«قهوة أميركية» للروائي أحمد زين … بين قساوة الواقع واستحالة الحلم

سلمان زين الدين

بين تاريخ شخصي لم يصنعه، وحاضر يغترب عنه، ومستقبل لم يحسن التعامل معه يتردّى عارف بطل رواية «قهوة أميركية» (المركز الثقافي العربي، 2007) للكاتب اليمني أحمد زين في متاهة الضياع، ويمثِّل حلاً من عدم الانتماء ربما كانت تنسحب على جيل بكامله يبحث عن نفسه في التاريخ فلا يجدها، ويعيش في الحاضر وينفصم عنه، ولا يستطيع الانتماء الى المستقبل والتعامل مع مفرداته. هي أزمة هوية يعيشها البطل غير المتصالح مع نفسه وواقعه. فحين يصطدم بالواقع القاسي، ويفشل في البحث عن معنى لحياته وتحقيق ما يحلم به، ينكفئ الى ذاته ويتمحور حول أوهامه وأحلام اليقظة ومخيِّلته المريضة، في محاولة منه لاستعادة توازن مفقود في عالم الواقع. غير أن استحالة العثور على معنى خلف الأوهام والأحلام والتخيلات تجعل منه طريد الهواجس والوساوس، وتدفع به الى حافة الجنون.
هذه الحال المعلَّقة بين الواقع والحلم المستحيل يرصدها زين من خلال شخصيات الرواية الذين هم مجموعة من الطلبة الذين يتعلّمون اللغة الانكليزية في المجلس الثقافي البريطاني في صنعاء، في محاولة ربما للتخفف من الواقع القاسي والتعلق بأهداب ترقٍّ معين يحلمون به، فتعلُّم اللغة الانكليزية هو نافذة على العالم ووسيلة للخروج من القاع الاجتماعي الذي يتردى فيه عارف وعالية وحميد ويحيى وفتحية وسانيا وماريا، وهؤلاء بطبيعة الحال يمثِّلون جيلاً لم يجد نفسه في تاريخه وتراثه، فراح يبحث عنها في عالم جديد أخفق في الانتساب إليه، فانفصم بين الواقع والحلم، لا هو بقي متصالحاً مع واقعه القاسي ولا هو استطاع تحقيق حلمه المستحيل.

هذه الرسالة تقولها الرواية من خلال أحداثها وشخصياتها، وفي طليعة هذه الشخصيات عارف وعالية. فعارف بطل الرواية يحلم منذ حداثته في صنع تاريخ شخصي وممارسة النضال السري، ويطارده تحقيقاً لهذا الحلم هاجس الاغتيال، أي انه يعيش حال تضخيم متوهمة للذات، وإذ تفوّت عليه الوقائع التاريخية فرصة تحقيق حلمه وصناعة تاريخه، وهي وقائع تتمثل بتفكيك الاتحاد السوفياتي عالمياً وتحقيق الوحدة اليمنية محلياً، يُقلع عن الحلم ويعتبر أنه لم يعد ثمة مجال لتحقيقه، لأنه لم يعد هناك قضية.

غير أن انخراطه في تظاهرة شعبية مطلبية بالصدفة، وقيامه محمولاً على الأكتاف بالهتاف وترداد الشعارات المعارضة، وإلقاء القبض عليه تحيي فيه الحلم ويظن ان فرصته قد حانت، فيواجه المحقق برباطة جأش، ويتعرّض للتعذيب، حتى إذا ما أُفرج عنه بذريعة أنه طيب ومسالم شكل الافراج صدمة له وحرمه إمكان صناعة تاريخه.

مشاركته غير المقصودة في التظاهرة شكلت بداية علاقة بينه وبين عالية زميلة الدراسة التي شاركت بدورها فيها وتؤمن بضرورة مشاركة المرأة اليمنية في النضال والتظاهر وخوض التجارب الصعبة لنيل حريتها وعدم الاكتفاء بكراسي الوظائف الدوارة. وأخذت هذه العلاقة تنمو حتى تعدت الصداقة وقاربت الحب.

وإذا كانت التظاهرة شكلت حيز اللقاء والقاسم المشترك بينهما، فإن كلاً منهما يأتي إليها من موقع مختلف عن الآخر، هو يأتي صدفة من الوهم والحلم ويتوخى الأكاذيب وانتحال الأدوار بينما تأتي هي من الجرأة والنضال الحقيقي والرغبة الصادقة في التغيير. وفي محاولة منه للتقرّب من عالية ونيل الحظوة لديها راح يجترح البطولات الوهمية، وينسب الى نفسه أدواراً نضالية لم يقم بها، فيرضيها من جهة، ويدغدغ حلمه في صناعة تاريخ شخصي من جهة ثانية، غير أنه لم يكن ليجرؤ على طرق الجانب العاطفي في علاقتهما، وكثيراً ما كان يلوذ بالصمت، ما يشي بأن الكذب النضالي لا يمكن أن يكون سبيلاً للصدق العاطفي، فوقفت تلك العلاقة عند حافة الحب ولم تدخل اليه. غير أن في الرواية سبباً أبعد من ذلك حال دون أن تصل العلاقة الى خواتيمها المنشودة، وهو سبب تقوله مداورة وليس مباشرة. فعارف تعرّض خلال التحقيق لركلة وحشية في مؤخرته أفقدته القدرة على الانتصاب، وعالية تعرضت خلال مشاركتها في تأمين الغذاء والدواء لأطفال العراق المحاصرين في إطار وفد نسائي متعدد الجنسيات لنوع من «الاغتصاب» لدى تعرض السفينة لإنزال أجنبي. هو ضحية القمع الداخلي، وهي ضحية الغزو الخارجي. ولعل ما يريد أحمد زين قوله إنه لا يمكن إقامة علاقة سوية مثمرة منتجة في ظل القمع الداخلي والاحتلال الخارجي. وهكذا، يغدو العجز الجنسي رمزاً روائياً لعجز أخطر هو العجز عن الحياة الطبيعية في ظروف غير مواتية.

وعـــلى أية حال، فإنه حتى عندما قرر عارف أن يتحلى بالجرأة ويعترف لعالية بحقيقة مشاعره كان قد فاته القطار، فلم يعثر عليها. وهكذا، هو دائماً يأتي متأخراً. تأخر في صناعة تاريخه. تأخر في الحب. تأخر في التناغم مع روح العصر، فعجز عن صناعة «القهوة الأميركية»، ولم يستطع استساغة طعمها… فهل هذه هي حال عارف وحده أم هي حال جيل بكامله؟

وبعد، من خلال هذه العلاقة والأحداث الأخرى، وبعيني عارف تطل الرواية على القاع الاجتماعي في صنعاء، فتطالعنا مشاهد البؤس والفقر والبطالة والتشرُّد والتسوُّل وتخزين القات وتعسف السلطة، وتبرز الهوة بين واقع يتضور فيه الناس فقراً وحلم مستحيل تجسده لوحات إعلانية منتشرة في كل مكان لطالما وقف تحتها الفقراء يُسقطون أمنياتهم ورغباتهم عليها في محاولة للتعويض نفسياً عما يفتقرون إليه واقعياً، حتى ان السوبرماركت لا يؤمه سوى السياح الأجانب والعرب، فالسكان المحليون لا علاقة لهم بمحتوياته، ونسمع بأذني البطل شكاوى الناس في الباصات وسبابهم وضيقهم بالأحوال وتبرّمهم بالفساد السياسي والإداري.

وفي هذا القاع تختلط القيم، وتنعدم المعايير، فيفقد الرمز رمزيته. يقول الراوي راصداً حركة البطل، ذات ليلة: «شم رائحة بول وغائط فعرف أنه اقترب من نصب الجندي المجهول» (ص 56). وهكذا، تقدم الرواية أيضاً صورة بانورامية حية لقاع اجتماعي بائس تعرفه كثيرات من مدننا العربية، تقدمها بالصوت واللون والحركة والرائحة وكل المحسوسات.

إن الوظيفة الروائية للحدث الواحد ليست نفسها في الرواية. فهاجس الموت اغتيالاً الذي تكرر كلازمة يتحول من حلم للبطل يبرز تاريخه الشخصي في بداية الرواية الى عامل قلق وخوف في نهايتها. وهذا التغيّر في الوظيفة الروائية وفق مسار انحداري ينسحب على معظم أحداث الرواية ومسارها العام.

هذه الحكاية يصوغها أحمد زين بخطاب روائي خاص على مستوى السرد والحوار واللغة، ففي الرواية وحدات سردية كبرى تتوافر فيها مقومات القصة القصيرة فتغدو مجموعة قصص قصيرة تربط بينها الشخصيات نفسها. وقد ترد إشارات سردية الى أحداث معينة يجرى تفصيلها في ما بعد. ولعل هذا ما أدى الى تكرار بعض الأحداث في غير موضع في الرواية. ويترجح السرد بين الداخل والخارج، فيتناول في الحيز الأول أحلام البطل وأوهامه وتخيلاته، ويرصد في الثاني نبض المدينة من خلال انكبابه على ما تقع عليه الحواس من مشاهدات وأصوات وروائح وحركات، فكأن الكاتب يصوِّر المشهد بتفاصيله وجزئياته بكاميرا تلقط كل ما تراه. وإذا كان في الرواية راوٍ واحد، فإن السرد يتم بصيغ المخاطب والغائب والمتكلم. وكثيراً ما يتم الانتقال المفاجئ من صيغة الى أخرى في نوع من الالتفات البلاغي الذي يوفر الحيوية والتنوع.

أما الحوار فنقع فيه على مستويين اثنين، الفصيح يدور بين الطلبة، والعامي يدور بين العامة. وهذا الأخير يطرح مشكلة التواصل في عالم عربي تتعدد محكياته ولهجاته، فهو يستخدم لغة محلية غارقة في محليتها وقد لا يفهمها سوى أهلها. على أن اللغة التي تنتظم السرد والحوار تمتلك هامشاً واسعاً من الحرية، فالكاتب يضمِّن الرواية عبارات كاملة باللغة الانكليزية، ويستخدم مفردات انكليزية بالحرف العربي وأخرى معرَّبة، ولا يتورّع عن استخدام المفردة بلغتها الأصلية حتى وإن كان لها مقابل في اللغة العربية. ولم يخلُ النص من أخطاء نحوية أو إملائية تناثرت في غير موضع منه. وعلى رغم ذلك، استطاع أحمد زين أن يقدم نصاً روائياً متماسكاً، فأثبت انه يستطيع أن يعد «قهوة أميركية» طيبة الطعم والرائحة.

اترك رد

اكتشاف المزيد من عناوين ثقافية

اشترك الآن للاستمرار في القراءة والحصول على حق الوصول إلى الأرشيف الكامل.

Continue reading