تدشين على أنغام النّحاس

سعيد محمد الجندوبي

تحت شمس ربيعيّة ساطعة, انساب الطريق الجديد راسما خطّا محتشما, يتّصل أوّله بطريق معبّد قديم, وينتهي إلى لا شيء… حقول لا متناهية الامتداد وغير ذات زرع. فلقد خطّ هذا الدّرب على عجل, حتّى أنّ العمّال غادروا قبل موعد التّدشين بساعتين فقط, بعد أن فرشوا على الأرض بساطا من الحصى, حتّى تبدو على ما عملوا سمات الطريق.

على الجهة اليمنى من هذا الطريق, لا شيء. أرض عراء, تناثرت فوقها بعض الخرفان والماعز, بقايا ريف بات يقاوم زحف المدينة بدون أمل في النّصر, وكلب لا يمكن تحديد سنّه, نحيف, قد ملّ ملاحقة القطيع, فصار لاهثا لا مباليا بما كان يدور حوله. أمّا على الجهة اليسرى, فقد اصطفّت مجموعة من المنازل المتلاصقة؛ ستّة عشر منزل ينمّ بياض جدرانها النّاصع وزرقة نوافذها على جدّتها. ثمانية منها متّجهة صوب الشّمال, ومثلها مستقبلة الجنوب.

“الحي الشعبي”, وهذا هو الإسم الذي اختير لهذا المجمّع السكني, ينتصب, ببيوته ذات الطابق الواحد, بكلّ تواضع على أرض عراء في أطراف المدينة, كانت في ما مضى مزروعة عنبا وقمحا وأشجار فواكه أخرى لأحد كبار ملاّك الأراضي.

ترى كيف ارتسمت صورة هذا الحيّ وتلك المنازل, في مخيّلة المهندس المعماري ليخرجها على هذه الشّاكلة؟ لم يكن هذا الحيّ يشبه شيئا موجودا ومألوفا ممّا أفرزته نماذج المعمار, القديم منها والحديث؛ فلا هي بالمنازل العربيّة العريقة, بأزقّتها الملتوية وسقائفها المفتوحة, ولا هي بالفلل الأوروبيّة المعروفة بحدائقها المرتّبة وبنوافذها الكبيرة, لا… لا شيء من كلّ ذلك.

قد تكون ومضة خلق وإبداع انبثقت في مخيّلة المهندس المعماري, فرأى أن يخرج للناّس عمارة ذات ثمانية طوابق ممدّدة على جنبها استجابة لرغبة السّكان الجدد في أن تكون شقّة كلّ واحد منهم بالطّابق الأرضي. أو قد يكون المهندس المعماري الشّاب, من تلاميذ “لوكربوزييه”, عاد إلى تونس بعد التّخرّج, فأراد تطبيق ما تعلّم, ولكن بالوسائل المتاحة, بدون رافعات ضخمة, ومن غير إسمنت مقوّى؛ بأكثر ما يمكن من رمل وبأقلّ ما يجب من إسمنت, تلبية لرغبة المقاولين المتعاملين مع البلديّات. زد على ذلك أنّ العمارات لن تكون بأيّة حال مجهّزة بمصاعد كهربائيّة؛ فما كان منه إلاّ أن أنام عمارته. وقد يكون الأمر أقلّ تعقيدا من كلّ التخمينات المتقدّمة, وهو الأرجح, قرار من رئيس البلديّة هذا مضمونه: “استجابة للسياّسة الحكيمة المتوخّات من طرف سيادة رئيس الجمهوريّة نعتزم, بعون الله, إنشاء أكثر عدد ممكن من المباني السّكنيّة على هذه القطعة الصّغيرة من الأرض, على أن يكون المشروع جاهزا قبل منتصف شهر مارس المقبل, موعد زيارة سيادة الوزير الأوّل المقرّرة لبلديّتنا. والسّلام. رئيس البلديّة, في العاشر من ماي 1968.”

وجاء اليوم الموعود.

بدأ الناس يتقاطرون على المكان في شكل مجموعات صغيرة مكوّنة من رجال ونساء معظمهم في العقد الثّالث من العمر, وأطفال دون العاشرة, وبعض الشّيوخ والعجائز عليهم بقايا سمات ريف استؤصلوا منه ولم يغادرهم. ارتدى الجميع أبهى ما جادت به إمكانياتهم المحدودة من الحلل. فاللّقاء مع الوزير, وهو أمر جلل وخارق للعادة. فلقد عرفوه حتّى السّاعة صورة جامدة على صفحات الجرائد, وصوتا ونبرة في المذياع؛ وها هم اليوم في حظرته, ومن يدري لعلّه يصافح بعضهم, أو يمسح على رأس طفل من أطفالهم. وبمجرّد مرور هذه الصّورة في مخيّلتهم, تتسارع نبضات القلوب وترتسم النّشوة على شفاههم, وتشرق وجوههم النّحيفة الّتي طالما لفحتها شمس الحظائر والحقول والأرصفة.

ثمّ تلت هذه المجموعة, أخرى تختلف عن سابقتها كلّيا في الهيئة والهندام. بطون ضخمة, وجوه مستديرة, منتفخة, لامعة. رؤوس غلب عليها الصّلع أو الشّعر الأبيض. واختفت الأعين خلف النّظارات الشمسيّة السّوداء أو وراء النّظارات الطّبيّة. بعضهم كان يرتدي الجبّة التّقليديّة والبعض الآخر البدلات الأوروبيّة؛ وقلّة, يبدو أنّها لم تتسامح قيد أنملة مع مستلزمات البروتوكول, فزادت على كلّ ما سبق ربطة عنق لتبلغ منتهى درجات الأناقة.

كانت لهذه المجموعة مشيتها المميّزة, وكأنّها تريد أن ترسم الحدّ الفاصل بينها وبين سابقتها, وتؤكّد ما لها من غنى وسلطان لا تزال حديثة عهد بهما. فبكلّ خيلاء يمشي الواحد منهم مبرزا صدره, وخاصّة بطنه, لا يكاد يرى عائقا أمامه. وأيّ عائق قد تحدّثه نفسه بالتّصدّي لهذه البطون العظيمة, ولهذه الصّدور البارزة, ولهذه الأرجل الثّقيلة, ولهذه الأبّهة والجلال؟ أيّ عائق سيصمد أمام هذا القطيع من الفيَلة؟

هؤلاء هم أعيان البلدة ووجهاءها؛ أثريائها الجدد.

فها هو رئيس البلديّة ببدلة رماديّة مفتوحة, تحتها قميص ناصع البياض, بدت أزراره وكأنّها تئنّ من وطأة ضغط البطن عليها. فلقد كان السّيد حسين جاب الله, قبل سنة أو سنتان على الأكثر, نحيفا ممّا هو عليه الآن؛ حين قدم من إحدى قرى السّاحل كمجرّد معلّم بمدرسة ابتدائيّة, ليصبح بفضل نشاطه وحيويّته داخل هياكل الحزب, وكذلك بفضل معارفه وأصدقائه من أبناء قريته السّاحليّة رئيسا للشّعبة الدستوريّة, فعضوا بالمجلس البلدي, فرئيسا للبلديّة. والحقيقة أنّ الذي ساعده في هذا الصّعود السّريع في الدّرجات, طموحه الجامح, وأريحيّته مع النّاس, وفصاحته العاميّة, وقدرة خارقة على المراوغة والتّزلّف عند من لهم نفوذ وكلمة مسموعة. كان من حين لآخر يرفع نظّاراته الشّمسيّة السوداء, ليمسح بمنديل أبيض وجهه ثمّ جبينه فرقبته من حبّات العرق, في حركة ميكانيكيّة ما فتئت تتسارع كلّما أقترب موعد حلول الموكب الوزاري. ورغم ذلك فإنّه كان يحاول إبداء أكثر قدر ممكن من الهدوء والأريحيّة. فلقد ارتسمت على وجهه المستدير, المنتفخ الوجنتان ابتسامة متواصلة كان يبذلها بسخاء مبالغ فيه على من حوله. وكان هؤلاء يكافئونه, في المقابل, على هذه البسمات السخيّة بعبارات الثّناء, والولاء, والتّهنئة على نجاح المشاريع؛ وبالذّات مشروع المساكن الشّعبيّة.

ويبرز من هذه المجموعة أيضا, رئيس الشّعبة الّذي كان يشغل في نفس الوقت منصب نائب رئيس البلديّة المكلّف بالشباب والرّياضة. وهو من الأناقة بحيث لا يمكن تجاهل وجوده. فقد ارتدى قميصا أبيض, مقطّع اليدين , وسروالا فضفاضا, من نفس اللّون, وكذلك الحذاء. حتّى شعره المسدل بدقّة صارمة إلى الوراء, لم يكن ليتميّز عن لون الملابس لولا أن اختلط الأبيض فيه بما خلّفته سني الشباب من سواد. هو الآخر كان يتّقي أشعّة الشمس بنظّارات سوداء داكنة. حركاته وكذلك طريقة كلامه فيهما اتّزان وأناقة تنفلت منهما بين الفينة والأخرى بعض أنوثة, (وقدر من التّصنّع) سرعان ما تغرقها قهقهاته وقهقهات من حوله. كان جلال الدّين العريف شخصيّة مثيرة للتّساؤلات المشحونة بالإشاعات المكتومة. فبالرّغم من تقدّم سنّه, فإنّه كان في عزوف تامّ عن الزّواج, ولم تكن له علاقات تذكر بالجنس اللّطيف. كان يعيش بمفرده في “فيلاّ” على شاطئ البحر, يترددّ على الألسن أنّه اقتناها بثمن الرّمال من عجوز فرنسيّة غادرت, بعد وفاة زوجها, إلى واحدة من دور العجّز في جنوب فرنسا, على أن يرسل جلال الدين العريف إليها مبلغا شهريّا إلى أن تتوفاّها المنيّة. لا أحد يعرف ما كان يجري داخل “فيلّته” الغارقة في غابة كثيفة من الأشجار والأعشاب التي غذّتها سنوات طويلة من الإهمال. ويبدو أنّ نشاطاته المتعددة قد التهمت جلّ وقته, فتراه يغادر اجتماعا للشعبة الدّستوريّة, ليلتحق بآخر في إحدى فرق الكشّافة, وها هو في ساعة متأخّرة من المساء يراقب بنظرات حالمة تمارين فريق كرة السّلّة, لا تبدو عليه علامات الكلل والإرهاق حتّى وهو منغمس, على أنغام الأطلال لأمّ كلثوم, في لعبة ورق “رامي” طويلة المدى, في مقهى الشباب.

وفي خضمّ هذه المجموعة الثّانية من المحتفين بالوزير الزّائر, وقفت سيّدتان جاوزتا الأربعين من العمر. إحداهما رئيسة فرع “الإتّحاد النّسائي”, وعضو بالمجلس البلدي, وبطبيعة الحال, ناشطة مرموقة في الشعبة الدستوريّة. من في البلدة لا يعرف مادام روضة النجّار؟ لقد كانت تقوم بدور مهمّ في توعية المرأة بعد أن استوعبت بقناعة صارمة كلّ أفكار المجاهد الأكبر, وقطعت على نفسها أن تكون حياتها الشخصيّة مختبرا لهذه الأفكار, فباتت مجسّدة لها في كلّ كبيرة وصغيرة… سرعان ما يتصاعد الدّم إلى وجهها, وتشتدّ نبراتها, وتكتسي عباراتها بالصّيغ الرّسميّة المستقاة – بدون أدنى عقد – من القاموس البورقيبي, حين يكون موضوع الحديث مشروعيْ “محو الأمّيّة” و”تحديد النّسل”. فهذان المشروعان هما في نظرها, بمثابة طفليها اللذين أنجبتهما. فبفخر واعتزاز مبالغ فيهما, تتحدّث عنهما مادام روضة النّجّار, مبرزة صدرها الممتلإ تأكيدا على دورها الرّيادي, وعلى ما توصّلت فيهما من نتائج, وكذلك على ما تطمح إليه منهما, على المدى البعيد من “رقيّ وتقدّم ولحاق بركب الدّول المتحضّرة”. وهاهي في هذا اليوم المشهود ترنو, حالمة, إلى النّاحية الّتي سيأتي منها الوزير, تدغدغها مشاعر النّشوة بالإهتمام الذي سيحضى به عملها لدى الوزير, بما يعنيه ذلك من فتح للأبواب, ومن صعود على سلّم الهياكل الحزبيّة والحكوميّة, ومكاسب أخرى, جانبيّة, ربّما هي الأهمّ في نهاية المطاف.

وهذا سي محمّد البحري, مدير أكبر وأقدم مدرسة ابتدائيّة في البلدة. تميّز عن الجميع بضخامة جسمه؛ وحتّى الجبة القرمزيّة الفضفاضة, لم تكن كافية لإخفاء شيء من هذه الضخامة – وإن خفّفتها, في الأعين, إلى حدّ كبير. كان مدير المدرسة من أصيلي جهة السّاحل, وكان محلّ تقدير وخشية الجميع, صغارا وكبارا. إذ كثيرا ما يستشيط غضبا, لسبب أو لآخر, فتنهمر من بين شفتيه الغليظتان, ألفاظا نابية, في سيل جرّار من توبيخ وسبّ وشتم؛ ولكن بدون أن تترك هذه الكلمات وقعا سيّئا عند من تُوجّه إليه, أو عند من يسمعها. فلقد كانت تنطق في فم سي محمّد البحري على نغمة أبويّة وإن قست؛ وللمعلّم آنذاك مكانة مرموقة بين النّاس, وكان بحكم وظيفته وجيها. فما بالك بمدير المدرسة.

وهذا “عمّ حسن البرقادي”, رئيس مركز الشّرطة بلباسه الرّسمي الرّمادي, وبقبّعته التي لا يضعها على رأسه إلاّ في مثل هذه المناسبات الهامّة. كان بمقياس هذه المجموعة نحيفا شيئا ما, ويختلف على الجميع بحمرة في الوجه وبياض في الشّعر يجعلانه أقرب إلى الفرنسيس منه إلى التونسيين. لقد أنْست وظيفته النّاس لقبه العائلي, فصار لا يُعرف بغير لقب “البرقادي”, وعائلته لا تعرف إلاّ بدار “البرقادي”. وهو من سكّان المدينة القدامى, وهذا ما جعل علاقته بالنّاس دمثة ومتميّزة بالطيبة. وقد تحدث المشاجرات بين الجار والجار, وبين الزوج والزوجة, ويصل الأمر إلى مركز الشّرطة, فتُحلّ الخلافات بتدخّل أبوي صارم من “عمّ حسن البرقادي”. والحقيقة أنّه بحكم انتمائه للجيل الأول من شرطة ما بعد الإستقلال, فإنّه لم يكن من خرّيجي المدارس المختصّة, بل تمّ انتدابه كغيره من أبناء ذلك الجيل, لسدّ الفراغ الإداري الذي خلّفه رحيل الإستعمار. وتمّ الإنتداب على أساس امتلاك الرجل لحدّ أدنى من التعليم يخوّل لصاحبه قراءة وكتابة المحاضر بلغة الضّاد. ولهذه الإعتبارات غلبت لدى “عمّ حسن البرقادي” في تعامله مع أهالي المدينة صبغة الإنسانيّة على صفة الشّرطي؛ إذ لم يكن لتُحدّثه نفسه – مثلا – بأن يستفيد من بدلته الرسميّة, ليفرض سلطة ما على النّاس تدرّ عليه ببعض ما يعينه على عسر نهاية الشهر لضعف الأجرة, بل كان حامد لله, مكتفيا بالوجاهة والإسم كقيم رمزيّة, ثمنا لما كان يقوم به من واجب. إنّه بحق من “فُخّار زمان”! عبارة كان يحلو لأصدقائه مداعبته بها, ويقرّهم “عمّ حسن البرقادي” بابتسامة عريضة.

فجأة, وبدون سابق إنذار, دوّى انفجار مزعزع, عمّ صداه البقعة بأكملها, فأخمد ما كان ينبعث من المجموعات المتناثرة من أصوات وقهقهات, محدثا فيها التفاتة ميكانيكيّة نحو مصدر الصّوت, مصحوبة لدى البعض بارتجافة فزع.

فلقد أعطى “سِيد أَحْمد” إشارة الإنطلاق لفرقته النُّحاسيّة, فكانت “النّوتة” الأولى قويّة بحجم أهميّة المناسبة. كان “سيد أحمد” يحرّك يديه بعصبيّة المايسترو, وقد انصبّت أنظار كلّ العازفين عليهما, ولكنّه كان يستعمل بالإضافة إلى يديه كلّ جسده, حتّى يخال للنّاظر إليه أنّ كلّ عضو فيه موجّه إلى آلة بعينها. فتراه يضرب برجله الأرض لتوجيه الطبل, ويرفع حاجبيه ليعطي إشارة الإنطلاق للكلارينات, ويبدي أسنانه لإصطحاب “تشتشة” الصّحون النّحاسيّة, وينفخ حنكيه مقلّداً للطُّرُنْبُونْ… وهكذا فإنّه في اندماج تامّ مع فرقته. لو توقّف “سيد أحمد” عن الحركة لأنفرط عقد النّوتات, ولتخبّط العازفون خبط عشواء…

كلّ من يعرف “سيد أحمد” يُقرّ بأنّ شخصيّته غريبة الأطوار, تسبح في هالة من الأسرار. فلقد كرّس حياته بكلّ تفانٍ وإخلاص, وبدون مقابل لتعليم الموسيقى, كما تعلّمها هو عند أستاذه الإيطالي, بطريقة تغلب عليها العصاميّة المدعومة برهافة الحسّ. ورغم فتحه لبيته لكلّ شباب المدينة الرّاغبين في تعلّم العزف, فإنّه كان صارما لا يقبل التهاون ولا يقبل المزاح حتّى وإن كان خفيفا؛ وسرعان ما يشتطّ غضبا ليطلق سيلا جرّارا من السباب الذي لا يخلو من التوبيخ الأبوي, ويلعن العصر الّذي صار الشباب فيه لا يفقهون شيئا عن الحياة ولا يهتمّون بما ينفع النّاس. كلّ هذا وسط فيضٍ من الضّحك المكتوم, لدى العازفين.

كان “سيد أحمد” يستشهد دوما بأستاذه وشيخه في الموسيقى “الأب ريتزو”, وهو راهب إيطالي علّمه الموسيقى وأسرارها على الطريقة التقليديّة –كما كان يحلو للتّلميذ التّأكيد عليه- فصار مفتخرا بما ورثه من علم, حامدا لجميل ذلك الرّاهب, مقدّسا له كتقديس المريد لشيخه. وقد يبلغ به الأمر أحيانا, وبخاصّة عندما يُسأل عند رأيه في أحد الفنّانين الأحياء أو الموسيقيّين ذوي الشهرة الشّعبيّة, أقصى درجات التّعصّب, فتتحوّل عيناه إلى جمرتين متوقّدتان, يتطاير منهما الشّرر, وتتدافع الألفاظ النّابية, ويعوجّ فمه, زيادة منه في التّهكّم عند ذكره لأسماء “أدعياء الفنّ”:
– “وتسمّون هذا موسيقى؟… باخاصمك آه!” ثمّ متوجّها بالسّؤال المفاجأ لأحد العازفين ممن لم يسمع في حياته بموزار ولا ببتهوفن ولا حتّى بالأب ريتزو: “أين هذا من خامسة بيتهوفن؟
– معك حقّ سيد أحمد… والله معك ح…
– ماذا؟ معك حقّ سيد أحمد؟ هذا ما قدرت على قوله؟ ثمّ متوجّها للجميع كمن ينعى أباه, باحثا فيمن حوله عن العزاء, من دون جدوى, “ناري على هذا الشباب!”

وممّا يزيد من شخصيّة “سيد أحمد” غرابة ويضفي عليها صبغة تكاد تكون أسطوريّة (خرافيّة), أنّ كلّ من عرفه من قريب أو من بعيد, أو حتّى من العازفين في فرقته النّحاسيّة, لا يقدرون على تحديد دقيق وقاطع لآلته الموسيقيّة المفضّلة… “على أية آلة تعلّم سيد أحمد العزف؟” سؤال أرّق الجميع. فلقد كان يملك كلّ الآلات, ويعلّم العزف عليها جميعا: من النّحاسيّة إلى الطبول بأصنافها, مرورا بالوتريّات من عود وقيثارة وكمان… كان “سيد أحمد” يُجلس أمامه التلميذ المبتدئ, لا يلمس آلته, لا يعدّلها حتّى, بل تراه يُملي نوتات المعزوفة الموسيقيّة شفهيا, ويشير بإصبعه إلى مواضع النوتات, ويتسلّق بك سلّم علم الموسيقى عبر الأسابيع فتراك تعلّمت تعديل آلتك بعد أن حفظت النوتات وعرفت عن ظهر قلب, نغماتها ومواضعها, وهكذا.
-“دو دو… دو دو
مي فا مي ري دو.
دو دو… دو دو
مي فا مي ري, عاود!”
وفي المرّة الثّانية صارخا بملأِ شدقيه:
-” القفلة بيانيسّيمو… برافو!”

لا يعرف الملل لمملكة “سيد أحمد” الموسيقيّة مدخلا. فمن المواضيع المفضّلة لديه, على هامش التّمارين, السياسة… أو بالأحرى رجالها. فهم بالإضافة الفنّانين الجدد, يشكّلون هدفه المفضّل. لا يحبّ “سيد أحمد”, بل يمقت إلى درجة تدعو إلى الحيرة والإنبهار بهذه الشجاعة المفرطة, رجال السيّاسة الأحياء, فهم في نظره:
– “حفنة من الحَفْتَريشْ, الزُّوِفّرَهْ, والهُمّالْ الذين كانوا بالأمس القريب رعاة ماعز هزيلة, بالبوادي الّتي لم تعرف أبدا ماء الحنفيّات ولا الكهرباء, وباتت بين عشيّة وضحاها تتصرّف في رقاب الخلق وأموالها…” ثمّ ملقٍ بالسّؤال على أحد الحاضرين:
– ” أليس كذلك؟
– ما… ماذا… مم…
– ماذا؟! إيه… يا حسرة على أيّام سيدي المنصف, وسيدي محمّد الأمين, كانت لهم أبّهة وهيلمان…
– ياحسرة…
ويضيف “سيد أحمد” متنهّدا:
– وموسيليني… هل سمعتم بذاك البطل؟ كان ريتزو رحمه الله لا يحلف بعد العذراء إلاّ باسمه…”

وبتململ منبئ ببدايات الضجر, يترحّم الجميع بدون تحديد دقيق على روح موسيليني, أو الأب ريتزو, أو البايات. ولكن “سيد أحمد” يواصل حديثه وكأنّه في عالم آخر, غير آبه لما يدور حوله.
– كان حين يخطب في النّاس, يقف بإعتزاز وفخر, نافخا صدره كالدّيك, ورافعا رأسه, مصوّبا أنفه كالنّسر نحو نجوم السّماء…
ويتدخّل آنذاك أحد أقدم العازفين, وأعرفهم بطبائع “سيد أحمد”, متصنّعا السّذاجة, إستفزازا منه للخطيب:
– كان موسيليني يخطب باللّيل. أليس كذلك؟
ويتوقّف “سيد أحمد” فجأة عن الكلام, ليخيّم صمت درامي على الجميع. ثمّ يحرّك “سيد أحمد” رأسه وكأنّه يحاول رسم دائرة في الهواء في حين تدلّت شفته السّفلى مبالغة في التّهكّم:
– كان يخطب باللّيل؟!… ناري على شباب اليوم! هيّا… أعيدوا بعدي آلونيسوني :

“دو دو… دو دو
مي فا مي ري دو.
دو دو… دو دو
مي فا مي ري, عاود!”

توقّفت مجموعة السيّارات المكوّنة للموكب الوزاري عند بداية الطريق, ونزل الوزير من سيّارة فخمة سوداء, وسرعان ما أحيط به من قبل المحتفين الرّسميّين, وقد خلعوا عنهم جلابيب الهيبة والوقار, فباتوا يستجدون مصافحة, أو بسمة, أو مجرّد ألتفاتة من الوزير. وأحيطت هذه الحلقة بحزام واقٍ من رجال الأمن, الّذين أحيطوا بدورهم بمجموعة أقلّ تجانس, تضمّ الإطارات الحزبيّة والكشفيّة والنسّائيّة وأعضاء النّادي الثقافي وإمام الجامع والمؤذن. والتفّ بهذه المجموعة من بقي من النّاس, أي المعنيّون بالأمر, من أقيمت كلّ هذه المراسم من أجلهم, ومن جاء الوزير خصّيصا لتسليمهم مفاتيح وعقود بيوتهم.

وبعد تبادل عبارات التسليم والترحيب, تدحرجت الكوكبة ذات الدوائر المتّحدة المركز نحو المنصّة التّي أعدّت خصّيصا لهذه المناسبة الكبرى. واختلطت الأصوات بالتّصفيق وبالموسيقى النّحاسيّة وبالأنغام الفولكلوريّة في رهان موضوعه: من يعلو صوته فوق صوت الآخرين؟ وتقدّمتا طفلتان في زيّين تقليديين, تحمل إحداهما باقة زهور, وتحمل الأخرى وسادة من القطيفة الحمراء وُضع فوقها بدقّة صارمة مقصّ فضّي شديد اللّمعان.

بعد أن قبّل الوزير الطفلتان, وبعد أن ربّت على خدّيهما, تناول المقصّ واقتطع من شريط التّدشين, الأحمر والأبيض كلون علم البلاد, قطعة وُضعت للتّوّ, وبقدْسيّة تامّة, على الوسادة الحمراء, تخليدا للذّكرى. احتدّ التّصفيق آنذاك, وتكلّم رئيس البلديّة في الميكروفون, وقد ارتسمت على وجهه كما على وجوه كلّ الحاضرين ابتسامة يمتزج فيها الرضا بالسّذاجة: “سيّدي الوزير, باسمي وباسم أهالي مدينة الزّهراء, أتقدّم لحظرتكم بأجمل عبارات الترحيب والشكر على لفتتكم هذه, الكريمة لبلديّتنا, والّتي إن دلّت على شيء فإنّما تدلّ على العناية الفائقة الّتي نُحظى بها نحن, سكّان مدينة الزّهراء, لدى حكومة سيادتكم. كما نغتنم هذه الفرصة, لنتوجّه عبركم, بفائق التحيّة والإحترام إلى فخامة رئيس الدّولة, المجاهد الأكبر, الحبيب بورقيبة”. وهنا اشتدّ التّصفيق المصحوب بصراخ الأطفال, وكانت توجّههم, كالسنفونيّة, أيادي المشرفين عليهم من الإطارات الحزبيّة: “يحيا… بورقيبا… يحيا بورقيبا!”

ثمّ قُدّم الميكروفون إلى الضّيف الشرفي, فتحمحم بكلّ مهنيّة, حتّى تزداد حنجرته صفاء, وقال, وقد عمّ الصمت جميع الأرجاء, وكأنّ الحاضرين على رؤوسهم الطير: ” بإسم الله الرحمان الرّحيم, أيّها المواطنون أيّتها المواطنات, يسعدني أن أكون حاضرا بينكم اليوم لأقوم بتدشين هذه الدّفعة من المساكن الإجتماعيّة, والّتي تُجسّد حرص سيادة رئيس الدّولة (تصفيق وهتاف من جديد) على تنفيذ مخطّطنا الخماسي هذا, والّذي يشمل القضاء على الأكواخ وتمكين كلّ التونسييّن من مساكن لائقة تحفظ لهم كرامتهم (تصفيق). كما أغتنم هذه الفرصة لكي أزفّ لكم…” وأخذ الوزير في سرد قائمة طويلة من الوعود الّتي إذا ما كُتب لها وتحقّقت فسيغدو “الحيّ الشّعبي” جنّة على وجه الأرض.

واستفاق الجميع من غفوتهم, حينما حلّت اللّحظة الحاسمة, والّتي من أجلها تجمّع كلّ هؤلاء, إذ شرع الوزير صحبة معاونيه في تسليم مفاتيح المساكن مصحوبة بعقود التّمليك. كان رئيس البلديّة ينادي بالأسماء الواحد تلو الآخر, فيهرول المدعو بإسمه صوب المنصّة الشرفيّة بتعثّر وخجل ورهبة, ليعود أدراجه وقد غمرته سعادة الخلاص.

بدأت الشّمس تميل نحو الغروب حينما انتهت مراسم التّدشين والتّسليم, وتدحرجت الكوكبة ذات الدّوائر المتّحدة المركز نحو مربض السيّارات, وسط هالة صاخبة من الهتاف والتّصفيق والزغاريد. وغاب موكب الوزير, ثمّ تلاه موكب أعيان البلدة, فالجوقة النّحاسيّة والفولكلور, فحملة الأعلام واللافتات. وشرع عمّال البلديّة في فكّ ألواح المنصّة, في حين غادر قطيع الخرفان والماعز, يتبعه الكلب الهزيل. ولم يبقى في المكان غير أهالي الحيّ الجديد, لا يقوون على مفارقة ملكهم… لكم ودّوا لو يبيتون ليلتهم تلك في مساكنهم الجديدة, فالعقود معهم والمفاتيح في أيديهم. ولكن أتت التّعاليم البلديّة واضحة وصارمة: عليهم الإنتظار بضعة أسابيع أخرى حتّى يتسنّى إتمام البيوت من الدّاخل, وحتّى يقع ربطها بشبكة الماء والكهرباء.

مرّت أسابيع زُجّ خلالها بوزيرنا في السّجن بتهمة التّآمر, واختفى اسمه من “الحيّ الشعبي” مع لوحة التّدشين الرخامية, وأعلن رسميّا عن إنتهاء التجربة الإشتراكية بالبلاد. وأُذن للسكّان الجدد الإلتحاق ببيوتهم, مع إضافة بند جديد على العقد, تُمدّد بمقتضاه فترة الدفع إلى أجل سيُحدّد فيما بعد, عندما تُحدد قيمة الأرض من قبل ملاّكها الجدد. وأُعلن أيضا بأنّ مشروع “حفظ كرامة المواطن”, ستقع إعادة النّظر فيه بما تقتضيه متطلّبات السّوق, وبما تُحتّمه المصلحة العليا للوطن.

اترك رد

%d مدونون معجبون بهذه: