انتظر ، نحن هنا
يسري الغول
سهواً فتحت ألبوم الصور ، تلك الصور التي جمعتني بأصدقائي هناك ، بالرفاق الذين مازحتهم طيلة شهر بأكمله و سهرت معهم الليل كله ، و دون قصد رأيتني في بلدة بعيدة ، تائهاً تغازلني فتاة لم يظهر وجهها جيداً في الصورة . كانت تحدق بوجهي الشاحب ، ترمقني بعنف . تتناول وردة أقحوان من أنهار حدائقها المتوردة . تلقيها بجواري . تبتسم . تغمض عينيها و سرب المشاهد يلوح كطيف في زقاق موتي . أرسل ابتسامة شاحبة عبر رسائل الهواء المنغلقة . ترتسم علائم اختلاج الوجه في تسمرها . مشيتها . تقبل إليّ متعثرة بهمساتها ، وعندما تصل أطراف أذني الصماء ، تهتف : ” أيها المجنون “. ثم تمضي . تغور في عمق الزمان القديم . تسافر مع الضباب . تطير بعيداً عن رائحتي المطبقة على أحلام هذت بحكايا الذاكرة الميتة .
دون قصد رأيت وجهها ناعماً ، طرياً كشعر أمي ، يجري من خلفي . يحتضنني قبل أن يلتقط صديقي صورة لي . فلا يحالفها الحظ بظهور معالم جسدها البض و هي تعانقني . كانت تركض كقطار يوشك على افتراس أديم الأرض . أشارت بإحدى يديها . أومأت برأسها كحركات تناغم مائعة . ظننتها تشير إلى رجل خلفي ، لكنها وصلتني . أدركت جسدي الشفاف ، عانقتني ، هذرت بكلماتها التي أذابتني مع الصورة . تحركت شفتاها الحمراوين ، قالت : ” sorry ” ثم اجتازت سباق المسافات الطويلة . أشاحت مع عبرات الدمع المترقرق في أنفاس غربتي القاحلة . طافت حول اللامكان ، ثم اختفت . ابتسمت وقتما غادرتني راجية بزوغ الوجه في لوحة الاشتياق . أذكر أني غضبت يومها من صديقي الذي أعطاني الصورة دون أن يخبرني بأنها كانت تجري من خلفي لتصل إلى عنقي . غضبت أيضاً لعدم نجاحه في التقاط الحدث جيداً ، نسيتها ، نسيت وجهها ، لم أعد أذكر منه سوى وجنتيها الحمراوين عندما كانت تضحك ،ثورة من الضحك تتفجر حتى تظهر الدموع.
دون قصد رأيت في البوم ذكرياتي فتاة كانت معي من مدينتي الضيقة تجلس بجواري في إحدى مقاعد الطائرة ، تضع يدها بحنو على رأسي ، تربت على كتفي ثم تبتسم ابتسامة غريبة تغرقني في عالمي القديم . تغمض جفنيها . تسدل شعرها على كتفيها و المقعد يهتز مع عواصف الريح . تفصل بيننا يد الكرسي الممتدة في الوسط . أنظر إليها . أحدق بها . أترنم بأيامنا التائهة في نبض المخيم . تبكي . دموع تنزلق من مقلتيها الرائعتين .
دون قصد تذكرتهم جميعاً ، واحداً تلو الآخر ، لكنها فقط التي استثارتني ، أعادتني إلى الوراء بعيداً عن غرفتي الميتة ، كانت جميلة كحبي لبحر الضوء الذي هذت معه أحلامي على شاطئ النجاة ، عيناها زرقاوان ، شعرها صبغ بحناء تناسقت مع بقايا الجسد . وجهها لم تخلو منه ابتسامة الروح سوى عندما يشدو المذياع بأخباره القاتمة . يوماً وصفتها بقصائدي ثم أهديتها أوراق شجوني . أذكرها عندما ضحكت . غارت و الابتسامة لا تزال تطل من شفق الصورة . أخبرتني بأنني شاعر أجيد العزف على أوتار الكلمات ، ثم قبلّتني . عرضت عليّ الزواج بعدها دون حياء . لست أدري إن كانت تقول ذلك مازحة أم أنها حقاً كانت تعي ذلك . لحظتها فرحت . شدوت بأبيات من لوثة خارطتي . تمنيت ذلك كثيراً . لم أصدق ما كانت تقوله . حلمت بعدها لأسابيع طوال بذلك الزفاف العائم على وجه الأرض . قالت : ” تزوجني ” و لم أتزوجها . بقيت معها شهراً كعام ، كألف عام . طفنا خيام حكايتنا . سعينا للخروج من وطأة الجوع لمرافئ الشوق . ” تزوجني “. شاهت وجوهنا من غبار المطر المتناثر في قلوبنا ، قمم سواحلنا ، و على شواطئ البعيد لم أتزوجها . سرت الشائعات بقايا الوطن القاطن في أرواحنا . في الـ” جيست هاوس ” رفعوا شعار انطلاقنا إلى صفعات المكان . ترنموا بخطبتنا الهلامية . علم الجميع بذلك ثم غادروا مثلها في نجوم الانهيار . ابتعدوا ، طافوا حول أنفسهم ، سافروا و لم يعد أحد منا يذكر وجه الآخر . كل هذا عاد دفقة واحدة مع ذلك الألبوم الذي فتحته سهواً عند عودتي من جامعتي البعيدة ، حين حسمت أمري على إتمام دراستي في جامعة المخيم . لم يطردنا أحد كما أشيع هناك ، لم أستطع ترك أمي ، أخواتي ، كنت كفيلهم الوحيد في بقعة الضوء الباهتة . أتيت و نسيت دراستي هناك . اتجهت إلى تخصص آخر ، تركت أحلامي ممدة على سرير الانطفاء . درست الأدب الإنجليزي . كنت أريد الأدب الأخر ، الفن الأخر ، العالم الأخر . هناك فكرت بعالم الرواية الوارف في دهاليز كلياتهم ، أتيت هنا و أغلقت الجامعات ، إضراب ، إغلاق ، حظر التجوال ، ممنوع الدخول ، الجنوب مغلق ، جنوب الكرة المتلبدة بنزوات الانشطار ، محاصر بيني و ظلي ، الدقائق غائبة في ردهات التفتيش ، نقاط سوداء ، خضراء . ” العدو يحاصرنا ” . لا يحق لنا الولوج بوابة الآن . يصرخ الجند ” كونوا كما أنتم . و لا تكونوا سواكم ” . يفتشون سياراتنا . أجسادنا . ملامحنا . يتهمون آخرين بالعداء لدولتهم . يأخذونهم . يرحبون بهم . يصفعونهم . يقتلونهم . و الجامعة تنبسط في امتداد السكون ، نهدر كالبركان في تلابيب وشايانا . اعتقلوني لحظتها . أطرقوا رأس الآخرين بالتحقيق ، و لا أدرس سوى أدب الانحراف . أعود و ليتني ما عدت . أهذي في أحلامي ، ألوك الصمت ، أرى صورهم تتهاوى مع ملامحهم ، أغفو على تلاوات العودة الباهتة .
دون قصد تهادت إلى مسامعي رسالة حب ترنمتُ بها ذات مساء قارس مع هذا الألبوم الذي لم أشتره أبداً . كنت قد حصلت عليه بعد أن عادت من زيارة لأخيها القابع منذ سنين الجدب في بلاد الثلج . حصل على منحة دراسية من جامعة المدينة ، ليذهب و في عينيه كل أحزان المخيم . حدثتني بأصدقائه الذين استشهدوا أمام ناظريه ليتجرع الفاجعة . نام و لم يصحُ أبداً . استيقظ شخصاً آخر. عالم بلا وجه . لم يتحدث . صمتٌ مدقع انبرت بها شفاهه . لهاث كجريان الدم في تلابيب الجسد ، دون حديث . حزنت مثلها ، مثله . عرفته يومها من صورة شاحبة تحملها . رأيته قبلاً ولم اكن اعرف أنه أخيها . رأيته على شاشات التلفاز مجروحاً . صامتاً . أمامه الأجساد التي تلونت بالأحمر القاني . عزف يحدو سلام الروح . وطن بلا وطن . صور مبقعة . قابعة في حلكة الإطار . يموت و لا يموت . يغادر دون أن تتغير . اتصل بهم كما أخبرتني . كان حديثاً دامساً كليل المخيم . بعد عام تغير تماماً . أصبح زهداً هناك . هذت لي بأنه غلاء المعيشة . لكن المفاجأة أطاحت بجسدها وقتما بعث لها بلوحة وجهه القاحلة . أضحى شيخاً هرماً كأنه اجتاز السبعين من عمره . لحظتها بكت . صرخت و بكت . جلست القرفصاء . نامت على ذراعي ، و لم تصحُ سوى مع هزيع الليل الأخير .
دون قصد وقعت ورقة صغيرة من بين تلك الصور ، كُتب خلفها بخط واضح ” انتظر نحن هنا ” . لتضج بداخلي صورتها التي أشعرتني بألم شديد تربع في أوصالي بعد فراقها ، يوم أن عادت إلى المخيم و نسيت رحلتنا كلها حتى أنا . لم أكن أتوقع أنها ستنساني يوماً . تواعدنا أن يهاتف كلانا روحه . افترقنا دون اتصال . صوتها عادني مرة أخرى . كان رفيعاً و كان جميلاً ، أذكره عندما غنت لي . لا ، لم تكن تغني ، بل قرأت قصيدة ، أذكرها ، و كيف لا أذكرها . تلك التي كتبها شاعرٌ كنا نحبه كثيراً . عندما كنت صغيراً و جميلاً / كانت الوردة داري … . لا أحفظها جيداً ، لكنها قرأتها و كأنها تعيشها ، تخترق سطور الكتاب بني اللون ، تجلس في طياته الحانية . لا أدري كيف حصلت عليه ؟ لم أرها تحمله قبلاً. جاءت به . ظننته كتاباً أجنبياً . فتحته . شقت سطوره . تناهت الصفحات . تتابعت . دلفت مآسيه القاصرة . ترنمت بجملتها الأولى . كلماتها التي خرجت حتى فاحت من أسنانها رائحة المسك . ظننتها تعطر شدقيها . تصبغ أطراف فمها . قالت و تجلجلت . سرحت محلقة في عنفوان صباحها . كلمة أولى و الشعر يمسي ليلاً . يختفي القمر في سحب الغرق البعيدة . درويش يعلو في سمائنا . ينادي . ينفجر . أنا هنا / و هنا أنا … تهذي . ” نحن لسنا هنا . و لا هنا ، هنا ” . تطفو على سطح قصيدتها قصيدة . يا سرَ الغريبة أنت . تضج بداخلها حرائق الدخان . ليل أسود . عندما كنت صغيراً … . لم نعد صغاراً . ليتنا بقينا . حلم يراودنا . و كبيراً . أصبحنا . أمسينا . رحلة بين الصغر و الكبر . بين المرض و المرض . تسافر في نظمها . ترنيمتها شاحبة . تصدح و الجميع يلتف حولنا . نصبح قيثارة . نتحلق كأسراب طيور مهاجرة . دمع يتفجر مع صوت لا يعي وشاح عالمه . كانت الوردة ، تصمت ، تتحدث : ” ليس هناك ورد . آه ، إنها هنا ” . كانت داري ، لم نسكن الورد ، درويش اختلط بكرومه ، ذاق مرارة الريح . الوردة ندوسها . دارنا تهدمت . أعاصير الذباب هاجت في سقفها . جرّافات أسقطتها في مقبرة جماعية كحبات البرتقال . ماتت و لم تكن لنا دار .
دون قصد و لا أدري كيف جرى ما جرى ، رأيتني بينهم في تلك الحكايا التي مضى عليها زمن طويل بين دفات هذا الألبوم القديم . رأيتني في إحدى الصور معها عندما كنا في مدينة ” كولون ” التي حملت معها تضاريس حياتي الرائعة . تعلقت في ثنايا ذاكرتي المثقوبة . آه يا مدينة الريح . تركتها تذهب من هناك إلى فرنسا و أنا عدت . خشيت إهدار المال ، ثم بعدها عادت فقررتُ السفر . و في المدينة انتظرنا الباص الذي لم يأت . وقفنا أنا و أربعة من أشباحي . كنا قد صعدنا القطار دون أن نقطع تذاكر الذهاب و الإياب . جُزِينا سوءاً . لم يعد القطار و لم يأت جودو . انتظرناه . انتظرنا الريح تلفحنا . عدنا تقودنا إحدى العربات المتهالكة على صفعات الزمن . دفعنا أموالاً طائلة . كنا نخاف النوم خارج خيامنا . سفوحنا . عدنا و كان الليل يركبنا . نمنا ثم تراءت في أحلامنا مدناً شاسعة تضمنا .
دون قصد رأيتها و هي تحمل كوباً من الماء تسكبه في ظهري . وقفت ورائي . ابتسمت لصديقاتها ثم أمطرتني بوابل عطرها . وشحتني بغرق يناير اللاهب . كان ذلك قبل أعوام ، يوم أن قررنا أن نغادر إلى ثكنتنا ، خيمتنا الأولى . كنت مسروراً جداً ، غير أنها كانت عكس ذلك تماماً ، حدثتني بأنها لا تريد العودة إلى المخيم . أخبرتها بالقدر المتربص بنا دائماً ، هزجت لها بالصبر عند حقيقة المعركة ، توردت وجنتيها حين أشرت لها بإيماءة من رأسي . أدركت ما تعيه . فهمت ما يحيطني . كانت تقول ” تزوجني ” و لم أتزوجها . ظنّت أنني سأعود لأخطفها على حصاني الموشح بالسواد من بين أبناء عشيرتها ، قبيلتها التي لم أتشرف بمعرفتها أو السؤال عنها . عدنا و لم أخطفها . بقيت زاهداً مثل أخيها . لم أستطع إعالةَ أسرتي ، مات أبي الذي لم نعرف له أخاً قط . تركني وحيداً في منزل ضيق . سبعة أخوات قاصرات . هزيلات . لم أشأ أن أخاطب أمي بما كان يجول في رأسي . يكفي ثمانية . لا أريد التاسعة إلى الأبد . اليوم غيرت مبدئي ، شكوكي . أصبحت أعمل . عمل ضئيل لكنه يقيني برد التسول ، رائحة الشوق غمرت سقفنا ، خيامنا ، في انتظار إتمام ضريح المنزل .
دون قصد وقعت بين يديّ صور كانت مبعثرة بعضها يبتسم و بعضها يشكو ألما ، جمعت تلك الصور بعد هذه الذكريات التي تشبه المستحيل مع أصدقائي ، كانوا يلبسون أحذية غريبة بينما تنتصب هي بينهم بوقفة كتلك التي يفعلها “شابلن ” دائماً في أفلامه القصيرة . شاهدنا هناك أفلامه جميعها . كانت تظنه ألمانياً كما أنا . فوجئنا عندما أخبرونا بأنه من المملكة العظمى . ضحكت ، ضحكنا و لم ننسى حكايتنا .
دون قصد رأيت هذا المكان البعيد عن خارطة العالم . رذاذ خفيف يسقط ثم يهيج ليصبح قيثارة مطر تتبدد في خيامنا حتى تغرقها في وحل الطين . كان الموقع داخل الريف الغربي المتورد لمدينة ( ليفركوزن) ، تذكرتها كما تذكرت معسكرنا الذي مكثنا فيه أسبوعين كاملين . هناك في تلك المدينة الضيقة استحممنا على ضوء بحيرات الرماد . أظمأتنا نيران الثلج . تصارعنا في بحر مياهنا ……
دون قصد وجدتني يومها قد ذهبت إلى تلك البلدة البعيدة و زرت متحفها الضخم ” التاريخ الألماني ” وفي إحدى الليالي الغابرة اقتحمت المكان ، خلعت قبعتي و سرت تجاه زميلتي التي تشبثت بجسدي ساعة أن رأتني . أخبرتني بأنها تشم عطر الحرب . كل شئ لا يزال طازجاً ، التراب الذي تخثر في الوجوه . صور قديمة لفنانين اشتركوا لمنع الحرب خلال لوحاتهم الباهتة ، الميتة . سرت بمحاذاة أحد الأبواب لسجن بني أثناء الحرب العالمية الثانية مترنماً بإنجاز الدولة التي أعادت مجدها رغم هذا الدمار …
” يا لهذا الخطأ الممتع كم أعطاني من اللذة و النشوة ما يكفي لعشرات السنين” قادني إلى الوراء شهوراً تقدمت صارعتني ، أطاحت بالوجه البائس . أنستني رحلتي القصيرة حتى وجه زميلتي العذب . نسيته ، أضحت معالمها خفية عني ، صوتها أيضاً ، تمنيت أن اسمعه . أعاود سرد تلك القصيدة لأتذكرها . لكن سكون الغرفة يتحطم فجأة أمام رنين الهاتف الذي يقطع شريط ذكرياتي ليأتيني من خلفه أثير صوتها المحموم.