في كتابة نصوص جديدة تختلف عن تجربته الأولى التي كانت موجهة للخارج ومعنية بتقديم الأنا إلى الآخرين بالصورة التي يتوقعونها ويطربون لها.
يعود الشاعر إذن إلى ذاته من جهة الموضوع الشعري ومن جهة التكنيك الشعري فيرتكز في كتابته لنصوص هذه المجموعة على نفي التصورات الذهنية السابقة التي تكونت لديه عن القصيدة، ويعتمد هنا على السرد كمحرك ديناميكي لتنامي النص إلى جانب قدر كبير من التلقائية والعفوية والاعتماد على ملامح من الحياة الشخصية والسيرة الذاتية والمكونات الاجتماعية لشخصيته.

ويختتم الشاعر مجموعته بقسم أخير تحت عنوان (من أقوال العابر) يتكون من أربعة وعشرين مقطعا إلى جانب نص واحد، وفي المقاطع التي يتكون منها هذا القسم تتخذ النصوص أسلوب التوقيعات أو المقولات المغلفة بالحكمة تارة وبالتأمل واليأس والضجر تارة أخرى، ونجد في بعض هذه المقاطع استفادة واضحة من فن الهايكو الياباني الذي انتشرت ترجماته إلى العربية فأغرت الكثير من الشعراء بالاستفادة من تقنياته:

السيول تقفز عارية
عجلى ومرتبكة
وجادة في الذهاب (ص93)

ولأهمية النص الأخير في المجموعة نورده هنا في ختام هذا التناول السريع، عنوان النص (اعتراف):

لم يجبرني أحد
ولم أطلب من العابرين الإلتفات
– لمن تكتب إذاً؟
– لنفسي يا أخي
لنفسي بارك الله فيك
– أليس الصمت أقرب إلى الصواب؟
– ربما ..
لكنني أخاف من الموت
أخاف أنني قد مت بالفعل
ولم أنتبه
فأتشاغل بالخربشة
حتى أجد من يقرضني تكاليف الدفن
هذا كل ما في الحكاية

يؤكد الشاعر أنه يكتب لنفسه، ولعل الكتابة للنفس بما تحمل من مكاشفات وتداعيات حميمة لسرد الأحزان الشخصية .. لعلها هي الحامل لأسرار وجماليات نصوص هذا العمل الذي يفتتح به طه الجند مغارة الشعر المجهولة، وهاهو في آخر نص من المجموعة يبوح لنا بشفرة اشتغاله الشعري لكنها شفرة خاصة به وحده، وبقدر ما تشي لنا بإمكانية تجريبها كمفتاح للقول الشعري بقدر ما يتضح لنا أنها تحوي رموزا ترتبط بالشاعر وبنفسه التي يكتب لها، وعلينا إذن أن نكتشف مفاتيح أنفسنا ومغاراتنا السحيقة التي نقبع في أغوارها دون أنفكر في البحث بين جدرانها عن منفذ لضوء الشعر.

اترك رد

%d مدونون معجبون بهذه: