“دهشة الجسد وهوامش التكوين” .. قراءة نقدية في سيرة محمد عفيفي مطر الذاتية

شوكت نبيل المصري

“إن المرءَ ليطالِعُ ماضي حياتِهِ مثلما يُطالِعُ كتاباً
قــد مُزِّقت بعضَ صفحاتِهِ وأُتلِفَ منها الكثير”
جورج مور

إن تناول كتابةٍ أدبيةٍ ما بالدرس والتحليل يعدُّ فعلاً استرجاعيا بالمقام الأول ، إذ يفرض ذلك التناول بدايةً الوقوف على المنطلقات المعرفية والاجتماعية والفكرية التي سبقت ثم زامنت هذه الكتابة ، بينما يفترض نهايةً استخلاص مجموعةٍ من القيم الفنية والنواتج الإبداعية والجمالية التي أسفرت عنها تلك الكتابة والتي منحتها بالأساس صفة الأدبية مميزةً لها عن سائر النقوش والكتابات التي يزدحم بها فضاء هذا العالم المتسع .
ولعل تناول مفردات أي كتابةٍ أدبية تناولاً دلالياً يفترض بادئ ذي بدء الوقوف على ذلك النسق اللغوي الذي تشكِّلُه دوالها بهدف الانتهاء إلى ما يمكن أن يدشنه ذلك النسق من خصوصيةٍ دلاليةٍ وجمالية، ولكن تلك المسافة الدلالية القائمة بين النسق اللغوي والتحقق الجمالي ليست شاغرةً من حركة ذاتٍ مبدعة تلقي بظلالها على امتداد هذه المسافة بكل ما تحمله تلك الذات من مرجعياتٍ أيديولوجية ومعرفية ، بينما ترتفع قامة تلك الذات في فضاءٍ (يحيط بالمسافة السالفة) يفرضه سياقٌ اجتماعيٍ ومعرفيّ لواقع هو العالم ، محاولةً فرض رؤيتها وتصوراتها الخاصة تجاه موجوداته وموضوعاته ومفاهيمه وأنساقه المختلفة .
ولا تقتصر حركة الذات المبدعة (داخل تلك المسافة النصيّة) على تشكيل رؤيةٍ خاصة للعالم يحققها النص ، ولكن فاعلية الذات وحركتها تعدُّ معطىً قبل نصيّ بالأساس ، إذ منوطٌ بتلك الذات وحدها تحديد وجهتها الفنية والأسلوبية والنوعية الراغبة في الانخراط فيها نصاً . ورغم انفراد كل ذاتٍ مبدعة بأسلوب خاص في التعامل مع اللغة عبر تفعيل نسق خاص من العلامات يستمد شرعيته مما تمنحه له تلك الذات من مركزيةٍ وقدرةٍ على التجاوز والتدليل الحر ؛ فإن ذلك النسق مشروط بتحقيق درجةٍ من الموالفة بين ما تبتغي الذات التعبير عنه نصا (موضوع النص) وما توظفه من مفردات ودوال وأساليب فنية مكونة لبناء ذلك النص (مادته) ، حتى وإن كانت تلك الموالفة تستهدف بالأساس منافرة الحضور المباشر للموضوع كما هو الحال داخل اللغة الشعرية في صورتها القصوى .
وهنا تحديداً تتبدى خصوصية العلاقة المستمرة والمتنوعة بين الذات والنوع الأدبي ، تلك العلاقة التي تتميز بالسيرورة والصيرورة في آنٍ واحد ، والتي جعلت من هذه الأنواع الأدبية مبحثاً رئيساً من مباحث نظرية الأدب . ولكن التساؤل الذي نعتقد ضرورة تدشينه هنا هو ( ما الذي جعل معظم كتّاب نظرية الأدب يوجّهون جُلّ حديثهم عن البعد الاجتماعي للأنواع دونما التفاتٍ منهجيٍّ منظَّم لدور الذات المبدعة في تحقيق تلك النوعية ؟! )
إن النوع الأدبي معطى قبل نصي بالفعل ، أي أنه موجود كمجموعةٍ من التقنيات الفنية الثابتة ؛ لعله بالفعل كذلك ولكن بالنسبة للقارئ والناقد ، أما بالنسبة للذات المبدعة فإن هذا المعطى يظل تجريداً خالصاً مطروحاً لإمكانية التجريب غير المحدود بل غير المحدد سلفاً ، إلا حينما تبدأ الذات في الإلمام بمفردات موضوعها ؛ لتتخير له نسقاً أسلوبياً وتقنياً يمكنه حمل هذه الدوال إلى مدلولاتها المبتغاة ، بينما نجد ذلك النسق يحقق في النهاية نوعاً أدبياً بعينه .
وقد آثرنا بالفعل إثارة هذه النقاط المتعددة –دونما تفصيلٍ فيها- قبل أن نسترسل في موضوع هذه الدراسة ؛ وذلك لما يفرضه موضوعها من خصوصية في جوانب متعددة ، فنحن بصدد التعرض لدراسة شاعر عربي له منجزٌ إبداعي لا تُنكَرُ فرادته وتميزه ، شاعرٌ يرى في الشعر قيمةً يزكي جوهريتها أن تتدثر دائماً بالغموض الجليل . ولكن هذا التعرض يستهدف قراءة هذا الشاعر في كتابةٍ نوعية خاصة على مستويين : أولهما أنها كتابةٌ نثرية لشاعر ، وكأننا أمام جملةٍ اعتراضية واحدة ووحيدة في سياقٍ كتابيّ لا محدود التتابع ، وثانيهما أنها كتابةٌ تندرجُ تحت ما يُسمى بفن السيرة الذاتية والذي يمتلك من الخصوصيات الفنية ما يميزه عن غيره من أنواع النثر الفني . كما أن الدراسة آثرت إلقاء الضوء على زاويةٍ أكثر خصوصية في هذه السيرة الذاتية ، إذ عمدت إلى مقاربة مدلول الجسد داخل تلك السيرة الذاتية ، محاولةً تتبع تجلياته الدلالية المختلفة بوصفه علامةً نصيّة تمتلك أبعادها الخاصة التي يمكنها أن تَمنَح سياقاً تأويلياً يكشف عن مكونات الذات وبنائها النفسي والاجتماعي والفلسفليّ ورؤيتها للعالم الخارجي بكل ما يحمله ذلك العالم من موجوداتٍ وموضوعاتٍ ومفاهيم .
وفن السيرة الذاتية كأحد الأنواع النثرية يمتلك وضعيةً خاصة ومتميزة داخل المنجز الإبداعي الإنساني على وجه العموم ، فتاريخ الأدب العربي والغربي يقدمان لنا –على حدٍ سواء- نصوصاً وأعمال وكتابات متميزة في مدار هذا النوع النثري . فمن “لطائف المنن” للإمام الشعراني ، و “الاعتبار” لأسامة بن منقذ ، و “اعترافات القديس أوغسطين” إلـى “أنا” العقاد ، و “الأيام” لطه حُسَين ، و”الشعر والحقيقة” لجوته ، و “ترجمات” جورج مور وجابرييل مارسيل وهيجل ، ومن كلّ هؤلاء إلى غيرهم في نصوص وأعمال أدبية قادمة تظل السيرة أو الترجمة الذاتية تتمتع بخصوصيةٍ ما عن كافة الأنواع والنصوص الأدبية، ولعل ما يمنحها تلك الخصوصية هي مادة موضوعها بالأساس ؛ إذ هي محاولةٌ لاستعادة الماضي بوقائعه وأحداثه أو لنقل إعادة إحياء الماضي واجترار ذاكرته ، لكن ذلك الاجترار وتلك الاستعادة قوامهما وعيٌ أكثر اكتمالاً ورؤيةٌ أكثر شمولية . ولعل الشائك في هذا الأمر أن هذه الكتابة تتجاذبها قوتان مركزيتان: إحداهما قوةٌ جاذبة وهي الصدق المحض (حيث نقل أحداث الواقع كما حدثت) والأخرى قوةٌ طاردة وهي الصدق الفني (إذ نحن أمام عملٍ أدبي يعتمد المجاز التعبيري بالأساس) ، ومن هنا تتجلى القدرة الإبداعية لكاتب السيرة الذاتية ؛ إذ يستهدف في نصه التوسط الدائم بينهما ، متخذاً نقطةً مركزيةً لا تستسلم لإحداهما ، نقطةٌ وسيطةٌ قائمة بين الحقيقة المجردة والخيال المُطْلَق .
وقد قدّم لنا الدكتور يحي عبد الدايم في كتابه “الترجمة الذاتية” رصداً شبه وافٍ للعناصر الفنية التي يجب أن تشتمل عليها الكتابة الأدبية للسيرة الذاتية ، وقد خَلُصنا منها إلى مجموعةٍ من النقاط التي تُجمِلُ هذه العناصر الفنية نوردها فيما يلي :
– ” قدرة كاتب السيرة على اعتماد بناء مرسوم واضح ، يراعي فيه ترتيب الأحداث والمواقف والشخصيات ترتيباً (غيرَ مشروطٍ بالزمنية) يحدده هو بحسب رؤيته لتلك الأحداث والمواقف .
– تحديد الغاية التي يهدف إليها الكاتب بتخيُّر الوقائع وانتقاء الأحداث ، دونما اعتمادٍ تام على الإغراق في الخيال أو الاسترسال في تشكيل الصور المعقدة في رصد تلك الوقائع ؛ بقدر الاعتماد على المعاناة في تذكُّر الحقائق كما رآها هو وتحقيق وجهة نظرٍ خاصة تجاهها .
– تغليب الطابع الرمزي في سرد الأحداث والذكريات ، بحيث يسمح هذا الطابع الترميزي بتحقيق التوسّط التام بين الأدبي والواقعي .
– الدقة في تصوير الصراع الذي يكشف عن أثر الأحداث والوقائع على مكونات الذات النفسية والشعورية والفكرية ، مع مراعاة التدرج في رصد التحولات الناتجة عنها والتي أسهمت في توسيع بنية إدراك الذات وتشكيل وعيها .
– الاتساق في صياغة العبارات وبناء الأسلوب وتخيُّر المفردات ؛ بهدف تحقيق رؤية شبه موضوعية تجاه القضايا والأحداث لا تفتقر في مجملها إلى الطابع الجمالي والتأثيري الذي يميز النص الأدبي عن غيره من النصوص الكتابية .”
وإذا كان ناقدٌ مثل ” رولان بارت ” يرى في الكتابةِ ” هدماً لكل صوت ، وأنها السواد والبياض الذي تتوه فيه كلُّ هويةٍ بدءاً بهوية الجسد الذي يكتب ” ، فإن هذه الرؤية لا يمكن تطبيقها كليا على كافة النصوص الأدبية ، وبخاصةٍ فن السيرة الذاتية لأن موضوعها يفترض بالأساس وفي المقام الأول استدعاء ذات مؤلفها لتهيمن على فضاء النص ، كما أنها ترتكز في بناء ذلك الموضوع على ما يمكن أن تستحضره ذاكرته من مخزونٍ خاص ، بكل ما تعنيه تلك الخصوصية من تبعية كاملة ، إذ الذات وحدها مرجعٌ أمثل ومناط وحيد لذلك الواقع بمفرداته وموضوعاته . وما تَمَيُّزُ ذلك الواقع وفرادته ومواقف الذات منه إلا مسوِّغات لتحقيق ناتجٍ إبداعي هي نَصّ السيرة الذاتية في النهاية . ولذلك تُعَدُّ كتابة السيرة الذاتية ” فن الذاكرة الأول ؛ لأنها الفن الذي تجتلي فيه الأنا حياتها ، مسترجعةً هذه الحياة في امتدادها الدال، وذلك من منظور لحظةٍ حاسمة من لحظات التحوّل الحديّ في عمر هذه الأنا ” .
ومن هنا تتبدى السيرة الذاتية لحظة حضورٍ خاص لإدراك الذات ، إذ تقف بوعيها الآني الأكثر تماسكاً وتطوراً في مواجهة الوعي الماضي (بكل ما يختزله من مواقف وأحداث) ، أو لنسمّها حالةٌ من الوعي بالوعي تقدّم فيها الذات تأكيداً على قدرة إدراكها على استعادة التوازن تجاه قضايا الماضي وأحداثه ووقائعه التي درجت فيها ومعها وأثنائها تلك الذات . ولعل أثر ذلك الاستحضار لا يتوقف عند حد تدشين رؤية خاصةٍ للماضي فحسب بل يمتد ليطال الحاضر ، مؤكدا قدرةَ الذات على المساءلة المستمرة لكل شيء وبالتالي حضورها الفاعل الذي يضع العالم دائماً موضع المساءلة والتأمل الدقيق . فما وقائع الحاضر إلا ناتجٌ لما سَمَح له الماضي بالتحقق ، وما المستقبل إلا قدرة الحاضر على الامتداد بنواتج وقائعه وأحداثه خارج حدود المكان والزمان الآنيين . أو كما يقول إدوارد سعيد : “إن استثارة الماضي هي من بين أكثر الاستخطاطيات شيوعاً في تأويلات الحاضر ، وما ينفح هذه الاستخطاطيات بالحياة ليس الخلاف على ما حدث في الماضي ، وما كانه الماضي فحسب ؛ بل هو اللايقين مما إذا كان هذا الماضي فعلا منتهياً ومُختَتَماً ، أم كان ما يزال مستمراً لكن في أشكال قد تكون مختلفة ” .
ونحن إذ نقترب من سيرةٍ ذاتيةٍ لشاعر له مشروعه الشعريّ المتميز كمحمد عفيفي مطر ، ونحاول من خلال هذه السيرة تبصّر مفردات الإدراك التي شكلتها الأنا عن الجسد في مراحل تكوّن الوعي الأولى ، والتي أسهمت (أيْ المفردات) في تشكيل ذلك الوعي في شكلٍ من أشكال التأثير والتأثّر المتبادلين، لنهدفُ إلى إعادة الكشف عن تأسيسات ذلك الإدراك وقراءة آليات ذلك الوعي . وكأننا ننظر إلى صورةٍ فوتوغرافية من ألبوم الماضي (كتلك التي تصدرت صفحة غلاف هذه السيرة الذاتية لعفيفي مطر وهو لم يدخل في سن العشرين بعد) ، وكلما نظرنا إليها وجدنا أنفسنا باحثين فيها عن تلك الملامح التي يطالعنا بها وجهُ رجلٍ نعرفه قد شارف عمره على السبعين ، ولسنا نُعنى فقط بذلك التغير الذي خلّفه عامل الزمن في الملامح المباشرة لذلك الوجه ، بل الذي يشغلنا بالأساس ذلك البحث المضني عن تلك المساحات الفارغة بل الشاسعة التي كانت على ذلك الوجه الفتيّ ، وكيف ملأت السنون أُفُقَهُ عذاباتٍ وفرحاً وتساؤلات مُرّة، كيف تعاقبت عليه الوقائع وتركت آثارها الدامية خطوطاً وتعاريج وتقطيبات دهشة وكهولة ترقُّب ، بل كيف احتمل ذلك الأنف البارز أثراً دامياً بعد عامه الستين ليصبح شاهداً على كلّ رفضٍ حر في زمن الخنوع الوبئ ، وكيف استعرت نظرة تلك العينين الهادئتين لتصبحا جمرتا رؤية تلمعان برغم ذلك الظلامٍ الدامس فتفضحان العالم وتنيران العقل .
إننا إذ نقرأ بالفعل تلك السيرة الذاتية لمطر لتُطالِعنا تلك البدايات المختَلَطة ، والتي يتقاطع فيها وعي الأنا الخاص بوعيٍ جمعي أكثر اتساعاً ، حيث تجابه الأنا الفردية عالماً خارجياً له مفرداته ومفاهيمه المعقّدة التشابك . ورغم أن الفرد ما هو إلا عضوٌ في جماعةٍ إنسانية لها توجهاتها الفكرية وانتماءاتها العقائدية وطقوسها الاجتماعية التي تميّزها عن غيرها من الجماعات الإنسانية الأخرى ؛ إلا أن الذات المبدعة تتميز دائماً بحساسيةٍ خاصة تدفعها دائماً لبناء أيديولوجيتها الخاصة والنابعة من خصوصية رؤيتها وطبيعة تكوينها المعقّد المستنفَرِ دائماً لاتخاذ موقفٍ ما والرافض للخضوع والدخول في نسقٍ اعتيادي دونما تمحيص لأبعاد ذلك النسق قبل الانخراط فيه أو الخروج عليه . ولعل أولى القضايا التي تشغل الأنا -كلّ أنا- هي قضية الوجود ، سواءً في كنهه أو طبيعة تكوينه أو سرّ استمراريته أو العلاقات التي تحققها الموجودات داخله أو حركة الأنوات فيه وما تُنْتِجه هذه الحركة من تأثُّرٍ به وتأثيرٍ فيه .
ولأن قضية الوجود هي التجربة الحقيقية التي تنخرط فيها الأنا محققةً علاقةً حميمةً بعالمها الذي يقاسمها الوجود ، فالجسد الإنساني وحده هو الذي يستطيع الكشف عن مفردات هذه العلاقة وطبيعتها ونواتجها ، ” فالجسد الإنساني في كينونته الحقيقية ليس مجرّد حامل لصيغة وجود الذات في العالم بل هو فاعلها الأصيل ، وهو باعتباره مكاناً لتفرّد الذات وإثباتاً مادياً لوجودها الفاعل يُعَدُّ محاولةً لصياغة تلك الذات ، ومساحةً لعرض هويتها والاعتراف بها . إن الجسد هو الذات في امتدادها وتمركزها، هو قدرتها على الاستيعاب وتوليد التفسيرات والاتجاهات وتغيير القِيَم أو إعادة تثبيتها ، ونحن إذ نقرأ ذلك الجسد فإننا نقرأ تلك الذات لغةً ومعرفةً وعلاقات وتراثاً وماضياً ومستقبلاً ، لأن الجسد هو العلامة والنصّ في آنٍ واحد” .
من هذا المنطلق المعرفيّ لوجود الجسد وعلاقته بالذات كان تخيّرنا لموضوع هذه الدراسة والذي يعبّر عنه عنوانها ” دهشة الجسد وهوامش التكوين ” ، والذي نتعرض فيه للسيرة الذاتية التي تخيّر لها كاتبها الشاعر محمد عفيفي مطر عنواناً أشد دلالية على محتواها وهو ” أوائل زيارات الدهشة هوامش التكوين”، ولعل انتقاء المرحلة التي قصد كاتبنا إلى تأريخها داخل نصه لم يأت وليد الصدفة ، ولا لمجرد تعمّد مراعاة المراحل العمريّة وتسلسلها في الترجمة الذاتية . ولكن ذلك الاختيار معزوٌ إلى نظرةٍ خاصة يحملها الكاتب تجاه تلك المرحلة، فلعله يستشعر حنيناً ما نحوها إذ هي الأولية التي تذكره بالبراءة الأولى في كل شيء حتى في الدهشة ، أو لعل لها أثراً في نفسه لم تفلح السنون في النيل منه إذ ارتبطت أحداثها بالتكوين الإدراكي للذات ؛ مما نقش داخل الذات صورةً خاصة لهذا العالم تتأبى على المحو ، أو لعل دورها في توجيه حركته في مراحله العمريّة الأخرى قد جعل ذاته مدينةً لتلك المرحلة بالقوة الدافعة التي ولّدت الحركة في المراحل اللاحقة ، هذه الحركة التي أنتجت هي الأخرى قدرةً على تفكيك تعقيد هذا العالم وتفسير غموضه .
ولذلك تبدّت هذه القوةٌ إليه كمرجعٍ تأويلي يُناطُ به تفسير الغامض وتفكيك المشتبِك عبر الارتداد بالوعي إلى تحصيناته الأولى ليتمترس مواجها حاضره المُلغِز ، قوةٌ تحقق في ارتباطها بالوعي وظيفةً تتشابه مع تلكم الوظيفة التي تحققها الهوامش في ارتباطها بالنص الذي تسكُنُه ، إنها تسكنُهُ وتصنَعُهُ في الوقت ذاته ، وأيّ انتفاءٍ لأحدهما يحمل تحطيما للآخر . ورغم مركزية المتن وثانوية الهوامش ؛ إلا أن الأول دائماً ما يحتجُّ بالثاني ، ليس فقط في كل مالا يرغبُ في إبرازه داخل السياق الأساسي ؛ ولكن حتى فيما يعجز عن احتواءه أو التعبير عنه .
وانطلاقاً من مقولتنا السالفة عن الجسد وعلاقته بالأنا ؛ يمكننا القول إن قراءة صورة الجسد الإنساني المتشكِّلة في مجال إدراك الأنا (نصاً) لا تُمِدُّنا فقط بتصورات عن الذوات التي تقاسم تلك الأنا عالمها وواقعها ، لكنها تمدنا أيضاً بتصوراتٍ عن تلك الأنا المدركة في طبيعة وجودها وتصوراتها وحركتها ورؤيتها ووعيها . فكل ذات تحمل في تحقيقها لوجود غيرها تحقيقاً لوجودها هي ، ذلك التحقيق لا يتبدى إلا بعرضها لمساحة الاختلاف أو التوافق التي تشغلها العلاقة الوجودية بين طرفين هما : ذاتٌ واعية ووجودٌ واقعٌ في بؤرة ذلك الوعي. وقد عكس الجسد بالفعل قدرة وعي الذات المطرية على تحقيق رؤيةٍ خاصة لموجودات عالمها في ذات الوقت الذي حمل فيه حضور الجسد تأكيداً لتحقق تلك الذات في صيغتها الخاصة. وقد اتخذ ذلك الحضور النصي للجسد داخل السيرة الذاتية لمحمد عفيفي مطر بعداً دلالياً خاصاً تتقاسمه مجموعةٌ من المحاور الإنتاجية هي :
– التمايز الجنسي للجسد : ثنائية الذكر والأنثى .
– الإيقاع الوجودي للجسد : البعد النصي لحضور الآخر .
– الأفق الشعري ومحنة الجسد :البعد الدلالي لحضور الذات .
ولعلنا من خلال تناول هذه المحاور الثلاث ؛ لنحاول مقاربة مفهوم الجسد داخل تلك السيرة ، بهدف الكشف عن مفردات إدراك الذات وتجليات وعيها بأبعاد وجودها وموقعها من العالم من حولها ، وتحقيق ذلك الوعي لموقفٍ مفاهيمي ومعرفي وجماليّ تجلى في مشروعٍ شعري استمرّ قرابة نصف قرنٍ ولم يزل .
( التمايز الجنسي للجسد : ثنائية الذكر والأنثى ) :
عكست السيرة الذاتية لمطر وعياً شديد الخصوصية بنوعي الجنس البشري (الذكر و الأنثى) ، هذين النوعين اللذين يحملان تمايزاً واختلافاً بيولوجياً بالأساس ، ولكن نص السيرة لم يعكس التفات إدراك الأنا المطرية إلى ذلك الاختلاف التكويني الذي يحققه التركيب البيولوجي لكليهما وما يستتبعه من إسقاطات ، بل لم يرَ فيه تمايزاً ذا وجاهةٍ تُذكَر ، فقد حملت لنا السيرة الذاتية لمطر وعياً من نوعٍ خاص بتلك الثنائية ، وعياً يختزل في طياته مأثوراً ثقافياً واجتماعياً ودينياً يحققه النص في وصفه للجسد الإنساني . إذ يفرض من عدة جوانبٍ حدة اختلافهما بينما يعرض على جانبٍ وحيد اشتراكهما بل تماهيهما في لحظةٍ ضعفٍ خاصة هي النفس البشرية في صيغتها الأولى . فالجسد الذكوري وإن بدا دائماً (داخل نص السيرة) فارعاً ومفتولاً ومتجهماً وصلبا يتصبب عرقاً وقدرة ، في مقابل الجسد الأنثوي الذي يتبدى ليناً وحنوناً وبشوشاً ورقيقاً يفوح عطراً وغواية ووفرة ؛ إلا أن صلابة الأول لا تمنع انطواءه على ضعفٍ من نوعٍ خاص ، كما أن رقّة الثاني لا تمنع أيضاً تفجّرهُ أحياناً بسطوةٍ من نوعٍ غريب .
هذه التمايزات والتنوعات والتشابهات حملتها لنا السيرة المطرية في تصويرها لشخصيات يمكننا اعتبارهم أبطال أحداث ووقائع تلك السيرة التي مرت بكاتبها ، والذين عكس النص هامشية بعضهم بينما جعل من بعضهم الآخر رموزاً لها من مركزية الحضور ما يؤكد فاعليتها ليس فقط في توجيه قراءة تلك السيرة الذاتية لكاتبها “محمد عفيفي مطر” ولكن في توجيه قراءة نصوصه الشعرية أيضاً والتي قاربت على خمسة عشر ديواناً . ولعل أول هذه الرموز هي شخصية الأم “سيدة أحمد أبو عمار” ، والتي اختار كاتبنا تخصيصها بإهدائها هذه السيرة في تصديره لهذا العمل ، بكل ما ينطوي عليه ذلك التخصيص من دلالة ، وما يحمله ذلك الإهداء من نظرةِ إجلال ، وما ينطوي عليه من رغبةٍ في الاعتراف بالجميل ، إذ يقول :
إلى جليلة الجليلات :
“سيدة أحمد أبو عمار”
فيض البركة في الزمن الصعب ،
وبسالة الحنان الكريم في عصف الشظف ، أمي ..
ولعلنا نستطيع أن نلمح بقليل إمعان في نص السيرة ذلك التأثير الذي تركته الأم في وعي الذات المطرية ، إنه تأثيرٌ لا محدود ، وليس الأمر مجرد علاقةٍ اعتيادية بين أمٍ وابنها تتحدد مفرداتها في الحنان والعطف والتربية واكتساب القِيَم والمبادئ ، لكن الأمر أكبر من ذلك بكثير ، فقد مثَّلت الأم – كما تعكس السيرة – حالةً فريدةً من العطاء المحتشد بالكبرياء والمتّوجِ بالقداسة ، تلك القداسة التي ولّدتها أوليّة الارتباط بين صوت الأم وآيات القرآن في مراحل الإدراك الأولى ، يقول عفيفي مطر:
( حينما كانت أمي تستعيد الاستماع إلى ما حفِظتُ من قصار السور ..
ومن جزء عمّ إلى جزء تبارك ، وتصحح بصوتها الرخيم ووجهها المضيء بالفرح
وعينيها المسبلتين المتبتلتين ما أخطئُ فيه ، كان الإيقاع الجليل بصفائِه يشمل كلَّ شيء )
لكن الدهشة لم تتبدى إلا حين زلل صوتُ سيدنا (شيخ الكتّاب) كيانَ هذا الطفل ، وأفسد ذوبانه في ذلك الإيقاع الجليل :
( انتبهت مفزوعاً على صوتِ سيدنا وهو يعنّف امرأته وابنته الشابة وهما وراء الباب ،
ثم علا صوتُهُ الأجشّ الغليظ بآيات قصار السِور ، فقلت لنفسي : لا بدّ أن القرآن امرأة ،
وأن الآيات أمومةٌ خالصة لا يعرفها الرجال .
واكتشفتُ أن كل ما حفِظته من قبل قد سقط من ذاكرتي .. فبكيت )
ولعل الأمر لا يقتصر على تلك الصفات التي حملها لنا المشهدان السابقان في تصوير الصوت الذكوري في مقابل الصوت الأنثوي ، ففي المشهد الأول تجلى وجه الأم مضيئاً فَرِحاً وتبدت عيناها متبتلتين ، بينما في المشهد الثاني يطالعنا الفزع من صوتٍ أجش غليظ يُنبئُ عن هيئة صاحبه وقسوته ، ذلك الحدث الذي ولّد في اللحظة ذاتها يقينا من أمومة الآيات ، والذي ألقى بعد ذلك بظلال من القداسة على شخصية الأم خصوصاً والمرأة عموماً ، فظل يرى في كل امرأةٍ أماً ، ويرى في كلِّ أمومةٍ قداسة الآيات ورحمتها وصفائها وجلالها .
وعلى عتبة المراهقة لم يكن اكتشاف الأنوثة بوفرتها واتساع عالمها الغامض –بالنسبة له- هو مولّد التساؤلات ، فقد ترسّخت صورتها في الوعي منذ الطفولة وظلل النموذج/الأم هذا التصور ، إلى درجةِ النظر إلى قريناته من الفتيات الصغيرات على أنهن أمهات ولكن من نوعٍ خاص ، يقول :
( استغرقتنا حالة اللعب بالطينِ والبوص .. .. فاجأتنا البنت الطريّة الجميلة بما صنَعَتْ ،
فرأينا عروساً من الطين بين يديها .. .. كانت البنت الطريّةُ قد جعلت ملامح العروس الطينية
تكادُ تنطق ، وقد مسدتها بلعابها في رقةٍ ونعومةٍ جعلتها تلمع ، ونقشت حولَ نهديها وسُرَّتها
نقوشاً فاتنة تشبه نقش الكعك ، تستديرُ في انحناءات طيّعة مرهفة)
لقد ولّد ذلك الحدث علاقةً ما بين الأمومة والخلق أو لنسمّها الوفرة التي تمنح الوجود الإنساني استمراريته ، وكما أسلفنا فلم يكن اكتشاف الحضور الأنثوي للجسد داخل محيط الوجود مدشّناً للدهشة أو التساؤلات ، لكن الدهشة تبدّت مع أولى مدارج الوعي بميكانيزمات الذكورة التي يحملها الجسد/الذات ، وتلك العلاقة المنذورة للتحقق مستقبلاً مع الجسد الأنثويّ ، والتي لا سبيل للذات في الكشف عن صيغتها وكنهها سوى بانتظار تحققها كتجربة مكتملة ، يقول :
(وفي خطفة الحلم الباهر ، كان النوم ينشقّ عن تلك العروس الطينية وقد اكتست لحماً ودبّت
فيها الحياة ، وقبل أن أنطق بكلمة دهشةٍ واحدة ، تساقطت من يديها ورود الحنـــــــاء وأطيــارها
وغطّت جسدينا العريانين .. هي لحظةٌ خاطفة ، أفقت بعدها محموماً بنشوة الاكتشاف وفداحة السرّ ، وأسرعتُ مذعوراً أدفنُ ثيابي –بما فيها من علامات- تحت أكوام الثياب المتّسخة وخرجت بإحساسٍ طاغٍ هو مزيجٌ من الخجل والأسئلة المبهمة والاكتشاف الجريء ، خرجت شخصاً آخــر …)
لقد كان اكتشاف الذكورة حدثاً غير اعتيادي بالنسبة للذات المطرية ، إذ بدأ الجسد في التفصُّد بأسراره وطاقاته ، لكن ذلك الاكتشاف تماسَّ بمفرداته (كما يطرح النص) مع اكتشاف الإنسان الأول لهذا البعد الغريزي للجسد . ونقصد بالاكتشاف الأول قصة سيدنا آدم وأكله من الشجرة وظهور سوءته ، والتي يحدثنا عنها القرآن الكريم في قول الله عزّ وجل في سورة الأعراف: { فوسوس لهما الشيطان ليبدي لهما ما ووريَ عنهما من سوءاتِهما … إلى قوله تعالى … فدلّهما بغرورٍ فلما ذاقا الشجرة بَدَت لهما سوءاتُهُما وطَفِقا يخصفانِ عليهما من ورق الجنّة} ، ولعلنا نلحظ تلك الإحالة النصيّة التي يقيمها النص المطري مع القصة القرآنية ، وذلك عبر فعل التغطية بورق الحنّاء الذي يقابله فعل الخصف في الآيات القرآنية ، واتحاد ناتج الاكتشافين مع عدم إغفال الفارق الجوهري بين الحدثين (من حيث الشخصيات أو الزمان أو المكان) ، فقد كان ناتج الحدث الأول هو الخروج (خروج سيدنا آدم من الجنة) كما كان ناتج الحدث الثاني هو الخروج أيضاً (خرجت شخصاً آخر) إنه خروجٌ من جنة الطفولة وطمأنينتها وهدءَتها إلى انفعالات النضج وصخبه وجحيم التساؤلات والمعرفة .
وقد شغلت ثنائية الذكر والأنثى بالفعل مساحةً لا يمكن إغفالها من السيرة الذاتية لمطر ، إلى درجةِ أن مفردات النص عكست تمييزاً بينهما يحمل في المقابل تمييز الوعي بينهما بحسب الأحداث التي مرّت على الذات وتركت آثارها الدامغة في تكوينها . ففي مقابل (المرأة/الأم) بكل ما يحمله ذلك النموذج الأنثوي لوجود الجسد من قداسةٍ رحيمة وضعف تكوين وشقاءِ مثابرة واحتمال ، نجد نموذجاً مقابلاً يمثِّله (الرجل/الأب) ، بكلّ ما حققه وجوده من نواةٍ لتصورات الذات عن كلّ وجودٍ مهيمن وسطوةٍ قاهرة لا تعرف التراجع ولا سبيل لزعزعتها أو النيل منها . ولعل حتمية التلازم والارتباط بين النموذجين ( والذي حققته العلاقة الزوجية بين الأم والأب ) هي التي دشّنت فرضيةَ مقابلة الذات بينهما ، فانتصر وعي الذات في أحايين كثيرة لأحد النموذجين (الأم) على حساب الآخر (الأب) ، ولكن ذلك الانتصار لم يكن ضد الرجل أو الذكر عموماً لكنّه كان ضد الزوج بسطوته وسيادته المطلقة ، أو أنه ضد كل قوةٍ غاشمة على إطلاقها ، يقول عفيفي مطر :
( لم أرها تستريح لحظةً واحدةً منذ تفتّحت عينايَ عليها ، وأصبحتُ جزءاً من عالمها وعبئاً
ثقيلاً مضافاً إلى أعبائها ، وهي في الحقيقة لم تكن إلا عبئاً واحداً يبطشُ بوجودها كلِّهِ بطشَ
جبارين لا يرحمون ، هو عبء السيّد الأوحــد مــــالك الرقبة ، محور الحياة والنوم والـيقظة ..
وكانت آخر كلماتها وهي تموت حكماً بقتلٍ من نوعٍ فريد أو عدلاً وقَصاصاً تأخّر بهما الزمن ..
كانت وصيتها الوحيدة لأولادها وجميع أقاربها ألا يجمعوها مع الزوج في قبرٍ واحد )
هكذا دشّن نموذج الرجل/الأب رفض الذات المطرية لوحدوية السيادة المطلقة ، تلك السيادة التي تملك رقاب الآخرين فتحصر وجودهم في خدمة ديمومتها وتقصر حياتهم على الدوران في فلكها ، والتي يتمثلّ في مقابلها الموت كخيارٍ أمثل للفكاك من أسرها وسطوتها .
ولكن ما لبث الوعي في القيام بتصحيح مدركاته وتغيير تصوراته مع الانتقال من مرحلةٍ إلى مرحلةٍ أخرى أكثر نضجاً ، ليكشف عن ذلك القاسم المشترك الأكبر الذي يسمُ النفس البشرية على عمومها ، والذي يتجاوز تلك الثنائية البيولوجية (الذكر والأنثى) ، إنها لحظة الضعف الخاصة تلك التي لا تفرّق بينهما . وبينما يذكي الجسد الأنثويّ من قيمة هذه اللحظة ويُفسحُ مجال حضورها ، فإن الجسد الذكوري يتقنع دائماً لإخفائها وتضييق مجال حضورها آملا تغييبها الدائم . فها هو نموذج الرجل/الأب أو الرجل/الزوج يتكشف بعد موته ، وبعد أن ورث الابن خزانة ملابسه ومكتبته ودولاب أسراره ، هاهو يتكشف عن تلك اللحظة الغامضة ، لحظة الضعف التي يغطيها قناعٌ جسديّ من القسوة والقدرة والصلابة الذكورية ، قناعٌ صنعته جهامة الأيام وقسوة التجارب وصلابة التحديات ؛ فكان الموت لحظة تصالحٍ ليس فقط بين جسد الأب وحقيقته ، ولكن بين ذلك الأب وابنه الذي أجهد وعيه وإدراكه بمحاولات تفسير تلك الهيمنة والسيطرة والجهامة الدائمين ، يقول مطر :
( أكان هذا الطود المجبول من صوّان الإرادة وجهامة القسوة وفوران العنف
مطوياً على ينبوعٍ من الهشاشة والدمع ورعب المنفى الوحيد بين وحوش الأهل !!
أكان ما يزيد على نصف قرن وهوهة فزع في أحراش القرابة الموحشة )
لقد فطن وعي الذات المطرية أن العنفَ والصلابةَ اللذين يتسم بهما بنيان الجسد الذكوري والقسوةَ والجهامة اللتين تحملهما قسمات وجهه دائما ما هي إلا أقنعةٌ تخبئُ لحظات الضعف والخوف والفزع والاغتراب ، ولعل هذا ما يتبدى جلياً في عرضه لحدثٍ أو وقعةٍ يقف فيها الكيان الذكوري بضخامته وعنفوانه في مواجهة الكيان الأنثوي بهشاشته ووهنه فنجد الأول مطأطئاً للثاني في تبعيّةٍ غريبة تركت في وعي الذات المطرية فلسفةً مؤداها : أن قوة القوي لا تبدو جليةً إلا إذا تكشفت عن رحمةٍ بالضعفاء الذين يرتبطون به وشعوراً دائماً بالولاء لهم ، فقوة الذات لا تكمن في قهر الآخر والهيمنة عليه ، لكنها تكمن في القدرة على حمايته والشعور الدائم بالمسئولية تجاهه ، يقول مطر :
( كنت أحوّم حولَهُ مقترباً في خشيةٍ من بوادرِ غضبه أو نوباتِ اختلال عقله الخَرِف ،
أتأمّلُ جسدَهُ القوي المنسوجِ من العضلات النافرة ، وأراقبُ أصابعه الطويلة الغليظة المفتولة وقد
تكوّمت فوقَ مفاصلها عقدٌ خشنة ذات أخاديد وحراشف ، وهو يطوي بيديه أعواد الحديد وقطع
الصلب ويفرك أحجاز البازلت ويحطّم الزجاج .. .. .. حين مرّت به زوجه الهزيلة المتهافتة التي
تمشي بصعوبةٍ وقد أثقلها المرض ، ونادته بصوتها المشروخ الواهن ، أسرَعَ إليها وقد أشرقت
عيناه إشراقة الطفولة والفرح ، وسار خلفها ذلولاً هادئاً مطأطئ الرأس )

ويقول عن رؤيته التي استخلصها من تلك الحادثة :
( قلت لنفسي : مهما تكن قوّتك قوتك وقدرتك في قابل أيامك ومستقبل رجولتك ؛
فلا تلق بقيادك ولا تطأطئ بولائِك إلا لأشد الأشياء هشاشةً وضعفاً :
حشرةً طنانةً ، أو طحالب بركة ، أو بيضة طائر ، أو رائحة عرق ، أو دمعةَ مقهور )
هكذا شكلت ثنائية الذكر والأنثى أبعاداً دلالية في وعي الذات المطرية بالجسد وعالمه ، إذ تكشّفت مع الوقائع والأحداث المختلفة حقيقة التشابه التي ينطوي عليها جسد الذكر وجسد الأنثى ، والذي تحققه النفس التي تساكنهما ، تلك النفس الواحدة التي ربما تغيّرت القوالب الخارجية المحيطة بها أو تعددت الأقنعة التي تتخفى خلفها وجوه الأجساد التي تسكنها تلك النفس . إنه وعيُ الذات بحقيقة الجسد البشري ، تلك الحقيقة التي ينتحي فيها الشكل/النوع جانباً ؛ ليتجلى المضمون وحده بوصفه حامل الدلالة الأمثل ومدشّن الصيغة الجوهرية لحضور علامات الجسد في نص العالم.

( الإيقاع الوجودي للجسد : البعد النصي لحضور الآخر )

للجسد الإنساني في الوجود إيقاعٌ خاص منوطٌ بتلك الحركة التي يؤكد بها تواجده وفعله وانفعاله وقدرتَه على التأثير والتأثُّر . وقد عكست السيرة الذاتية لمطر وعياً شديد الخصوصية بالجسد وإيقاعه الوجودي ، ذلك الوعي الذي تشكلّ عن الجسد وبه وفيه ، وكانت إحدى نواتجه رؤيةً مميزة عن تلكم العلاقة التكوينية القائمة أبداً بين الجسد والوجود والتي يمثّل الإيقاع فعاليتها العظمى ؛ مما حدا بالذات المطرية إلى الانغماس في عوالم الشعر وإيقاعاته المتنوعة ، انطلاقاً من تصوّرٍ مؤداه أن إيقاع الشعر يستطيع باقتدار إعادة قراءة العالم وترتيب مفرداته وصولاً إلى حالةٍ من التماهي بين الذات والوجود .
وقد عكس حضور الجسد داخل نص السيرة ذلك البعد الإيقاعي للجسد البشري ؛ سواءً فيما يتعلّق بجسد الذات أو فيما يتعلق بجسد الآخر ، انطلاقاً من يقينٍ راسخ بأن للعالم إيقاعٌ محددٌ خاص يحكم حركة الموجودات الدائرة فيه ، يقول مطر :
( ويتشكّل اليقين الراسخ بأن الكون معزوفةٌ أو جملةٌ موسيقية واحدة
تحكم نغماتها صــــرامة الرياضـــــــيات العلـــــــــيا الشــاملة )
ولعل نظرةً متأنيةً في نص السيرة المطرية تكشف لنا عن البدايات الحقيقية لذلك اليقين الذي ترسّخ وساعدت الأحداث والوقائع والشخصيات في تعميق جذوره داخل تربة الوعي . لقد كانت البداية مع جسد الشاعر الشعبي “فتحي سليمان” ، ذلك الآخر الذي اكتشف معه “مطر” تلك العلاقة الحميمة بين الجسد والإيقاع ، والتي تتمنى الذات أن تمتلك القدرة على فك رموزها لتسيطر هي الأخرى على صيغة وجودها ، محققةً القدرة على الفعل والانفعال ، يقول مطر :
( حين رأيتهُ أول مرة ، بطوله الفــــــــــارع وعمامته الرشيقة وقفطانهِ الذي يتصبب
حريراً وقصباً وأقواس قزح ، ظننته جســـــــداً من الموسيــــــــقى ينبع منه الكـــلام )
إن نص “أوائل زيارات الدهشة” يزيح الستار عن كل آخرٍ ترك علامةً بارزةً في وعي الذات المطرية، ليس فقط من خلال سرد الواقعة أو الحدث العالق في ذاكرة الذات والذي انخرط فيه ذلك الآخر ؛ ولكن من خلال تتبعٍ شديد الحساسية لإيقاع هذا الآخر أو ما يمكننا وصفه بالحضور الزمني للشخصية . وقد حقق عفيفي مطر في رسمه لشخوص سيرته صورةً إيقاعيةً خاصة ، ولكن ذلك الأمر لم يكن متاحاً لكل آخر ؛ فقد كان مقصورا فقط على أولئك الشخوص الذين ربطتهم بالذات المطرية علاقة انفعالٍ وتأثير ، فأصبحَ إيقاعهم نبضاً للوعي يدفع الذات إلى توسيع إدراكها ويمنحها القدرة على تجاوز المحدودية بحثاً عن تشكيل المفاهيم وتكوين الرؤى .
هذا بالفعل ما تطالعنا به شخصيات هذه السيرة الذين يدين لهم صاحبها بولاء المعرفة والاكتشاف والدهشة ، على الرغم من تنوعهم واختلافهم ما بين مهمّشين ومشاهير ، ومثقفين وأميين ، وأقارب وغرباء وأصحاب أقلام وحرفيين ، بل إن منهم من أسعفت الذاكرة باسمه ومن طوى اسمه النسيان ولكن بقي إيقاعه نابضاً في الذاكرة ، نذكر من هؤلاء – بحسب ترتيب ورودهم في “أوائل زيارات الدهشة” – : مدرس التاريخ في المرحلة الثانوية – “عم ميخائيل نجّار السواقي” – الشيخ الأزهري “درويش أبو شنب” مدرس النحو بالمدرسة الثانوية بمدينة “منوف” – الشيخ “أمين الخولي” – محمد “أفندي” قنديل الصديق ووالد الزوجة فيما بعد – “العربي” حارس أحد ذوي الأملاك – الشيخ المغربي العابر – اللاجئ الفلسطيني وزوجته وولده – الحداد وزوجته – الأستاذ أحمد العمري أمين مكتبة مدرسة منوف الثانوية .
لقد عمد عفيفي مطر إلى وصف جل هذه الشخصيات مراعياً وسم كل منها ببعدٍ إيقاعي خاص يميزّ طبيعة وجودها ووظيفتها ، فكان رسمه للشخصيات ذات البعد العموميّ الرسميّ من كتاب وفنانين ومشاهير مثلاً يختلف في مفرداته عن رسمه للشخصيات ذات البعد المحدود الثانوي كالحرفيين أو العمال أو عابري السبيل ، ونقصد بالبعد الرسمي والثانويّ حضور هذه الشخصيات في الذاكرة الجمعية العامة وليس في الذاكرة الفردية للأنا المطرية ؛ فحضور هذه الشخصيات لدى الأنا المطرية هو حضور مركزي له حيثيته وفاعليته في توجيه الإدراك وتكوين بنية الوعي . ولعل التنوع في إيقاع الحضور – الذي نقصد إليه هنا – مبعثه الاختلاف الوجودي الذي تمثله تلك الشخصيات بالنسبة للأنا الساردة ، فمن نجار السواقي إلى الشيخ أمين الخولي إلى مدرس النحو الأزهري يُحدِث النص المطري نقلات إيقاعية للشخصيات تتجلى معها صورة تلك الأجساد ودورها في الأحداث ، وكأنها تولد من جديد (داخل النص) لتدبّ بيننا مستعيدةً سيرتها الأولى .
ولعل إعادة رصد حركة هذه الشخصيات – على اختلاف حضورهم الواقعيّ – نصاً ينبئنا بما أحدثه وجودهم من تحوّلٍ اجتماعي ومعرفيّ ومفهوميّ هيّأ إدراك الذات في مراحله الأولى ووجّه حركتها في المراحل اللاحقة لها . وقد كان الطابعان الأساسيان اللذان دار حولهما التصوير النصيّ لهذه الشخصيات هما طابع ” الوفرة ” وطابع ” الغرابة ” على تنوعّ مجالاتهما ، فها هو “عم ميخائيل” نجار السواقي يمتلك سر المياه وأماكنها والقدرة على استخراجها ، إنها وفرةٌ من المعرفة الخاصة ، يقول عنه مطر :
( وقف عمّ ميخائيل ، نجّار السواقي ، بقامته الربعة المدكوكة وقد ظهر شعره الذي وخَطَه الشيب
تحت الطاقية الملفوفة بالشال الأبيض ، وامتلأ وجهه بشاربه الكثّ المصبوغ بصُفرة المعسِّل ،
وصوته القويّ الآمر يحدد لمساعديه طريقة رفع جذع التوت مستوياً فوق حمالتين قويتين
عاليتين .. .. كنتُ أنظر إلى عم ميخائيل بإعجابٍ تخالطه قداسة المعرفة بسرّ الخشب
والسيطرة على الماء والقدرة على التشكيل الذي يهب الحياة والخضرة للحقول )
وهاهو حضور الشيخ أمين الخولي صاحب مجلة “الأدب” ومؤسس جماعة الأمناء البحثية كممثّلٍ لكيان أدبي شريف مرِن قابلٍ للنقاش والنقد وقادر على استيعاب الرؤية المغايرة لكل آخر ، وجودٌ ظل يفجّر في “مطر” الرغبة الدائمة في إثبات الحضور الفاعل حتى بعد رحيل الشيخ عن دنيانا منذ أربعين عاماً، إنها وفرةٌ من المعرفة العلمية ، يقول عنها مطر :
( العمامة المحبوكة والجبة الأنيقة المفتوحة على قميصٍ وبنطلون ،
وفي قدميه صندلٌ رومانيّ ذو أشرطةٍ وأربطةٍ من الجلد ، وبدا فارعاً
وسيماً على وجهه أمارات المرح الصارم وفي عينيه بسمةٌ مطمئِنة )
وهاهو محمد أفندي قنديل نموذج مثقفي القرية ، وأحد من رأى فيهم “مطر” الرعيل الأول للمعرفة والثقافة ، الذين ترعرع كاتبنا تحت رعايتهم وتوجيههم ومثّلوا لهم القدوة ووجد فيهم الدعم حينما تخلّى عنه الكثيرون واتهموه بالزيف والسرقة والغش ، يقول مطر راصداً حضور هذه الشخصية :
( كان محمد أفندي قنديل ذا سمتٍ وهندامٍ يميزانه عن المدرسين وأهل القرية جميعاً ، فالبيريه الكحليّ وعصا المخلب الرفيعة ووجهه الأحــــمر الذي تتبدى فيه شبكة معقــدة من الشعيرات
الدموية التي يكاد يقطر منها الدم ، والبابيون الأحمر المنقوط بالأبيض أو الكحليّ ونحـــــافته
الرقيقة الرشيقة ، ولثغة الراء الخفيفة الخاطفة ، وأرنبة أنفه المشرئبة في كبرياءٍ وتأفف ، وعـيناه الزرقاوان رقيقتا الجفون اللتان يشعّ منهما ذكاءٌ به مكر وغضب واسترابةٌ وسخرية ، وطول صمته بين زملائه ، ونوبات انفعاله الحاد إذا احتدم النقاش ، كلّ ذلك جعله في نظري كائناً مدهشا )
وهاهي شخصية الحدّاد الذي يزور القرية هو وزوجته في مواسم العمل لصنع الفؤوس والمناجل ، تتجلى بحضورها الغريب الملغز عاكسةً نموذجاً من البشر له طبائعه الخاصة غير النمطية ، انه حضورٌ غير اعتيادي لا يماثله في غرابته إلا قصة وجوده وأحداثها التي تنتهي بغيابٍ مفاجئ غير اعتياديٍّ أيضاً إثرَ خيانة الزوجة وهروبها مع عشيقها ، إنهما حضورٌ وغيابٌ يلتفان بالغرابة فيفجران التساؤلات ويتركان علامات استفهام تعجز الذات عن تفسيرها ، يسرد “مطر ” قصة الرجل وزوجته قائلاً :
( كان أسود الوجه دقيق الملامح أصفر الأسنان ، وعيناه الواسعتان معكّرتان بصفرةٍ وحمرةٍ خفيفة ،
سوادهما شديد الالتماع ، مما يعطي حضـــــوره مهــابةً وخطـرا ، يكزُّ على أسنانه ويطحن بها وهو
يلتقط من قلب الجـمر المتـــــوهّج قطع الحديد .. .. .. أما زوجته فقد كانت كالمارد ، فتيّةٌ جريئة
لا أكاد أعرف من أين ينبعثُ سحرها وحضورها الخلاب ، مثقلةٌ بالعقود ودندشة الحليّ حول رقبتها
ورسغها ويتدلى من أذنيها قرطان هائلان على شكل الهلال ، أثوابها مشجّرةٌ بالزخــــــــــارف الملوّنة
وتفوح منها رائحة عطر حارق وعرقٌ ودخان .. .. لم أكن أملّ النظر إلى الحديد المتوهج
اللين وهو يترك حول السندان فتاته الصلب وقشوره الخابية وقد دبّت فيها زرقةٌ خفيفةٌ لامعة
.. .. وكأن الحديد كائنٌ حيّ أيقظته النار وأخرجته من جلده ورماده كما تنبت حبّة الذرة
أو نواة البلح ، ليستأنف – من رميمه – حياة الكدح في أيدي الفلاحين )
لقد قدم النص المطريّ رسماً شديد الدقة لأجساد هذه الشخصيات وغيرها ، ينبئنا ذلك الرسم بطبيعة حضور هذه الشخصيات داخل الأحداث الواقعية ، لكنه في ذات الوقت يلقي الضوء على خصوصية التأثير الذي تركته هذه الشخصيات في وعي الذات ، إنه تأثيرٌ متنوعٌ بتنوع الشخصيات والأحداث . فها هي شخصية “الشاعر فتحي سليمان” تترك آثارها في وعي الذات المطرية ، ليبقى الربط الدائم بين الشعر وتناسق التكوين الجسدي للشاعر ، ذلك التناسق الذي عكف “مطر” على استقرائه في كل الشعراء الذين يقرأ لهم باحثاً عن تلك الصورة الخارجية الأنيقة الآسرة التي توافق نفساً جليلةً مترعة بجلال الشعر :
( حين رأيت في “الرسالة” والمجلات والكتب صور الشعراء : محمود حسن إسماعيل
بعينيه اللتان تكادان تفران إلى قلبي ووسامته الوحشية ، وشيللي وبيرون وكيتس
وغيرهم من أصحاب الرقّة والجمال الأنثوي وجدائل الشعر المتهدّل ،
استقر في أعماقي أن جمال الوجه شرط تكويني للشعر والشاعر )
بينما حمل حضور “عم ميخائيل” نجار السواقي سراً من أسرار وجود الجسد الإنساني في هذا العالم ، والذي يتمثّل في قدرة ذلك الجسد على فرض استمراريته من خلال سبر أغوار هذه الأرض بحثاً عن مكنوناتها ، ومحاولة التفاعل معها . لقد منح نجار السواقي للذات المطرية وعياً شديد الحساسية بالأرض، تلك الأرض التي تطؤها الأجساد ، وتتصارع من أجلها وتُغيّب تحت ثراها . تلك المحكومةُ بإيقاع الأجساد التي تعيش فوقها ، وبقدر ما لبعض هذه الأجسادِ من رغبةٍ في فرض إيقاعها على إيقاع بعض الأجساد الأخرى بقدر ما يكابد جسد تلك الأرض ، مستشعراً القسوة والظلم اللذين يصنعهما الإنسان بأخيه ، وكأنها تمنح الباحث عن الحياة سرّها بينما تكابد مع المكابدين مرارة الصراع وهمجية القوة :
( وكلما رأيت وسمِعتُ أهوال الانحسار والابتلاع المتبادلين وانتقال الخطوط والألوان في
دويّ الانتصارات والهزائم ، ازددت يقيناً من أن الأرض ذات قلبٍ ورئتين ، تنبض وتشهق
وتزفر في أحوال القبض والبسط العجيبين المنضبطين على إيقاع الأسلحة وضربات
القرار والجواب في موسيقى التهليل بالنصر والأنين الدامي بالهزيمة )
أما الشيخ “أمين الخولي” ، ومدرس النحو الأزهري ، ومدرس التاريخ ، وأمين المكتبة ، ومحمد أفندي قنديل فقد شكّل وجود كل هذه الشخصيات للذات المطرية صيغةً خاصةً للمعرفة العلمية والثقافية ، صيغةً جميلة بقدر ما للمعرفة والاكتشاف من جمال ؛ ولذلك اجتهدت الذات المطرية دائما لامتلاك هذه القيمة التي تنطوي عليها المعرفة ، بينما حرصت الذات (في سيرتها) على رصد ذلك الإيقاع الخاص الذي يحمله حدث وجودهم . ولذلك نلمس في تصوير حضورهم الجسدي حالةً من الإبهار والغموض والحيوية بينما تنطق ملامحهم بالذكاء والحدة والرحمة واليقين ويتميّزُ إيقاعهم بالكثافةِ والانتظام ؛ وكأن الوعي استشعر من خلال وجودهم ووقائعهم تلك القيمة الكامنة في المعرفة والتي تطبع حاملها ببريقٍ خاص . وعلى قدر خصوصية المعرفة والثقافة التي تمتلكها هذه الشخصيات كان تنوّع حضورهم بالنسبة للذات المطرية ، إنه تنوعٌ يشبه تنوع الإيقاعات داخل السيمفونيات ، تنوعٌ منتظم ولّد تداخلُهُ في الذات المطرية حالةً من الهارمونية ، لكن “مطر” استطاع في سيرته الذاتية إعادة تفكيك ذلك التداخل رصداً كل إيقاعٍ منها على حدة .
وعلى جانبٍ آخر وقفت الشخصيات المهمّشة اجتماعياً تضرب حركة أجسادِها إيقاعاً وجودياً خاصاً غير نمطيٍ ولا منتظم ، فالحداد وزوجته ، واللاجئ وأولاده ، والشيخ المغربيّ العابر ، و”العربي” حارس أحد ذوي الأملاك ، وغيرهم من العمّال والحرفيين والفلاحين والكادحين ، كل هذه الشخصيات نقلت لنا السيرة حضورهم المغاير الصاخب أحياناً والخافتُ أحايين أخرى ، المزلزل كالبراكين والوديع كالحمائم ، القاسي كالصخر واللين كقطعةِ من الإسفنج بللها المطر ؛ إنهم بشرٌ يعلنون عن وجودهم بأجسادٍ تصطرع دائماً مع واقعٍ مرّ ، بضراوة الفتوّة أو حكمة الكهولة ، بقاماتٍ تجابه الرياح وأصابعٍ تلين الحديد أو بظهورٍ محنيّة تحت حمولة التجارب والخبرات ، وجوه حادة الملامح وطباعٌ شديدة الغرابة .
إنهُ إيقاعٌ استشعرت الذات تماسها معه إلى درجة عنونة الجزء الخاص ببعض هذه الشخصيات ووقائعهم في نص هذه السيرة بعنوان ” قرابات الغرباء ” ، إنها قرابةٌ في القهر والتهميش والاغتراب الدائمين ، قرابةٌ تمتد مجاوزةً محدودية الزمن وجغرافية المكان ليشمل إطارُها إنسان العصور القديمة المهمّش الوجود ، ذلك الذي وقف نفسه وجهده لبناء أعظم الصروح والحضارات ولم ينله من ذلك سوى النسيان بينما حفظ التاريخ أسماء من صُنعت هذه الحضارات على عهدهم من ملوكٍ وفراعنة وقياصرة ، رغم أنهم لم يتكبدوا في سبيل ذلك مثلما تكبد العمال والصنّاع والفنانون والمفكرون . لقد فجّر ذلك الوجود المهمّش وعي الذات بمفردات صراعها من أجل كل آخر عاجزٍ عن التصارع ، إنه وعيٌ ولّدتْهُ تلك النماذج المزامنة لوجود الأنا ، وأزكته المعرفة والإطلاع ، ورصده نص السيرة التي بين أيدينا قائلاً:
( فكلّما فكرت وأعدت صياغة المشهد الجبار تجلى لي غــــولٌ متوحّش لا يغالب ولا يقاوم ،
هو غول الآلة الجهنمية الباطشة بمنظومتها وتراتبها المتماسك وممارســــــاتها التي لا تمتُّ
بصلةٍ إلى الإنسان ، غول آلة الدولة .. .. وكنت أتصوّر نفسي مواطناً في دولة الأسر القديمة
الأولى أو الرعامسة أو التحامسة فيصيبني الهلع والرعب ، فيقشعر جســدي ويقف شَعـري وأنا
أسأل نفسي : هل كان ممكناً أن تكدحَ طول عمرك – بلقمةٍ وفحل بصل – حتى تنال لقباً
مثل: الراعي المقدس لأوز ميدوم أو الحارس الملكيّ على غائط الكاهن الأعظم ، أو العين
الساهرة على شرج العجل المقدّس آبيس ، أو الأمين الملكي الصادق على غســل الأكواب
وتخمير الجعّة .. .. .. لقد امتلأت يقيناً بأن كفاح البشرية كلها يكاد ينحصر في النضـــال ضد
غول الدولة وآلهتها الجهنمية وكهانها المتمرسين لسرقة العقول والأرواح والضمائر والمصائِر
في الدنيا والآخرة .. .. إنه الكفاحُ والنضال ضد صفات الفرعونية في كلّ شيء ، في السياسة
والإدارة والحكم والتراتب الكوني والإنساني حيثما وكيفما كانت هذه الصفات )
لقد فجّر وجود الجسد الآخر وعياً بمفردات الصراع وآليات الدخول فيه ، فحرصت الذات على خوض ذلك الصراع مادام حلمها في وجودٍ فاعل ما يزال قيد التحقق ، ولذلك كانت المحاولة الدائمة للتمنطق بوعيٍ حاد والتسلح برؤيةٍ ثاقبة والتعامل بحساسيةٍ إدراكيةٍ تتجاوز المحدودية والمباشرة التي ترزأ تحت وطأتها غالبية الذوات الأخرى ، ولعل الشعر كان ذلك الخيار الأمثل الذي يمنح الذات قدرتها على التجاوز والشمولية ، كما سيتبين لنا في المحور التالي (البعد الدلالي لحضور الذات) .

(الأفق الشعري ومحنة الجسد :البعد الدلالي لحضور الذات):

تعكس لنا “أوائل زيارات الدهشة” استهداف الذات المطرية – منذ مدارج الوعي الأولى – بناءَ فلسفةٍ خاصةٍ لوجود الجسد ، فلسفةٍ تهدف إلى توسيع أفق الإدراك ودعم بنية الوعي وصولاً إلى تقديم قراءةٍ أكثر يقيناً بالعالم وتدشين كتابةٍ تحقق رؤية الذات الخاصة لموجودات هذا العالم وموضوعاته ومفاهيمه . وقد كانت حركة الذات المطرية تنطوي دائماً على يقينٍ بأبدية العلاقة بين الجسد والعالم والتي يكفل الإيقاع وحده مثالية تحققها ؛ ولذلك أصبحت القصيدة لديه – بإيقاعها وتناظمها – طرحاً دلالياً ومعرفياً وجمالياً لإمكانية تحرر الذات الدائم من أسر الوجود النمطي الضحل المباشر ، لتستطيع تلك الذات تحقيق ارتباط متكافئ مع العالم مثبتةً جدارتها في الوقوف على الطرف الآخر من تلك العلاقة .
وقد كان للقصيدة ارتباطُها الخاص بجسد الذات المطرية ؛ إذ تزامنت لحظات تلاوتها وميلادها دائماً بمحنةٍ تكاد أو توشك أن تعصفَ بهذا الجسد . وهذا ما تنقله لنا “زيارات الدهشة” من ذاكرة الذات وأحداث ماضيها ، فهاهي حمى الملاريا تشعل الجسد وتكاد تعصفُ به بينما تعِيرُه إيقاعات القصيدة نبضها ليتشبث بالحياة من جديد :
( انتفضت مرتعشاً أشدّ حِرام الصوف على جسدي المتوقّد بالحمى وعظامي تتفتت في قبضة
وحشٍ من الثلج ، كانت الملاريا قد عصفت بي بين الهلوسة والإفاقة المتقطّعة .. .. ..
وفي لحظةِ إفاقةٍ من “خطفة” الحمى ، سمعتُ أمي تغني غناءها الذي يقطر حناناً ودمعا ،
وهي تهدهدني ، وأدهشتني أغنيةٌ تغنّيها بطريقةٍ عجيبة لم أسمعها من قبل :
إذا كشف الز / مان لك الــ / قناعا ومدّ إليـ / ك صرف الدهـ / ر باعا
فلا تخش الـ / منيـة واقـ / تحمها ولا تخش الـ / مرابع والـ / يفاعا
وسيفي كا / ن ذلال الـ / منـــايا وخاض غما / رها وشرى / وبــاعا
.. .. ..كنت لا أفهم أكثر الألفاظ ، وكان ذلك من عوامل السحر في الغناء ، كأنني أتلو موسيقى
مجرّدة أو صوتيات خالصة . امتلأت بالإحساس الجسدي بالإيقاع ، بأنواع التقابلات والتوازيات
والتوليفات المتوافقة في كلّ شيء ، حسّاً جسدياً يهزُّ كياني ويدفع الدموع إلى عينيّ .. .. وهذا
الإحساس الجسديّ بالإيقاع ونفاذ الصوت ورد الفعل بالدموع كانا يدفعان بي أحياناً إلى الرعب
من توقف القلب وتآكل الأحشاء حينما أسمع صوت الساكسفون وآلات النفخ والطبول ورعشة
المعدن في الصنوج مع نقرات الرقوق والدفوف )
هكذا كانت البداية مع إيقاع القصيدة الذي هزّ الجسد فدبت فيه الحياة ، وأدركت الذات ارتهان بقائها بمبادلة العالم إيقاعاً بإيقاع ، بامتلاك زمام المبادرة إنه الشعر ذلك الذي يستطيع فرض استمرارية الجسد عبر صيغةٍ إيقاعية خاصة . ومع تجذّر هذا اليقين بدأ التنقيب عن كلّ إيقاع ذاتٍ شاعرة في دواوين الشعراء وقصائدهم المختلفة ، إنهم العائلة الحقيقية التي ستنتشل الذات من الضياع واهبةً الجسد إحساسه المتوقّد ، وها هو ديوان محمود حسن إسماعيل يعلن عن كون كاتبه أحد أفراد هذه العائلة :
( قرأت الديوان مسحوراً مستلب الحواس ، تعصِف بي موسيقاه وتزلزلني سطوة أنظمة القوافي بالتكرار الرياضي المحسوب والتردد المتراوح المعقّد والمفاجئ ، والصور النابعة من تراســـــــل الحواس وقلب العلاقات بين المجرّد والمحسوس في الوصف والتشبيه والمجازات والاستعارات المحرّكة للفكر .. .. ويالهول ما عصف بي ، كأن الصور والموسيقى تنبع من قلبي وتقطُرُ بها أعضائي)
ولكن القصيدة لم تمثّل عند “مطر” فقط رغبةً في تحقيق صيغةٍ خاصة للوجود الذات داخل العالم ولا حتى التماهي به ، لكنها مثلت خروجاً عن المألوف ورغبةً في تحطيم التراتبية التي يفرضها التسليم بوجودٍ نمطيٍّ مباشر . فقد استقرّ لديه –كما سبقت لنا الإشارة في المحور السابق- ارتباط الشعر بسماتٍ جسديةٍ خاصة كالوسامة والرقة والملامح الأنثوية ؛ فكانت مجاهدته في خوض غمار الكتابة محاولةً لخلق سياقٍ نصيّ مائزٍ له عن كلّ من سبقوه ، إلى أن اضطرمت النار فوصل اليقين بالقصيدة والشعر حدّ الهوس ، في محاولةٍ لتحطيم ذلك المعتقد الذي خالط إدراكه الأوليّ (عن وسامة الشعراء) والذي يقف على جانبه الآخر حديث والديه الدائم عن وجهه الذي “يقطع الخميرة من البيت” :
(كانت البريمة والخميرة المقطوعة برهاناً حاسماً على أن الشعـــر طمــوحٌ جميـــل ممكن لكل
البشر ما عداي ، ومستحــــــيلٌ مقطوعٌ به قطع الخميرة بالنسبة لي وحدي دون كل البشر .. ..
ذات صباحٍ شتائيٍ مقرور ، وقد دخلت حجرة الدراسة قبل زملائي بوقتٍ طويل ، أخــــذتني
لحظة إشراقٍ وبهجةٍ لم أعهدها ، وانتفضت في جسدي وقدة إحساسٍ مفاجئ بوحدة الوجود
وذوبان الكل في واحدٍ إيقاعيٍّ جليل ، ووقفت بسحرٍ مباغت وفرحٍ فيّاض بما أتلقاهُ من كلامٍ
تنتظمه ضربـات القلب وإيقاعــــــــات الشهيق والزفير وانتفاض جسدي برعشة النار اللافحة .. ..
جلست محمـوماً أسمع دقات قلبي وينشع العرق فوق جبهتي ومن جسدي .. .. ومن يومها
وأنا أركضُ ركضَ الوحوشِ في أروقة الكلام ، تتقطر النار من هيولى الروح ،
وتتفصد أعضائي بالموسيقى )
هكذا لم تقف القصيدة فقط عند حدود إثارة دهشة الأنا وتفتيق وعيها وذهنيتها ، لكنها حققت في حضورها زلزلةً حسيّة تنفعل بها أعضاء الجسد فيتفصد الجلد أنغاماً وإيقاعات وتختلج ضربات القلب بالأوزان والتفعيلات وترفع المجازات والصور والتشبيهات حرارة الجسم لتزداد سيولة الدم وغزارة الدموع، ويبدأ الجسد في مبادلة العالم الفعل والانفعال في حالة من الذوبان والامتزاج والتماهي . وقد أسفر ذلك الاحتدام الجسدي بالشعر عن احتفاءٍ شديد بهذا الوعي المعرفيّ والجمالي الخاص الذي تفصح عنه القصيدة؛ فأصبحت ممارسة الطقوس المضنية في الكتابة وما يزامنها من انفعالٍ جسديّ شديد الوطأة سبباً في تأكد قناعة الذات المطرية بخصوصيتها وتميّزها في شكل من أشكال الاحتفاء المسبَّبِ بالذات ووعيها ، والذي أنتج في المقابل فلسفةً للرفض الدائم لكل محاولات التهميش والاستلاب والنفي التي تنتهجها كلّ سلطة بدءاً بالأب ومروراً بالمجتمع وانتهاءً بسلطة المؤسسة الحاكمة (الدولة) . وقد تضمن نص السيرة اعترافاً بذاك الاحتفاء وهذا الرفض ، حينما انفجر البؤس والتعاسة ( اللذان اختزنتهما الذات في مراحل تكونها المعرفي ) في وجه الطغيان والصلف والسيطرة:
( كان هولُ البؤس والتعاسة يتفجّر بداخلي ، أنا المثقّف المحتشد بكبرياء
الملوك وعنفوان العاصفةِ الملجومة ، بنوباتٍ من الغضبِ والتحدي العنيد )
ولم يكن الشعر هو الخلاص الأمثل لكونه فقط يحقق تلك الصيغة الوجودية المائزة للذات ؛ ولكن لأنه يمنح تلك الذات ديمومةً وجودية تتخطى محدودية الزمان والمكان . إنه فرارٌ من الموت ، من الدخول في وجودٍ متكرر لا يتخطى كونه اجتراراً مباشراً للاعتيادية والنمطية التي تنتظم فيها أساليب حياة الآخرين . من هنا أضحت المعرفة بما يضمنه الشعر من اختلاف ومغايرة حافزاً مستمراً للإغراق في ذلك العالم الساحر المشتبك المعقّد التكوين :
( لقد كنت أعرف وأومن أن الشعر سينقذ إنسانيتي من هذا المصير ويفتح مسالك الرؤية
والوعي ويحررني من هذا الموت الذي بتُّ أخشاه وأحلم بالفرار من عنكبوتيته المرعبة )
لم يكن الموت الاعتيادي بانتهاء الحياة هو ما قصد إليه “مطر” في المقطع السابق ، ولكن ما قصَد إليه موتٌ من نوعٍ خاص إنه الغرق في توافه الحياة اليومية وزهو التشدق بالثقافة والمعرفة عند أنصاف المثقفين أو بتعبيرٍ أدق أشباه المثقفين ، إنه غلبة الهواجس الإنسانية على النفس وافتقاد الروح الحقّ والدخول في نمطٍ وجوديّ يفرضه المجتمع سواءً كان زواجاً بلا حب وتراحم أو صداقةً بلا يقينٍ وتسليم أو قرابةٍ لا تنشأ إلا على أساس المنفعة المباشرة والاستغلال والتفاخر . أما الموت بمعناه الآخر ، تلك الحقيقة المقدرة التي تعلن انتهاء الحياة واندثار الجسد في باطن الأرض فلم تكن الذات المطرية تخشاها ولن تفعل ذلك مادام نصها الشعريّ قائماً ومادامت الكتابة تنبض بحركة تلك الذات ممتدةً بوجودها إلى أفقٍ لا متناهٍ . بل على العكس تماماً فذلك الموت يحمل للذات صيغة اكتمالها الحقّة ويمنحها قيمةً جديدة لم تكن لتكتسبها حال وجودها في عالم الأحياء المحدود ، أو كما قال “مطر” في رسالته التي أرسلها للشيخ أمين الخولي :
( والموتُ هو ختامُ قصةِ النشوء المستمر للأديب ، وهو الحكم الأخير الذي
يفصل بين الناشئ وغير الناشئ .. الموتُ هو الذي يهبُ للفنانِ قيمته )

إن ” أوائل زيارات الدهشة ” لمحمد عفيفي عامر أحمد مطر خليل الرملاوي هي بالفعل سيرةٌ ذاتية متميزةُ ككاتبها ، ولعل مما أكسبها ذلك التميز تعدد أبعاد حضور الجسد فيها ؛ إذ أعلن الوعي من خلالها إدراكه لكنه ذلك البرزخ القائم بين نوعي الجسد البشري ( الذكر والأنثى ) وقدرة الذات على هتك ستره دامجاً بينهما (عبر النص) في لحظةٍ إنسانيةٍ خالصة ، كما عكس نص السيرة قدرة الذات على تجلية رؤية خاصةٍ للآخر تكشف أبعاده الوجودية من خلال الأحداث والوقائع ، ليعلن نص السيرة عن فلسفةٍ مؤداها : أن كل جسدٍ يمتلك إيقاعاً خاصاً وعالماً خاصاً يحدده هو بحسب حركته وفعله في فضاء التجربة الوجودية . بينما أعلنت السيرة عن ذلك البعد الدلالي الذي تحققه الذات المطرية ، إذ أبرزت امتلاك تلك الذات صيغةً وجودية لها من المغايرة والاختلاف ما يُفرِدُها عن غيرها من الذوات الأخرى ، وكان الوعي بتلك الفرادة وذاك الاختلاف طاقةً دافعة لسيرورةٍ وصيرورةٍ دائمين .
لقد كان الجسد في البدء وفي الختام يكون وبين البدء والختام وعيٌ بعالم من الأشياء والمفردات والموضوعات والموجودات والمفاهيم ، عالم يناجز الجسد/الذات وعياً بوعي وحضوراً بحضور ومعرفةً بمعرفة، وعيٌ أصبح الشعر قوامه وقمّته وقيمته المثلى ، لأن الشعر هو الرؤية التي تتأبى على المحو وتندّ عن التأطير ، رؤيةٌ تتسع لتختزل الوجود في صورة ، وتتحدد لتسكن النفس ، فينبض بها القلب ويشقى بها العقل وتنجذب لها الحواس ويفور بها الدم فينتفض الجسد ويعلن عن ميلاد القصيدة اللسان . إنه الشعر ذلك الطائر الجارح الذي يحمل القلب فتحلّق الذات في فضاءٍ ما العالم منه إلا جرمٌ صغيرٌ في مجرّته الشاسعة ، أو كما يقول مطر (عن ذلك الطائر / الشعر ) في مفتتح أوائله :
( كان قلبي معلّقاً بين مخالب طائر جارحٍ محموم بالسياحات في الأعالي ،
علوّه فزعٌ ورعب ، وانطلاقاته كارثة الاحتمالات ، ومناوشاته لعبٌ فوضويّ
بين الأمل والموت ، وكلما حطّ ليستريح نفّرته الدهشة بزياراتها المباغتة ،
وانفتحت مسالك الأفق أمام المعرفة المرّة والغربة الفسيحة)
طبرق – 2005

————————————————-
الهوامش:
 * شوكت نبيل المصري: باحث وناقد أكاديمي مصري.
1-“الترجمة الذاتية في الأدب العربي الحديث” د. يحي عبد الدايم – دار النهضة العربية ، بيروت – ط1 ، 1976 – من ص 2 إلى 11 .
2- انظر المرجع السابق من ص 2 إلى ص 12 . ( بتصرّف )
3- ” هسهسة اللغة ” رولان بارت ، ترجمة : منذر عياشي – مركز الإنماء الحضاري بيروت 2000 ، ص75 .
4- ” زمن الرواية ” د.جابر عصفور – الهيئة المصرية للكتاب (مكتبة الأسرة 1999) ، ص 195 .
5- ” الثقافة والإمبريالية ” إدوارد سعيد ، ت: كمال أبو ديب – دار الآداب ، بيروت – ط 1 ، 1997 – ص 75 .
6- انظر الغلاف الخارجي لسيرته الذاتية : ” أوائل زيارات الدهشة هوامش التكوين ” محمد عفيفي مطر – دار شرقيات ، القاهرة – ط1 ، 1997 .
7- انظر الغلاف الخارجي للجزء الثالث من الأعمال الشعرية الكاملة للشاعر محمد عفيفي مطر وعنوانه:” احتفالات المومياء المتوحشة ” دار الشروق ، القاهرة – ط1 ، 1998.
8- ” راجع عن ذلك الأثر الدامي على عظام الأنف مقدمة ديوان ” احتفالات المومياء المتوحشة ” للشاعر محمد عفيفي مطر- الأعمال الكاملة ، دار الشروق ، القاهرة – ط 1 1998 ، ص 455 . وقد نتج ذلك الأثر عن تعرض الشاعر للتعذيب داخل المعتقل السياسي في شهر مارس 1991 ، مما خلّف أثراً على عظام الأنف .. وانظر قصائد الديوان سالف الذكر أيضاً .
9- ” سيميوطيقا الجسد ” شوكت نبيل المصري – الهيئة العامة لقصور الثقافة ، القاهرة (كتابات نقدية 151) – أكتوبر 2004 – ص 118 ، 119 .
10- ” أوائل زيارات الدهشة هوامش التكوين ” محمد عفيفي مطر – دار شرقيات ، القاهرة – ط1 ، 1997 – ص 7 .
11-” أوائل زيارات الدهشة ” محمد عفيفي مطر – ص 11 .
12- المصدر السابق ، ص 11 .
13- المصدر السابق ، ص 27 .
14- المصدر السابق ، ص 27 .
15- الآيات من 19 إلى 22 من سورة الأعراف .
16-” أوائل زيارات الدهشة ” محمد عفيفي مطر ، ص 20 ، 21 .
17- المصدر السابق ، ص 116 .
18- المصدر السابق ، ص 12 .
19- المصدر السابق ، ص 12 .
20- المصدر السابق ، ص 48 .
21- فتحي سليمان هو أحد منشدي السير الشعبية في الريف المصري ، وذلك في محافظات الوجه البحري وتحديداً محافظة المنوفية (التي ولد وعاش فيها شاعرنا محمد عفيفي مطر) ، ويطلق عليه الفلاحون في تلك المحافظات لقب ” الشاعر” فتحي لأنه يسرد هذه السير في شكل قصائد مغناة يضيف عليها بعض الأبيات الفولكلورية غير معروفة المؤلف ، ويوشيها بالمواويل والرباعيات المختلفة . (الباحث)
22″أوائل زيارات الدهشة” مصدر سابق ، ص 14 .
23المصدر السابق ، ص 30 ، 31 .
المصدر السابق ، ص 62 .
24المصدر السابق ، ص 81 .
25 المصدر السابق ، ص 95 ، 96 .
26 المصدر السابق ، ص 44 .
27المصدر السابق ، ص 51 .
28 المصدر السابق ، ص 70 ، 71 ، 76 .
29 المصدر السابق ، ص 46 ، 47 .
30 المصدر السابق ، ص 104 .
31 المصدر السابق 44 ، 45 ، 46 .
32 المصدر السابق ، ص 90 .
33 المصدر السابق ، ص 126 .
34المصدر السابق ، ص 65 .

خاص بعناوين ثقافية فبراير 2007

اترك رد

اكتشاف المزيد من عناوين ثقافية

اشترك الآن للاستمرار في القراءة والحصول على حق الوصول إلى الأرشيف الكامل.

Continue reading