بهــاء طاهــر: المعاناة الأساسية للكاتب هي صراعه الدائم مع اللغة

حوار اجراه أحمد طايل

 الكتابة كانت بالنسبة لي نوعا من المغامرة
 قدمني عملاق القصة يوسف إدريس
 المعاناة الأساسية للكاتب هي صراعه الدائم مع اللغة
 لا ولن أتدخل في عمل لي يتم تحويله للتليفزيون فالسيناريو رؤية السيناريست الفنان.

ما أصعب الحوار مع أديب كبير له اسمه القوي في عالم الأدب وعالم الثقافة وله مواقفه المسجلة له في كثير من القضايا .. فالأحاسيس سوف تدخل معك إلى دوامة ومتاهة تساؤلات عدة .. من أين تكون البداية .. وكيف تكون القضايا المثارة .. وكيف .. وكيف .. ؟ والعديد من التساؤلات.. هذا بالضبط هو إحساسي لحظة لقائي للحوار مع الأديب الكبير ( بهاء طاهر ) .. وهو عضو أساسي في الحركة الأدبية ، وللحقيقة فإننا حينما نذكر الحركة الأدبية نتذكر على الفور ودون أي محاولة للتفكير جيل الستينات .. هذا الجيل المؤثر .. الجيل الإيجابي في تاريخ الحركة الأدبية المصرية .. وبهاء طاهر واحد من أبناء هذا الجيل وله بصمته الخاصة .. لنعد إلى الوراء في محاولة للإبحار في عالمه .. من نقطة البدء وحتى معترك الفن والإبداع ..

*عندما تجلس للحوار مع أديب كبير له اسمه القوي في عالم الأدب وعالم الثقافة بالتأكيد إن إحساسك سوف يدفع بك إلى متاهة .. من أين يبدأ .. ومن أين يكون .. لنعد إلى الوراء .. إلى سنوات طويلة.. رحلة إبداعية .. رحلة إبحار في عالم الأدب والثقافة الجميل .. ماذا تقول عن هذه الرحلة ..؟

إذا أردنا الحديث عن بدايات الإبداع من الصعب جدا أن نحدد لها لحظة معينة أو تاريخ معين .. بالنسبة لي بدأت البدايات التجريبية الأولى أثناء الدراسة .. حيث كنا نجد الرعاية والاهتمام والتزام بالنواحي الثقافية .. لقد حزت على المركز الأول في القصة وأنا في الصف الرابع الابتدائي ولك أن تتصور تلميذ صغير في بدايات العمر يحتفي به في مجال الأدب في وقت كان نجم المجتمع الأول العلامة “طه حسين” وفي هذا دلالة على مكانة الأدباء في هذا الزمان ، وفي مرحلة الجامعة كانت هناك ما يشبه الجمعية الأدبية أو الملتقي الأدبي .. كانت هذه الملتقيات تضم بين صفوفها مجموعة من الكتاب والأسماء الذين كانوا شبابا في حينها .. فهم على سبيل المثال .. رجاء النقاش وشقيقة وحيد النقاش .. والشاعر عبد المنعم عواد يوسف .. كامل أيوب .. كانت المجموعة تضم مجموعة من مختلف المشارب والاتجاهات .. ولكل منهم مصادره الثقافية الخاصة به .. فهناك من يدرس بقسم اللغة الإنجليزية أو الفرنسية أو الفلسفة مثل الأستاذ / حسن حفني .. وكان يجمع بيننا لقاءات دورية لمناقشة أعمالنا .. ولكن البداية الحقيقية من الممكن أن تكون حينما بدأنا مغامرة النشر في أوائل الستينات .. وكان النشر في هذه الفترة مغامرة صعبة .. منابر النشر في هذه الفترة كانت محدودة .. القليل جدا الذي كان يقوم بنشر الأعمال الأدبية مثل مجلة “المجلة” التي كان يشرف عليها كاتبنا الكبير ” يحيي حقي ” .. وأيضا الملحق الأدبي للمساء الذي كان يشرف عليه الأستاذ / عبد الفتاح الجمل ..
الكتابة كانت بالنسبة لنا نوع من المغامرة .. وأحب أن ألفت إليها النظر بالنسبة للجيل الجديد .. أننا كنا نعتبر نشر قصة قصيرة لأي واحد منا مناسبة جديرة بالاحتفال والاحتفاء .. في الوقت الحالي هناك العشرات من المنابر التي يمكن أن ينشر بها الكاتب سواء في مصر .. أو الوطن العربي أو حتى صحف المهاجر التي تصدر بالعواصم الأوروبية مثل لندن و باريس .. وهذا أمر لم يكن متوافرا أو متاحا لنا على أيامنا .. كانت بالفعل الكتابة نوع من المغامرة .. أما النشر فكان بحق هو المغامرة الصعبة …!!
أما عن تجربتي الخاصة .. فقد كان من حظي السعيد والذي أعتز به إلى الآن غاية الاعتزاز أن أول قصة تم نشرها لي كانت بمجلة “الكاتب” وقدم لها عملاق القصة القصيرة ” د. يوسف إدريس ” قدمها بكلمات أخجل تكرارها مرة أخرى .. وهذا الأمر كان بالنسبة لي دفعة كبيرة في بداية مشواري .. وهذا الأمر يجعلني أقول أنني مدين للأدباء الجدد في القاهرة أو غير القاهرة .. بأن أحاول أن أقدم من أتوسم فيه وأحس بأنه سوف يضيف إلى الفكر والإبداع الأدبي شيئا جديدا .. ولكني أيضا أدعوهم لدراسة متأنية لتجارب الأجيال السابقة .. وأقول لهم عليهم بالصبر على الظهور وعلى النشر .
*اللغة التي تكتب لها .. لغة سهلة وتعبر عن الشركة المجتمعية الكبيرة ، ولكن هناك دائما من يقول أن الكاتب يجد صعوبة بالغة لكي يستطيع الكتابة بهذه اللغة .. ماذا تقول ؟

الناس تتصور أن اللغة السهلة اليسيرة والكتابة بها مسألة سهلة بالنسبة للكاتب .. إن لغة الكتابة البسيطة هي مسألة سهلة بالنسبة للكاتب .. سوف أسمح لنفسي أن أقتبس كلمات لأستاذنا يحيي حقي” حينما قال لي مرة من المرات أن “الجملة الأولى أو الفقرة الأولى من قنديل أم هاشم أعدت كتابتها أكثر من عشرين مرة لكي تغدو بمثل هذا اليسر والبساطة “.. حقيقية الأمر أن اللغة هي الكاتب .. والأسلوب هو الرجل .. المعاناة الحقيقية والأساسية للكاتب هي صراعه الدائم مع اللغة .. بعض الكتاب يعتقدون أنه كلما تفنن الكاتب في ابتداعه لغة غنية بالألفاظ الفخمة والجزلة.. كان هذا إنجازا .. بعض هذه المحاولات بالفعل يعد إنجازا .. أقول البعض .. ولكني شخصيا أؤمن أن الكاتب ملزم ومدين لجمهوره بالتواصل .. ومن الممكن أن يكون للغير في ذلك رأى مختلف .. أنا شخصيا أتمنى أن يصل أسلوبي إلى أكبر قطاع من القراء .. أعتقد أن اللغة اليسيرة السهلة الوصول إليها صعب جدا .. هذه اللغة من الممكن أن تكون وسيلة تواصل مناسبة مع القراء وأنا حريص على أن لا يهجرني قارئي .. ولا أهجر أنا الإبداع .. ولذلك يسعدني جدا أن بعض النقاد وبعض القراء يرون أن لغتي لها جمالها الخاص ولها بلاغتها الخاصة .. وهذا شيء بالطبع يسعدني جدا .
*ما الهدف من وراء إحكام صياغة التجربة الإبداعية؟

المدخل الذي يختاره الكاتب لصياغة تجربته .. سواء كانت هذه الصياغة عن طريق الصورة أو الفكرة أو اللغة .. فهو في نهاية الأمر لابد وأن يكون ذلك معبرا عن نفسه ولا يستطيع أبدا بل من غير الممكن أن يتجاوز حقيقته .
*ما رأيك في بُعد بعض المعالجات السينمائية أو التليفزيونية أو المسرحية عن بعض المفاهيم بالعمل الروائي أو القصصي ؟!

أنا في الحقيقة ممن يعتقدون أن الكاتب إذا أصر على أن المعالجة السينمائية أو المسرحية أو التليفزيونية لأعماله ينبغي أن تكون نقل بالكربون للعمل الأصلي .. وهذا إنذار إذا أصر عليه الكاتب فهو في اعتقادي يضر بنفسه أكثر مما يضر بالمبدع في المجال الآخر .. في مجال السينما أو المسرح .. هذا وسيط مختلف تماما .. والكلمة وسيط .. الكاميرا وسيط .. خشبة المسرح وسيط .. ولكل وسيط متطلباته الخاصة وله ظروفه التي تضمن نجاح العمل .. أنا شخصيا عندما قدمت لي “خالتي صفية والدير” تليفزيونيا لم أتدخل .. ولا أعتقد أنني سوف أتدخل مستقبلا في أي عمل آخر.. لأن هذا الأمر ليس رؤيتي الخاصة بل هو رؤية الفنان الآخر .. هو الفنان المسرحي أو التليفزيوني للعمل الذي رأى أنه يصلح لأن يتحول إلى شكل من أشكال الدراما بآليات وبتصور يختلف تماما عن تصور الكاتب .. مثلما الكتابة لها شروطها الخاصة .. الكاميرا أيضا لها شروطها المغايرة تماما ..
*كيف تختار الشخصيات التي تضع أعمالك الدرامية؟!

الشخصيات عندي هي التي تختار نفسها ولست أنا الذي أختارها .. ليس أنا أو أي كاتب هو الذي يختار شخصياته .. في ” خالتي صفية والدير” سوف أعترف بسر هو أنني عندما بدأت كتابتها بدأتها على اعتبار أنها قصة قصيرة ولم يكن في تصوري على الإطلاق إنها سوف تشغل هذا الحيز ولكن الشخصيات هي التي فرضت وجودها وفرضت المساحة والامتداد الزمني .. الشخصية التي تكتب على الورق تنشأ بينها وبين الشخصيات الأخرى على الورق علاقات .. هذه العلاقات .. أستطيع أن أقول أن الكاتب يتبعها ولا يبتدعها . الشخصية توجد بملامح جسدية ووجدانية تختلف عن الشخصية الأخرى ويحدث بينهم تفاعل .. الكاتب التلقائي .. الذي يحاول أن تكون كتابته صادقة يتابع انتشار وتطور هذه العلاقات بين الشخصيات المختلفة وقد تفاجئه أحيانا هذه التطورات ..!!
*ما هي رؤيتك الخاصة بالنسبة لمستقبل الكتابة ؟

رؤيتي الخاصة بالنسبة لمستقبل الكتابة .. هذا موضوع كبير جدا ويحتاج للحديث فيه وقت طويل لأن الحديث عنه وأي إجابة عنه سوف تكون إجابة قاصرة ولكني حددت في كتابي “أبناء رفاعة” أن هناك ما أسميته بالحلم المصري .. هذا الحلم المصري موجودا منذ أيام رفاعة الطهطاوي مرورا بالثورة العرابية .. ومرورا بمصطفي كامل والكفاح ضد الاحتلال الإنجليزي وثورة 1919 وثورة يوليو ، هذا هو الحلم المصري الذي يتمثل في تصوري كما استقرأت الواقع والتطور التاريخي .. حق التعليم للجميع ، المعركة التي خاضها طه حسين حينما قال “التعليم كالماء والهواء” والمعركة التي خاضها من قبله عبد الله النديم وقاسم أمين .. نقطة البداية لابد وأن تكون التعليم .. على هذا الأساس فالتنمية الثقافية تكون أهم من التنمية الاقتصادية .. العدالة الاجتماعية .. الهم المصري منذ رفاعة الطهطاوي إلى يوسف إدريس .. إلى كل الكتاب الذي عايشوا هذه الفترات.. العدالة للمرأة هي حق المرأة في أن تعيش في مجتمع يكفل لها حقوقها مثلما تؤدي واجباتها .. الوحدة الوطنية التي حارب من أجلها المثقفون جميعا .. أن نعيش في مجتمع واحد وأن يكون لكل منا نفس الحقوق والواجبات .. هذه هي ملامح الحلم المصري الذي ناضل من أجله المثقفون على مدى أكثر من قرن ونصف القرن من الزمان وشهد هذا الحلم لحظات من المجد ولحظات انكسار ولكنه مازال في تصوري بخطوطه العريضة هو المسعى الذي تصب فيه كل جهود المفكرين والمثقفين المصريين .. وأهم من هذا كله الديمقراطية .. فإلي أي حد سوف نتخلى عنه .. إذا كنا سوف نواصل التشبث بهذا الحلم والكفاح من أجله والدفاع عنه سوف يكون مستقبلنا إيجابيا لأن كل مراحل المجتمع المصري قطعت خطوات في سبيل تجسيد هذا الحلم .. أما إذا تخلينا عن هذا الحلم فلن يكون لهذا المجتمع مستقبل على الإطلاق .
لو قرانا رواية “خالتي صفية والدير” قراءة متأنية سوف نجد البطل على خلاف ما أظهره المسلسل التليفزيوني الذي أظهره بصورة بطل انهزامي .. ولكنه في الحقيقة وفي الرواية مقاوما حتى لحظة النهاية .. كان متشبثا بالحياة ضد عوامل الموت التي كانت تتهدده منذ صمم خاله القنصل على قتله إلى الأمراض التي أصابته في السجن إلى مطاردة صفية له مطالبة بالثأر .. لم يستسلم في أي مرحلة من المراحل ..
ربما كل بطل مهزوم وليس انهزاميا .. البطل المهزوم هو الذي يقاوم ثم يهزم أما الانهزامي فهو الذي لا يحاول المقاومة إطلاقا .
الاتهام بالتأثر بالرواية الغربية وبالأدب الغربي قد يكون اتهام ظالم للكتاب المقيمين الذين حاولوا صنع تقنيات جديدة في السرد الروائي..أنا أذكر أننا عندما بدأنا الكتابة في الستينات امتلأت الصفحات النقدية اتهامات لنا بأننا متأثرون بالرواية الجديدة ، متأثرون بأدب العبث .. متأثرون “بكافكه ” متأثرون بالفكر الوجودي ، وأنا في واقع الأمر اضطررت أن أقول في إحدى المرات أن الكوابيس التي يستعرضها هذا الأدب كوابيس محلية تماما وليست كوابيس مستوردة على أي نحو .. صورة العالم المفكك.. غياب البطل الإيجابي الذي كان معروفا في أدب الواقعية السابق في الكتابة عن كتابات جيل الستينات .. عدم ظهور البيئة التي يشارك البطل في تشكيلها .. كل هذه العوامل كانت عوامل نابعة من الظرف التاريخي الذي كنا نعيشه في ذلك الحين وليس نتيجة لتأثر .. إذا لاحظت في الوقت الحالي ما يشير إليه الكثير من النقاد .. إن الكتابة عن الجسد .. إن اللغة التي تفتقر إلى الجلال التي كانت تتصف به لغة الأجيال السابقة ، إذا حاولت أن تدرس العلاقة بين هذه العناصر .. وبين الواقع الاجتماعي الذي نعيشه حاليا سوف تجد أنها وثيقة الصلة به وأكثر اتصالا منها بتأثرها بمدارس غربية وفي جميع الأحوال .. من يتأثر بتيار أو اتجاه مستمد من آداب غربية .. يكون هذا مطوعا وداخلا في سياق البيئة المحلية التي يكتب فيها الكاتب .. ومتأثرا تماما بالظروف التي يكتب فيها .
إذا واصل المجتمع السير في حدود ملامح الحلم العربي الذي حددتها من قبل سوف يكون للرواية شأن كبير .. سوف يكون الشكل متماسكا وإيجابيا أكثر من الشكل الحالي الذي تفتقده والذي نلمس فيه التفكيك والتفتت.. أما إذا سرنا في اتجاه معاكس لهذا تماما فلا أرى للرواية أو لأي شيء آخر بالمجتمع من مستقبل .
تأثير الكلمة داخل الإنسان ودور الثقافة في المجتمع في اعتقادي هو تأثير أساسي .. لأن كل ما تحقق في هذا المجتمع من تغيير تحقق بفضل الثقافة وبفضل كفاح المثقفين الذي سجله كتاب “مستقبل الثقافة” لطه حسين وأيضا كتابي “أبناء رفاعة” الذي رصدت فيه ما قام به المثقفون من جهد لإحداث تغير اجتماعي .. إذا احتضن المثقف المعاصر رسالة أسلافه في إحداث النقلة الاجتماعية وفي التمسك بالحلم المصري الذي دفعنا إزاءه دماء كثيرة وثمنا باهظا سوف تكون للكلمة تأثيرها الإيجابي ..
رواية “الحب في المنفي” كتبتها نتيجة انفعال عنيف جدا لمأساة “صبرا و شاتيلا” التي حدثت وأنا خارج مصر .. في أوروبا وشاهدتها على شاشات التليفزيون الأوروبي الذي عرض الصورة بكل حقائقها وليس كما هو حادث في إعلامنا الذي يهتم بالترفيه والإعلان والرياضة وليست للأمور الجادة من حيز كبير لديه.

اترك رد

%d مدونون معجبون بهذه: