السير في دروب مجهولة
عبده جميل اللهبي
لم يخرج جزافاً.. فخروجه كان هروباً إلى واقع أفضل ، ومساحات من الحرية أكثر اتساعاً، كان يظن أن الشمس المشرقة هي المحط الذي يجب أن تقع عليه قدماه، الأمل الذي سيشرق بين يديه والشمعة التي سيحتضنها.
لا يهم أبدا .. فقد تقرحت قدماه، نتيجة نشدانه الحق والحقيقة وطلبه للحرية التي أصبحت حسب تصوره قريبة جداً.
-الحياة تافهة.. هكذا كان يردد.
وانه إذا أراد أن يخلق حياة ذات معنى فلا بد ان يغير نمطها، ان يحطم السكون الذي يطويها وان يبصق بشدة في وجه الوجوم الذي اطبق عليه سنيناً.
الانسان.. ذلك الراحل صوب المجهول.
ظل سائراً بخطوات مذقة نحو مكان ينتظر ان يشغله .. فلم تثنه رياح تلك الليلة ولابردها.
راح دون ان ينظر الى الوراء او يتوقف دقيقة واحدة، فالمحطة القادمة تمثل بالنسبة له كل السعادة.
مع غروب الشمس وطأت قدماه الموضع الآخر ولم يكن لديه خبز او ماء، فالجوع قد مزق أحشاءه والظمأ قد خشب شفتيه.
وقبل ان يتوجه صوب باب المدينة القادمة. التفت الى الوراء بنظرات باكية.. ودموع ساخنة.. وردد قائلاً: ايتها المدن القاحلة.. يامن كبلك انذال الارض بقيود الفقر والحرمان. ماكنت لأخرج طوعاً مني.. بل اجبرت على ذلك.
سأعود لكِ.. نعم سأعود..
وصل باب المدينة الجديدة وهو ينظر الى اسوارها العالية وابوابها الموصدة فقال في نفسه: لماذا كل هذه الاسوار، ألم يعد للحرية نوافذ مفتوحة؟.
وطرق باب المدينة .. لكن احداً لم يأت ومازال الباب مغلقاً والحارس يسمع خلف الباب.
بقي يطرق ويطرق ويتوسل .. وينادي بصوته اريد ان تقبلوني ضيفاً عندكم.
فتجمع الناس خلف الباب .. ثم قال احدهم .. ادخلوه يكاد العطش يفتك به .. وقال آخر : لا لن ندخله فقد يكون جاسوساً.. ان الحياة مليئة بأمثال هؤلاء.
أما هو فظل يردد افتحوا لي انني اهلك.. الرياح تكاد تمزق اوصالي والعطش يكاد يفتت احشائي..
فعلت الاصوات خلف الباب.. اصوات تريد ان تدخله واخرى ترفض ذلك.
اشتد الصراع خلف الباب وعلت الاصوات فتم الاتفاق على ان كان ولابد من ادخاله فيجب ان نتحقق منه.. ما شأنه وما الذي جاء به الى مدينتنا؟!
خر صريعاً يتلوى عطشاً .. جوعاً.. عيناه قد اكلهما الشحب منذ كان يعاني الغربة في وطنه.
-أدخلوه .. وخصصوا له خيمة لتكون مقر اقامته.. اياك ان تغادرها .. كانت الجرذان تتقافز في ارض الخيمة ورائحتها تتقزز منها النفس.
فقال معترضاً:
هذا لايمكن .. ماجئت لكي اسكن في حجر الجرذان فوق حصير مهترئ.. هذه الخيمة لايمكن ان تمنع عن جسدي النحيف سياط البرد.
فقال احدهم وكان يحمل طاقية على رأسه مؤيداً:
حقاً مايقول.. لننقله الى خيمة انظف من هذه فهو ضيف عندنا.
فقال آخر.. كلا من قال بانه ضيف؟ انه متهم ولم تثبت بعد براءته.
وقال ثالث: ومن يقول ان براءته ستثبت .. اني اقسم انه مندس ويجب ان يأخذ عقابه.
فقال رابع: لايستبعد منه ذلك.
فقال صاحب الطاقية موجهاً احتجاجه للجميع .. معتوه من يتكلم هكذا .. انكم تحاولون قتل روح الانسانية فينا.. اني ارفض كلاماً كالذي قيل.
-ومن انت حتى ترفض او تقبل؟.
-انا واحد منكم .. وجزء من هذه المدينة.
– لا تستطيع ان تفعل او تقول ونحن حاضرون .. اما انت ايها الغريب أيعجبك ان تبقى في هذه الخيمة؟ وتقبل بحصيرها البالي ونسيجها المفكك .. هاه ماذا قلت؟ اقول.. انني عندما خرجت كنت واثقاً ان الآلام تنتظرني وان المسافات الشاسعة التي تمتد قبل وصول هدفي لابد وان بها حفراً وخنادق.. وعليَّ ان اجتازها..
سأقاوم .. لقد علمتني الايام الماضية كيف اقاوم وكيف احطم الصعاب بالصبر.. ثم صمت قليلاً باكتئاب .. عيناه ترفضان جريان الدموع وقال:
-انا موافق على البقاء هنا لكنني اريد ان تمنحونني بعضاً من الزاد والماء.
-سنرى في هذا الامر لاحقاً.. اجعلوا عليه حراسة مشددة حتى ينكشف امره.. وانفض الجمع من حوله وتركوه وحيداً ينثر احزانه امامه يفتح نوافذ الصبر.
-بقي يتلمس جسده وهو ينظر الى ارض الخيمة والجرذان تلعب بداخلها متقززاً من المنظر.. ومتألماً بما آل اليه حاله المكسور.
-حاول التمدد على حصير الخيمة البالي ليريح جسده المنهك من عناء السفر. فاذا بسياط البرد تلفح جسده.
-تقلب ذات اليمين وذات الشمال.. لكن لا فائدة.. نهض متوجعاً جائعاً عطشاناً.
كان مدركاً عواقب الحال .
-حاول ان يرفع يده لفتح باب الخيمة. فاذا بأحدهم..
-ايها الغريب.. هل يرضيك البقاء في هذه الخيمة بدون اكل وشرب؟
– كيف يحلو لي البقاء عندكم بدون زاد؟ هذا امر لايطاق.
امر لايحتمل .. لن اقبل بالبقاء عندكم ولو للحظة بعد الآن. انتم لستم باكثر من هذه الجرذان التي تملأ قاعة الخيمة.. قد انعدمت فيكم روح الانسانية وفقدتم ضمائركم الحية واستبدلتموها بقلوب وحشية.
-صاح فيه احدهم.. اصمت ايها القذر.. سأهشم رأسك.. لا تذكرنا بسوء . هل هذا جزاء قبولنا لك؟
– اخرج.. هيا اخرج من هنا..
كان وضعه محزناً يقطّع كبد الحجر ..وجهه مملوء بالبؤس .. عيناه اغرقهما الحزن جسمه اضمره النحول. قلبه دقاته بدأت تهتف بالرحيل.
-بصوت ضعيف مصحوب بالأنين والآهات قال:
رغم ان الحياة قاسية في وطني على الاحرار.. يجمعون الشقاء ويكابرون على البقاء بعضهم في السجون والبعض الآخر في العراء.. الا انني ادركت وفي هذا الوقت المتأخر ان شقاء الوطن راحة كبيرة وسجونه ساحات من الحرية وعراءه اوسمة تقديرية.
-لم اكن ادري ان افكاري المتمردة النازحة الى صفوف المجهول ستحدث لي حمامات من الاشواك وبرك افاعي.
آه.. آه… فليتخطى الظلام بارجله السوداء كل منافي الوطن.. بقبح اعمى ينفث وجعه صوبي ويرفسني بممراته كلما اتى وراح.. حينها سأكون في غاية السعادة والأمان وبمنتهى الراحة والاطمئنان.
-هيا .. لا داعي لكثرة الكلام ايها العميل..
-هيا .. اخرج من ديارنا .. لا تعد ثانية..
-سأخرج .. نعم سأخرج ولن اعود .. قالها بتجاسر.
واتجه صوب الباب.. فتح له الحارس الرتاج.
والناس واقفون ينظرون اليه وهو يجرجر قدميه ببطء شديد .
-خرج من المدينة .. اغلق بابها.
اما هو فظل سائراً وهو يتلقى صفعات الرياح بشدة، يبدو له المدى شاسعاً.. يترنح في مشيته ويمضي.
فتح له المجهول ذراعيه واحتضنه بصمت وانساب في عمق التاريخ بهدوء بالغ وتام.