ابتداء الشعر من الشاعر، ابتداء القصيدة من الكتابة

شربل داغر
(أستاذ في جامعة البلمند، لبنان)

“لسنا حذاقاً كفاية لكي نتوصل إلى رؤية الجريان شبه المطلق للمقبل، (كما إن) الثابت لا يستديم إلا لأن أعضاءنا الفظة تختصر الأشياء وتعيدها إلى مخططات عمومية، فيما لا يوجد أي شيء وفق هذه الصورة. فالشجرة هي في كل لحظة شيء جديد، ونحن نعمل على تثبيت الشكل لأننا لا نحسن التقاط الرهافة في الحركة المطلقة” (نيتشه).

ما “مستقبل” القصيدة بالنثر (1) ؟ كيف أرصده؟ كيف أجعله موضوعاً لبحث؟

أفي تدافعات الكتابة واعتمالاتها؟ أفي ما هو جار وممكن التأكد منه والثبوت والتمكن؟ كيف للباحث، وبلغة البحث، أن يعاين ما لم يقع تحت ناظريه في مواد وعلاقات وبنى؟ أيستعير الباحث بما يحدس به الشاعر، وفقاً لما كتبه أنسي الحاج عن “ماضي الأيام الآتية” (2)؟
هذا ما تسعى إليه هذه الورقة بين إعادة النظر والاستشراف، بين المعاينة والاستكشاف، بين التأكد من متانة البنى والتحقق من اندفاعات قواها. كما وجدت الورقة، في مسعى آخر، سبيلاً دراسياً لها، وهو وضع القصيدة في “امتحانات” ممكنة ومتوقعة لها، مع الوسيط المادي، مع الشاعر نفسه، ومع القارىء، ما يفضي على شيء من مقبلها الراجح. أفي إمكاني – مثلما يدعو نيتشه – التقاط مثل هذه الرهافة الجارية في نسغ الشجرة – شجرة هذه القصيدة – كما في براعمها؟

***
غريب أمر هذه القصيدة (و”النثر الشعري” قبلها)، التي حركت وتحرك مشهد الشعر العربي (بل أوسع منه) منذ مئة سنة تقريباً (3)، من دون أن تبلغ تماماً الدرس الجاد؟ فلو عاد الدارس إلى المدونات المختلفة لوجد كماً هائلاً من الكلام عنها، بل من السجال و”التخندق” حولها وضدها، وعدداً قليلاً من الكتب (4). وهو ما قد يخفي مشاكل متلابسة ومتداخلة، بين الممانعة في قبولها، من جهة، وبين الصعوبة في درسها، من جهة ثانية.

ماضي القصيدة الآتي

ولكن كيف يمكن الحديث عن “مستقبلها”، وماضيها مطو من دون تفقد، وحاضرها لا يزال محل “حوربة” و”تخندق” في غالبه؟
ما وجب الاعتراف به، بداية، هو أنها قصيدة من دون أصل، وإن تعرف سلفها البعيد، أمين الريحاني، على شعر وولت وايتمان، وسلفه القريب، أنسي الحاج، على شعر بودلير ورامبو والسورياليين الفرنسيين. وهي نشأت من دون مرجع كذلك، وإن لاك البعض طويلاً كلام سوزان برنار، التي لم تعرف ترجمة لكتابها الذائع الصيت – من دون أن يقرأ على الأرجح – إلا في السنوات الأخيرة. حتى أن رائداً من روادها – محمد الماغوط – أتاها من دون لغة أجنبية…
من دون أصل أو مرجع، وإن سعى عديدون – ولكن بعد عقود وعقود على كتابتها – إلى تدبر مسالك لها – مسالك استقرار في العربية -، لا تقل غرابة عن القول إنها نشأت في مهاد الإمام علي بن أبي طالب، أو عند أبي حيان التوحيدي، أو عند بعض المتصوفة! هكذا سعوا، في غياب الأب الأكيد، إلى تدبر أب ولو بالتزوير، وبمعرفة الأبناء.
وفي ذلك كله لم نتحقق تماماً من خروجنا من النسق العروضي، ولا من مستحقات دخولنا في نسق آخر. هكذا خرجنا من العروض من دون أن نخرج تماماً. ودخلنا إلى هذه التجربة الشعرية من دون أن ندخل كفاية. كما إننا دخلنا من دون أن ندخل إلى نظام، ولا إلى قواعد. دخلنا وحسب إلى ميدان للكتابة، مع مقادير مختلفة من القابليات والاستعدادات والاندفاعات، تبعاً للشعراء ولخبراتهم ولثقافتهم الشعرية، ولا سيما الأجنبية.
وقد عنى غياب الأصل والمرجع الحرية، والتأسيس غير المبدوء. أي عنى التمشي في مشاع اللغة والكتابة. ولهذا قد تكون هذه القصيدة أكثر “طبيعية” في تدلالها على الإنشائية والتعبيرية العربيتين أكثر من أي أسلوب وتجربة أخرى. إذ أنها تعني – وقد عنت – الإنشاء مما هو عليه الشاعر بين كبت وتفلت وتجريب، من دون أن تسلم بالتالي من “عودة المكبوت”.
وهي حركة غير ممكنة الدرس من دون النظر إلى الحراك الجاري في العربية منذ “عصر النهضة”؛ وهو الحراك صوب عربية أكثر تاريخية من لغة القواميس والفقهاء وكتبة الدواوين “الرثة” والمتحجرة قبل هذه الحقبة. صوب عربية “تخلعت” بما لا يحتمل أي نمط، لا مسبق ولا لاحق. عربية نهلت من لغة الجرائد “المهلهلة” والجديدة بهذا الفعل نفسه، كما نهلت من لغة الترجمة (5)، سواء في الرواية أو في الشعر أو في غيرها.
لهذا بدا، واقعاً، الخلوص إلى هذه القصيدة، والانكباب على كتابتها، أقرب إلى الخروج منه إلى الانتظام في نمط، أو وفق قواعد: فكيف إذا كان بعض شعراء هذه القصيدة غير عارف بالقواعد التي انبنت عليها هذه القصيدة في تعبيراتها الفرنسية، أو الأميركية عند البعض الآخر. فلا يكفي الحديث عن “التأثر”، وإنما الحديث، من جهة، عن السياق الذي تم فيه الاحتياج إلى مثل هذه الأنواع الأدبية الغربية، والحديث، من جهة أخرى، عن الملكة الكتابية التي للشاعر (أو للأديب) في تقبله وفي إنتاجه لها.
وهو خروج فيه تفلت أكثر مما فيه قيد. خروج غير نمطي بالتالي. خروج يحتمل التجريب أكثر مما يطلب التقعيد. وهو ما نلتمسه في هذا الذهاب في هذه الوجهة وفي تلك في آن، وعند هذا الشاعر أو ذاك. وإن عودة إلى إحدى تجارب هذه القصيدة، وهي تجربة أنسي الحاج على سبيل المثال، تظهر لنا مثل هذا الاجتماع في تجربة واحدة لأنماط تعبير مختلفة، لا يمكن حسبانها في “التنويع” وحسب. فمن يعود إليها يتحقق، منذ مجموعة “لن”، مروراً ب”الرسولة بشعرها…”، بلوغاً إلى شعره الأخير، من اتساع مباني التركيب، بل من وجود أكثر من نوع أو جنس واحد تنتظم فيها هذه المجموعة أو تلك. وهو ما يصح كذلك في تجربة شوقي أبي شقرا، فيما لا يصح في تجربة الماغوط…
لهذا يمكن القول، أو أميل إلى القول بأن القصيدة بالنثر في الكتابة العربية هي أكثر من نوع، إذ تعين كياناً بل ميداناً شعرياً وكتابياً أغنى من أن يتعين في شكل ثابت أو في قواعد مقرة. في هذا تكمن “حرية” هذه القصيدة التي تبلغ حدود التيه. وهي القابلية التي لها في أن تكون فيما لا تكون؛ أن تكون هي نفسها، وغيرها، في آن واحد؛ أن تتقدم فيما تتراجع أو تغور أو تتمدد؛ أن تتقدم ولكن بالعرض، فيما تنبني في بعض القصائد تتابعياً، تراكمياً، مثلما تصب القصيدة العمودية.
ما أخلص إليه هو أن القصيدة بالنثر تولدت في السياق عينه الذي تولدت فيه تجارب أخرى، ومنها وآخرها “قصيدة التفعيلة” (6). إلا أن هذه القصيدة تنزلت بصعوبة أكبر في الشعرية العربية نظراً لاتصالها “المربك” بالنثر. فماذا عن هذه الصلة؟
قيل الكثير عن علاقة النثر بالشعر، أو عن العكس. وقبل الكثير عن تباينهما في القواعد والمعايير. وقيل القليل عن تعايشهما في سياق الأدب والجملة. وإذا كان لنا أن نستبين هذه الصلة في الشعر فإنه وجب الانتباه إلى أن النثر عرف، منذ النصف الثاني من القرن التاسع عشر، “قصة نجاح منقطع النظير” (لو استعملنا العبارة الأميركية المعروفة). فقد شهد النثر منذ هذا العهد توسعاً لميادين الكتابة به، و”تلييناً” للغة النثر الفني، من الجريدة حتى الرواية والمسرحية، فضلاً عن أن اللغة هذه اقتربت من المعيش والمحسوس، ومن الحياة والتعبير بالتالي.
هذا التعايش-النزاعي، أو هذا النزاع-التعايشي، أو مختلف أوجه التنافذ بين اللغتين، عرفته العربية عموماً، وخبرته وجربته القصيدة بالنثر أكثر من غيرها. ومن يتابع المناقشات الأدبية في مطالع القرن العشرين يتحقق من أنها كانت أكثر تفتحاً وقبولاً للتعايش؛ بل يتوقع المعاين لها إمكان بلوغ علاقة خصبة للشعر ابتداء من النثر: فبعد نشر جرجي زيدان لقصيدة أمين الريحاني الأولى من “الشعر المنثور” (“الهلال”، تموز-يوليو 1905)، تبعت سلسلة مقالات لزيدان نفسه وبولس شحادة وعيسى اسكندر المعلوف وتوفيق إلياس إنجليل وغيرهم تعاملت بانفتاح مع هذا التغير. وهو ما بلغته مواقف ميخائيل نعيمة (في “الشعر والشعراء”)، وجميل صدقي الزهاوي (في “حول النثر والشعر”، و”حول الجديد”)، ومعروف الرصافي (في “الشعر”) ومصطفي لطفي المنفلوطي الذي أحتفظ منه بهذا القول في مقالته “الشعر”: “هل الشعر إلا نثارة من الدر ينظمها الناظم إن شاء شعراً وينثرها الكاتب إن شاء نثراً؟ (…) الكاتب الخيالي شاعر بلا قافية ولا بحر، وما القافية والبحر إلا ألوان وأصباغ تعرض للكلام فيما يعرض له من شؤونه وأطواره ولا علاقة بينها وبين جوهره وحقيقته” (7). وهو ما اتخذ عند عباس محمود العقاد صياغة متبلورة يحتاج إليها غير ناقد اليوم للتفكر فيها: “معظم صفات الشعر هي صفات النثر مع شيء من التفاوت في الكم والتغاير في المقدار” (8). وهو القول الذي تنبهت إليه الدراسات اللسانية، ولا سيما عند رومان جاكوبسون الذي تكلم عن خطاب شعري من دون وزن. غير أن التوصل الأهم في أعماله هو حديثه عن “الوظائف” في الخطاب: ففي دراسته الموسومة ب”لسانية وشعرية”، التي يلخص فيها أعمال “الشكلانيين الروس” و”حلقة براغ”، يقول جاكوبسون إن ما يفصل أو يجمع بين اللغة المنطوقة واللغة المكتوبة واللغة الأدبية لا يتعين في مدى مطابقة أو ابتعاد هذه اللغة أو تلك عن هذه القاعدة أو تلك، وإنما يتعين في مقادير حضور الوظائف المختلفة التي تمثل في هذه اللغات كلها، ولكن بمقادير وبقوة مختلفة. كذلك فإن الاختلافات بين الأجناس وبين التقنيات الأدبية لا تتعين في تعارضات حادة، مثلما جرى الاعتقاد طويلاً بها بين النثر والشعر على سبيل المثال، وإنما تتعين الاختلافات في “توزيع متبدل” لهذه الوظائف (9).
ففي البحث عن مثل هذه “الوظائف”، لا عن أنظمة ومعايير مسبقة، يمكن البحث عن “الشعرية”، سواء أكانت في العروضي أو في غيره. غير أن مثل هذا التوصل لم يحل مشكلة درس القصيدة بالنثر، وإن خفف من غرابتها؛ ذلك أنه لا يكفي الحديث عن إمكان وجود وظائف شعرية في النثر، بل ما هو لازم هو معرفة كيف يمكن تحديد مثل هذه الوظائف في النص نفسه. هذا ما لم يحدده جاكوبسون، وهذا ما تنطح له دارسون عديدون وما توصلوا إليه في الحديث عن بنيتها “المفتوحة” أو “النزاعية” (10)، أو “القلقة”. وهو ما يمكن مقاربته بالحديث مع ابن عربي عن الحالة البرزخية (11). فكيف يمكن الحديث عن “مستقبلها” من دون درس مناسب لها؟

وجوب النظر من خارج العروض

مصاعب في النشأة، إذن، لا يزال الدارس يتحقق من بعض أسباب استمرارها إذ يعاين – وإن بعجل – المشهد الشعري. فهو يتحقق من أنها لا تزال غير مقبولة من شعراء، من نازك الملائكة حتى أحمد عبد المعطي حجازي، كما إن نقاداً عرباً معروفين بدراساتهم في “الشعرية” ومسائلها يتجنبونها ضمناً إذ لا يخصونها أبداً بالدرس. وقد لا يكون الحديث مناسباً عن “مستقبلها” بالتالي من دون الحديث، ابتداءً، عن هذين المعوقين. فماذا عن “الممانعة” التي تحول دون تركزها؟
قد تتأتى هذه الصعوبة، في المقام الأول (وبين جملة أسباب متعددة)، من كون هذه القصيدة “غريبة” و”صادمة” للشعر وللشعرية العربيتين: فإذا كانت هذه القصيدة قد قبلت في فرنسا، موطنها الأول (12)، (كما في تجارب أوروبية أخرى)، فذلك يعود إلى سهولة دخولها إلى الشعر والشعرية الفرنسيتين، بفعل وجود “أشكال” مختلفة للقصيدة (ballade, ode, sonnet…)، وللشعر (الملحمي، الغنائي والدرامي)، سابقة على انبثاقها فيه، فيما لم يعرف الشعر العربي سوى أجناس للقصيدة (مدح، هجاء…) من دون أشكال متعددة ومتباينة (13). لعل القصيدة بالنثر قد تبدت، في عالم العربية، لا إضافة أو تنويعاً في الشكل، بل خروجاً على الشعر والقصيدة في آن. فهي النوع الكتابي الجديد الذي فصل، في الشعرية العربية، بين الشعر والقصيدة، وبين القصيدة والقالب العروضي، وبين القالب العروضي والإيقاع، وبين الإيقاع والحروف… وهي قصيدة تنتسب إلى النقائض، إذا جاز القول، إذ تشير في مبناها التركيبي إلى الشيء وعكسه في آن، وهو ما يصعب على البعض قبوله في العربية، ولا سيما ممن اعتاد منهم على النظام والاتساق سبيلين للتعرف على الأشكال الفنية والجمالية. وماذا عن صعوبة درسها، التي قد تحول دون توطنها؟
تحكم بالنظر إلى القصيدة بالنثر منظور تقليدي، لم تفارقه ألفته المديدة مع العروض بمقتضياته كلها. ألفة كافية لكي تبقى أداة النظر إلى تركيب الجملة، نحوياً وإيقاعياً، مستلة من هذا المنظور، الذي ينظر إلى القصيدة في صورة ترتيبية، تراكمية، في وحدات قابلة للحصر والتعيين. وهو ما أعالجه في عدة وقفات تفقدية، وأبدأ بوقفة إيقاعية تطاول تحديداً مسألة “الإيقاع الداخلي” المميزة لها، حسب بعض النقد.
هذا ما أصاب القصيدة بالنثر من منتقديها، مثل نازك المائكة وغيرها، حيث لم يجدوا فيها العروض أو الإيقاعية النسقية (14). وهذا ما أصابها من المدافعين عنها، حيث وجدوا فيها – إثر سوزان برنار – “إيقاعاً داخلياً”، فيما لم أعثر عليه – بخلافهم – عندما درست بعض نماذج هذه القصيدة في نهاية السبعينات، وهو ما أبنته لاحقاً في كتابي “الشعرية العربية الحديثة” في الخلاصة التالية: “إذا كان المقصود بهذا (الإيقاع الداخلي) الإشارة إلى نظام مستمر ومتواصل، ذي وحدات بينة، فإن هذا الإيقاع غير موجود. فنحن نعثر في هذه القصيدة أو تلك على قدر متتابع أو الصلة الإيقاعية بين حروف لينة، أو غيرها من السمات الصوتية، ولكن من دون أن تؤلف أبداً سلسلة إيقاعية، ذات وقفات وانعطافات واضحة. (…)، لم تزل (القصيدة بالنثر) حالة صعبة الدرس” (15). ذلك أن الانتظامات الإيقاعية صعبة ومتقطعة وغير متوقعة بأية حال، وتتخذ شكل التكرار، الواقع في مبتدأ السطر أو في منتهاه، وفي تركيب الجملة المستعاد (كما في السجع): لهذا يمكن الحديث عن “تموجات” في مباني الكلام، وهي تستحسن أصواتاً أو ميلاناً صوتياً بعينه، خاصة بعد انفكاك القفل بين النحو والإيقاع.
وهو ما يمكن قوله في مبنى المعنى كذلك، حيث طلب النقد من هذه القصيدة ما كان يطلبه منها النقد العربي القديم، وهو “إصابة المعنى”، أو “تمام المقصود”، فيما اتجهت القصيدة هذه – على ما تبينت ودرست – إلى “زوغان المعنى”، وإلى تعطيل سبل التعرف عليه أو تبديده. وهو ما يمكن قوله في تصنيف هذه القصيدة، أو في التعرف على أشكالها أو الأنواع فيها: فما احتفظه بعض النقد من معايير التعرف عليها، التي بلورتها سوزان برنار في كتابها (15)، “القصيدة بالنثر من شارل بودلير إلى أيامنا هذه”، واستعاده غيرها منها، لا يناسب هذه القصيدة في عدد كبير من تجاربها.
فالناقدة برنار تحدثت عن شروط معينة لهذه القصيدة: عن أنها “كل عضوي، مستقل”، وعن “مجانيتها”، حيث أنها “لا غاية لها خارج ذاتها”، وعن الكثافة فيها. ونحن نتحقق، فيها لو راجعنا عدداً من هذه القصائد، أن المعايير هذه أو واحداً منها قد يناسب هذه القصيدة أو تلك (أو قسماً منها أحياناً) إلا أنه لا يناسب أكثر من قصيدة عند الشاعر نفسه، أو عند مجموعة من الشعراء، فكيف عند مجموع القصائد بالنثر! فقد نجد الكثافة، على سبيل المثال، في عدد من قصائد “لن”، إلا أنها تحتذي، وفي القصيدة نفسها أحياناً، سبلاً سردية، عرضية، وشرحية، وتفصيلية بالتالي، أي غير ما تستدعيه الكثافة. وقد لا نجد أثراً للكثافة في قصائد الماغوط بل للصراخ الممدود والمفصل والمعلل… وهذا لا يعني أن معايير برنار لا جدوى لها، وأنها لا تصيب شيئاً من حقيقة هذه القصائد – “المحيرة” فعلاً -، إلا أن علينا أن نبحث عن سبيل آخر في النظر (أو الحكم بالتالي) على هذه القصيدة.
دافع أنسي الحاج في مقدمة “لن” عن وجوب أن تكون القصيدة قصيرة، “لأن التطويل يفقدها وحدتها العضوية”؛ إلا أن هذا ينطبق أكثر ما ينطبق فعلاً على قصائد “لن”، لا على مجموعتين لاحقتين في شعره: “ماذا فعلت بالذهب…” و”الرسولة بشعرها…”. وهذا ما يمكن قوله في شعراء مختلفين. بل يمكن القول إن القصيدة المطولة، أو ذات المقاطع أو الابتداءات العديدة، تحضر بقوة في التجارب الأخيرة. وهذا ما يمكن قوله في الكثافة كمعيار محدد لهذه القصيدة، إذ يتحقق الدارس من “تمطيط” يصيبها في عدد من تجاربها، حتى أن قسماً كبيراً منها يستعذب السرد، كما الوصف، في عدد من تراكيبه وأساليبه…
ذلك أن النقد نظر إلى القصيدة بالنثر على أنها “نوع” أو “جنس” شعري جديد في العربية فيما عنت، في واقع التجربة الكتابية العربية، شيئاً آخر يستحسن الوقوف عليه والتمعن في حركاته ودرسها. إذ أعتقد بأن الدرس المناسب لهذه القصيدة يتعين في حدود أبعد من حدود النوع أو الجنس الشعريين، ليطاول مباني الكتابة نفسها. وهي مبان تولدت في رحاب النثر قبل الشعر (وإن انتقلت إلى الشعر)، وفي تجريب سبل جديدة في بناء الجملة والجمل غير معروفة في احتكام الجملة إلى البيت قديماً. وأخلص من هذا التفقد الأولي لهذه القصيدة بالقول إنه تم النظر إليها من دون معاينتها الفعلية، أو جرى الاكتفاء بعناصر أو عينات جزئية منها، من دون النظر التام إليها، أو تم النظر إلى قصيدة من دون غيرها عند الشاعر نفسه أو عند غيره من الشعراء.
ولهذا قد يكون البحث الأجدى فيها هو الخروج من منظور عروضي أو نمطي للشعر كما للقصيدة، والتنبه بالأحرى إلى المستويات في القصيدة. وهذا يعني – في ما يعنيه – عدم الانتباه إلى درس شاعر، أو إلى درس قصيدة ربما، والانتباه أكثر إلى انبناءات الكلام فيها، أو “انتظاماته”، كما أستحسن القول. فكيف يكون ذلك؟
وجب القول إن النقد العربي القديم جمع بين القصيدة (أي العمودية) والشعرية، وهو أخفى في تعيينها المقتضيات البنائية المختلفة التي للقصيدة العمودية أن تتقيد بها؛ وهي مقتضيات تجتمع في بناء مركب، مضغوط، متداخل المواد، ملتبس العلاقات، بما يخفي نظام البناء فيه. وهو نظام يتوزع – على ما درست – في ثلاثة مستويات أجملها في الألفاظ الثلاثة التالية: العروض، النحو والمعنى (17). إلا أن مثل هذا التعداد أو الترتيب يخفي انتظام هذه المستويات في مبنى لفظي واحد؛ وهو ما جعلني أتحدث عن “أولوية” المستوى العروضي على غيره في القصيدة العمودية، وعن “إملاءاته” على غيره. هذا ما جمعته في الحديث عن “القفل الثاني” في القصيدة، ويشير إلى أن البناء الشعري العمودي يختلف عن غيره (في الفرنسية والإنكليزية، على سبيل المثال) في أنه يتميز بوجود قفلين: واحد للكلام نفسه بين متحرك وساكن، وآخر هو الذي توفره التفعيلة. هذا ما تخلع في القصيدة العربية الحديثة بكل أنواعها وأشكالها، إذ أصبحت القصيدة “تالية، لا مسبوقة، والشاعر متصرفاً بها، لا مؤدياً في نظام جماعي” (كما تحدثت في دراستي المذكورة أعلاه: “القصيدة العربية المتأخرة…”، ص 17)، وهو ما يتعين في القصيدة بالنثر في سمتين:
• التخفف المتفاوت للإيقاعية فيها إلى حدود التلاشي أو الصدفة؛
• أولوية أو تصدر النحو أو المعنى لمقتضيات البناء.
وهو ما أجمله في الحديث عن “الناظم” (18). فما الناظم؟
أريد من هذا اللفظ الحديث عن وجهة في التأليف (فيما يتحدث بعض النقد عن “استراتيجية المؤلف”) يتخذها الشاعر، في قصيدة أو في مجموعة قصائد، وتملي هذه الوجهة مقتضيات البناء في القصيدة، أي في انتظاماتها. أسوق مثالاً على ما أقول في مجموعة بول شاوول: “أوراق الغائب” (19)، حيث أن هذه المجموعة مبنية وفق خيار تأليفي (أو “قصد” من القصيدة) واحد ومتتابع، يتعين منذ العنوان، وتكون فيه كل قصيدة “ورقة” من “أوراق الغائب”، وهو ما يتأكد كذلك في أسباب بنائية واحدة لكل “ورقة-قصيدة”. وإذا انتقلنا إلى القصيدة، في مجموعات أخرى، لوجدنا الشاعر يتخذ من مفردة، من تتابع في صورة أو مشهد، أو من تفتيق معنى في تقدمه، في تفقد لقطة ظاهرة أو خافية، وفي غير ذلك من مواد أو من أنسقة جامعة لها، مبدأ جامعاً للقصيدة، أي ينظمها.
إن سابق الخلاصات والتوصلات إعلاه سهل لي مباشرة الجواب هذا إذ يدعو إلى معاينة القصيدة، وهو ما أجمله، بداية، في الحديث عن “هيئة” هذه القصيدة، الخطية، الظاهرية. هذا ما عالجته سابقاً، وما أشدد عليه من جديد، وهو أن أولى العلامات الدالة على شعرية القصيدة بالنثر هو أنه تتوافر لها هيئة مخصوصة، تتمثل في السطر الشعري، وتختلف فيه مع السطر النثري، إلا في أحوال “النثر الشعري”. وهذه الهيئة تجعلها تقترب حتى من الشكل النظمي: السطر وحدة بنائية للقصيدة بالنثر (كما لقصيدة التفعيلة)، ولها شكل خطي متكرر وإن لم يكن نمطياً ومتكرراً: هي ليست شكلاً نثرياً أبداً. وقد تجتمع السطور في مقاطع، وقد تنفصل عن بعضها البعض بأدوات تنقيط، بفواصل طباعية، بأرقام وغيرها. ويمكن القول أيضاً إن شكل هذه القصيدة قد يصدر من دون نية معمارية (بعقلية عروضية، إذا جازت التوسعة، عن علاقة مبنى الجملة أو السطر مع الفراغ البنائي للصفحة الطباعية)، ويصدر بعضها الآخر عن نية صريحة في البناء، في توليده المبتكر والمتغير، والذي له، من تقطيع الجملة، أو من أدوات التنقيط، أو من معالجة البياض، أدوات بنائية لهيئة معمارية (20).
وهذا ما يدعوني كذلك إلى الابتداء في درسها انطلاقاً من “ناظمها” أو “نواظمها”. والحديث عن “النظم” أستقيه، لا من العروض، وإنما من “النظم” عند الجرجاني الذي جمع – لأول مرة على الأرجح في العربية – إمكان درس الخطاب في الجملة، سواء في النثر أو في الشعر، في إعرابها، من دون تمييز غير الذي يبنيه الكلام في تقديمه وتأخيره. وإذا كانت لهذا الناظم انبناءات بعينها، أو “انتظامات”، فإنها قد تتضح وقد تختفي، وقد ترد وتبطل… هذا ما يجعل القصيدة على مقادير من الخفاء والانغلاق، وما يجعل التعرف عليها صعباً وقد يقع في اللاتعين. ذلك أن بناءها قد يتعين في مبدإ يقوم تحديداً على تبديل البناء: بناء غير نسقي بالتالي، وغير حاسم الحدود الناجزة. بناء قد يقوم على تتابع من دون تدرج أو بلوغ نهاية بعينها؛ أو تغوير من دون تمدد أو إطالة… هذا ما يمكن قوله في مبنى الجملة أيضاً، حيث أنها تتمدد وتتوسع و”تثرثر” في ما تقول، وحيث أنها تتكثف وتضغط وتشع في ما تقول أيضاً. فماذا عن مستقبلها؟

ميدان بأشكال مختلفة

ما أريد قوله، من خلال هذا التمهيد، هو أنه يصعب على الدارس تبين مستقبل هذه القصيدة، بالمعنى الفني لهذه الكلمة، إن لم يحسن التعرف على مبانيها، وعلى إيجاد المنظور والأدوات المناسبة لمثل هذا التطلع. ذلك أن الجواب التمهيدي على المطلوب يمكن أن يكون: إن مستقبل القصيدة بالنثر يتعين أو يتولد في بنية تشكلها الممكنة، أو الحالية في عدد من تجاربها. فكيف السبيل؟ وكيف للقصيدة أن تكون؟ هذا ما طلبت الجواب عنه في مجموعة شعرية ضمت شعراء يمكن القول عنهم بأنهم ينتسبون إلى الدفعات الأخيرة من شعراء هذه القصيدة؛ وهم الشعراء: شارل شهوان وأنطوان أبو زيد ومنذر مصري وفادي أبو خليل واسكندر حبش وشبيب الأمين وبلال خبيز وعلي مطر وفادي طفيلي وخالد مطلك ويوسف بزي (21). فما يمكن القول في اجتماعهم الشعري؟ إن نظرة أولية إلى هذه القصائد تظهر اختلافها البين، في سبل نظمها، أي في “الانتظامات” التي تبني الجمل في كل قصيدة: فهي انتظامات تقوم على التأليف (عند أنطوان أبي زيد ويوسف بزي واسكندر حبش وغيرهم)، وعلى القول (عند شارل شهوان وفادي أبو خليل ومنذر مصري وغيرهم). فما أريد القول من خلال هذا التمييز؟ أريد من الحديث عن “انتظامات تأليفية” الحديث عن قصيدة تجد أساس كتابتها أثناء الكتابة نفسها، في العناية الظاهرة بتركيب جملها المقتضب والمقتصد، أو في التكثيف اللاحق بالعبارة ما يجعلها صعبة التتبع؛ بل تحتاج قراءتها بالمعنى النقدي إلى وصل وفصل بين احتمالات التدليل تبعاً لسمات متعددة للقراءة (كأن تختار هذه السمة من دون تلك لكي يستقيم اتساق معنى ما فيها). وأريد من الحديث عن “انتظامات قولية” الحديث عن قصيدة لا تستقيم في تدلالها إلا وفق علاقة، في سياق، يقع خارج القصيدة نفسها، في السياق التخاطبي الذي تصدر عنه وتصب فيه. وهي انتظامات قولية تتوسل عبارات التخاطب وأدواته فضلاً عن توجهها إلى مخاطب لا نتبينه (وهو في الغالب امرأة) إلا من خلال توجه المتكلم إليه فيما يعلنه ويلمح إليه. وهو ما يفسر الجانب السياقي – الذي يبلغ أحياناً مسرحة ما – الذي يؤطر هذه القصيدة. لهذا وجب القول إن درس هذه القصيدة لن يكون موافقاً لتكوينها إن لم يأخذ بعين الاعتبار خصوصية بنيتها، وهي أنها قصيدة ذات بنية غير نسقية؛ وانبناؤعا على أنسقة لا يعني تكرارها في القصيدة الواحدة، ولا التعرف الميسر لها. بل أذهب أبعد من ذلك في مسعى التعيين وهو القول بأن هذه القصيدة تبطل النسق إذ تقيمه، وتنوعه إذ تعتمده، وتغيره بين قصيدة وأخرى. وما يتوجب التنبه إليه خصوصاً في التركيب هو أن انبناء القصيدة يختلف في تعويله على عناصر أو علاقات تابعة لهذا المستوى أو ذاك في البناء. وهو ما أبسطه في قول أولي: إذا كان لمستوى بناء المعنى في القصيدة مواد وعلاقات فإن الشاعر قد يجعل منه، من بعض وحداته، العنصر البنائي الأول الذي يوليه التصدر في توليده القصيدة. فما نتغافل عنه هو أن القصيدة – أياً كان بناؤها، نظمياً أو متفلتاً – بناء مضغوط ومركب ومتداخل بين مستويات ثلاثة (الإيقاع، النحو، المعنى)، وهي مستويات كان يتصدر ضغطها أو تركيبها المستوى العروضي في البناء النظمي، فيما يتصدر المستويان الآخران الأولوية في البناء في القصيدة بالنثر. في خلخلة هذه المستويات بين بعضها البعض، وفي تنقل الشاعر بين عنايات أو إهمالات في هذا المستوى أو ذاك، ما يفسر مصاعب التعرف على الانتظامات فيها. وما هو مدعاة للتصرف الحر والمتفلت من الشاعر كان في سابق الشعر، كما في سابق الدرس، أساس “الشعرية”، ليس للشعر وحسب وإنما لتعبيرات أدبية وفنية وغيرها. ولو أجرينا مثل هذه القراءة لانتبهنا إلى أن هذه القصيدة هي أغنى في الكتابة مما هي عليه في درسها. وهي توطنت في الشعر وفي خارجه أيضاً. وهي تمسك أسباب صلة بالعروض، بالإيقاع، وتقطع مع هذا وذاك أيضاً. قصيدة مفتوحة بخلاف ما هو عليه الشعر اعتيادياً، ليس في بلادنا وحسب، وإنما في ثقافات عديدة أيضاً: فالشعر يبتدىء عادة من النظام، لا من الشاعر، فيما هو يبتدىء من الشاعر في هذه القصيدة، بل من القصيدة نفسها في تولدها غير المسبوق. هكذا انتهيت – بعد هذه الملاحظات والتوصلات – إلى تبين الأشكال التالية في القصيدة بالنثر:
• القصيدة الشذرية (وهي القصيدة ذات الجملة القصيرة والمقتصدة)
• القصيدة-الطرفة (وهي القصيدة القصيرة، التي يتعين مبناها في موقف أو صورة أو جملة، مدعاة للتهكم أو التندر وغيرها؛ وقد تكون طويلة تنبني على مفارقات واستعارات ذات هيئة سوريالية خصوصاً)؛
• القصيدة –السيرة (وهي التي عمد البعض إلى توظيفها في بناء متعدد ومركب، وإلى التوقف عند لحظات أو عهد في السيرة الشخصية)؛
• القصيدة-اللقطة (وهي قريبة من القصيدة-الطرفة، إلا أنها تعاين في هذا الشكل مشهداً أو حبكة حدثية بعينها بما يشير إليها أو يبسطها)؛
• القصيدة الوصفية، وهي بدورها قريبة من القصيدة-الطرفة والقصيدة-اللقطة إذ تستعين بالسرد، وهنا بالوصف؛
• القصيدة-اللوحة؛
• القصيدة-الحكاية؛
• القصيدة الغنائية ذات الأدوار والمطالع،
• القصيدة ذات الحوارية الممسرحة
وغيرها الكثير.
في مثل هذه المعاينة (التي تفيد ترقب بزوغ الأشكال) يمكن طرح السؤال عن مستقبل العلاقة بين “النثر الشعري” وبين “القصيدة بالنثر” (22). ذلك أن المتابع يلاحظ بأن المشهد لم يتغير تماماً لصالح القصيدة بالنثر، مثلما قد يتراءى للبعض: فإذا كان النثر الشعري، أو الشعر المنثور، افتتح هذا العهد فانقطع، ثم استكملته القصيدة بالنثر فوسعت من سياق تداوله العربي، فإن بعض شعراء هذه القصيدة لم ينقطعوا في بعض كتبهم عن كتابة هي أقرب إلى النثر الشعري، بل هي أقرب إلى السطر الشعري المتمادي الذي يتجنب الشكل الشعري المشتمل على وقفات بيضاء (23). ووجب التنبه أيضاً، وفي السياق عينه، إلى كتابات تنهل من النثر وتقترب من الشعر، كما عند شوقي أبي شقرا (في “سائق العربة ينزل من العربة”)، وخصوصاً عند أمين صالح (24) الذي ينتقل ببعض الشعر إلى النثر، بما يبلبل حدود الأنواع.
إلى هذا، اختصت هذه القصيدة، إذا جاز القول، بعدد من الموضوعات، بل امتازت بأنها مجال تحقق وتبلور “حساسية فردية”، وإن بشيء من النزعة الرسولية والإنشادية عند بعضهم. بل يمكن القول إنها قصيدة المدينة والشوارع والأرصفة والمقاهي ودخان السجائر وصرير الأسرة والجلسة الحميمة ولذاذات الجسد والضجر الموقع في الخطى وغيرها من اشتهاءات العيش المديني وكوابيسه، على الرغم من فضاءات شوقي أبي شقرا وسليم بركات، بين القرية والبادية، المرسومة بعيون منبهرة. كما انفتحت على فضاءات ومفردات وتراكيب مستلة من المعيش اليومي والعامي أحياناً، فيما ظلت العناصر هذه ممنوعة عن دخول الشعر الراقي والصافي والبليغ والفصيح والمعتبر. وقد بلغ الأمر عند بعض شعرائها حدود الاستغراق في التفاصيل فعلاً، والتمعن في “الركاكة” (مثلما درجت العبارة بين بيروت والقاهرة) فعلاً، ما جعل كتاباتها عند بعضهم أقرب السبل لا إلى “إنهاك” اللغة، بل الشعر أحياناً. ذلك أن بعض شعرائها “يستعملون” اللغة، بدل أن يكتبوها؛ وهم في ذلك يكتبون كما لو أنهم يتكلمون. عدا أنهم لا يولون البناء، في الجملة والسطر، أو في معمار القصيدة، عناية بنائية أو جمالية.

جذورها في خطواتها
لو شئت استعمال مصطلحات وآليات متأتية من خارج الشعرية لدرس “مستقبلها” (مثل “الاستشعار عن بعد”، أو علم “المستقبليات”، أو علم الاستثمارات المالية الذي يدرس “حظوظ الأسهم” في البورصة، ولا سيما في “مأمول ربحها” ابتداء من راهن تداولها)، لقلت بأن في اندفاعتها القوية، الحالية، ما يشير إلى حركتها المتوقعة، أي القادمة. غير أنه لا يسعني أن أمضي أبعد من هذا، وإلا لوقعت في التخمين أو في التمني. فكيف العمل؟ هذا ما أتبينه في ملمح أول، ألخصه في هذا القول: إن مستقبلها ماثل في كتابة شعرائها الجدد على الخصوص. ولو شئت رسم خط بياني لها لوجدت أن الإقبال عليها يتزايد في البيئات العربية المختلفة، وأنها تجذب إليها مواهب واعدة. ويمكن القول إنها حققت في بيروت نوعاً من التصالح المنشط بينها وبين شعراء مخالفين لها. وقد يكون التعبير الأمثل عن لحظة التصالح هذه هو إقرارات محمود درويش الأخيرة بشعريتها، فضلاً عن تأثره بها. ولكن ماذا عن مقبل أيامها؟ كبف يحدث أن الشبان يقبلون عليها؟ وما أسباب التعلق بها، الذي لا يفسره تسرع عتاة التقليدية في القول عن تنكب الشباب عن النظم العمودي، أو عن جهلهم بأصوله؟ غير أن هذا الكلام لا يكفي ولا يسعف إن لم ترافقه معاينة سوسيولوجية تعنى بدرس التشكلات التي تصيب هذه القصيدة في هذا المجتمع العربي أو ذاك، للوقوف على أصول الشعراء الاجتماعية، على مشاربهم الثقافية والدراسية والإيديولوجية وغيرها. وقد يحتاج الأمر كذلك إلى معاينة الشق المهني من هذه الاهتمامات للوقوف على الصلات التكوينية لهذه القصيدة بين ممارسة كتابها للتعليم أو للصحافة (25).
وهو ما أفتقده في درس الشعر العربي الحديث عموماً، إذ يفتقر إلى المقاربات الاجتماعية المختلفة، التي لها أن ترينا أسباب الحاجة إلى الشعر، من فئات اجتماعية، من سلطات وأحزاب وغيرها، بما يشير كذلك إلى فئات القراء وأسباب إقبالهم على الكتاب أو الأمسية وغيرها. وهي مقاربات لها أن تمكننا كذلك من الوقوف عند الشق المهني من أعمال الشعراء: هل الشعر مهنة أولى أم ثانية أم ثالثة أم هواية مجانية تكتفي بنفسها إذ تتسلى بصنيعها؟ غير أن الحاجة إلى مثل هذه المقاربات تجيب في مطلوبي على المسألة التالية: أين لنا أن نعين أسباب الإقبال على كتابة الشعر، وممارسته، بين الإرث الرمزي القديم-المستمر للشعر في العربية وبين التعويل المادي عليه؟ أيكون الإقبال عليه “مجانياً”، أي من دون طلب مادي، ما يجعل الشعراء ذوي أصول واعتقادات نزهت حاجتها إلى االسلطة والمال على هذا الشكل؟ هذه الأسئلة، مثل هذه المقاربات، ضرورية للوقوف على ما نهمله في درس الشعر، بما يعزز اعتقاداً متقادماً عن “إلهامية” الشعر، وعن خروجه على المباني الاجتماعية. وإذا كان لهذه الإلهامية ما يبنيها في اعتقادات الجماعات حول “الكلمة” ودورها في مجتمعات غير متعلمة، ثم محتاجة لفنون الكتابة والأدب في الدواوين الحكومية وحولها، فإن هذه “الإلهامية” فقدت في صورة مزيدة الاحتياجات السلطوية منها (26).
يدور مستقبل هذه القصيدة، إذن، في التداول، في أنواع الإقبال المختلفة عليها، بين ممارسيها ومتذوقيها وقرائها: أسيبقى لهذه القصيدة مثل هذا العدد الكبير من الممارسين؟ إن مستقبلها يتولد بالضرورة في تاريخ ممارسات كتابها، لا في نظام معياري، أو في قواعد مستقرة، ولا في “ذاكرة” أو تقاليد. إلا أنني أتنبه إلى أن حركتها المتعاظمة ليست مكفولة بالضرورة، بما يضمن لها مسيرتها الظافرة. ذلك أن هذه القصيدة تراجعت في غير تجربة أوروبية، عدا أن نقاد البنيوية تجنبوها كثيراً في تحليلاتهم في فترة الستينات والسبعينات من القرن الماضي. ويمكن القول إن من يكفل لها المقبل من حياتها يتوافر، أو له أن يتوافر فيها، في بنيتها الشعرية كما في تمفصل أنسقة هذه البنية مع أنسقة تلقيها. أهو الشاعر، إذن، – ووحده – الذي يكفل لها مستقبلها، بإقدامه على طبع كتابه الشعري – على نفقته في أحيان كثيرة -، بإنزاله على السوق شكلاً، فيما يتكفل الكثيرون من شعرائها بتوزيعه بأنفسهم، على شعراء ونقاد وصحفيين وأصدقاء؟ أيكون لهذه القصيدة حياتها، بل مستقبلها، من دون القارىء نفسه؟ أيكون قارىء هذا الشعر هو الشعراء أنفسهم؟ أتكون حياة هذه القصيدة ممكنة وحسب في مختبرات الدرس الجامعي وحسب؟
هذا يعني أن السؤال عن عقد التواصل بين هذه القصيدة والقارىء سؤال لازم، يتوجب طرحه، ولا سيما في حمية السؤال عن حياتها المقبلة. فقد تتوصل هذه القصيدة إلى أن تكون قصيدة شاعرها، وربما قصيدة مجموعات تنغلق على مكنوناتها مثل جماعات “سرية”. هذا العقد التواصلي يتعين طبعاً في القراءة، لا في السماع ربما (على الرغم من عودة الشعر إلى بعض المقاهي في باريس). ولكن كيف للقراءة أن تنتظم إن لم يكن القارىء – أي قراء مختلفون – قابلاً لأن يتفاعل معها، وأن تكون لهذه القصيدة في مبانيها ما يقيم إمكاناً لتواصل، لتتبع، لملاحقة، لسوية تفاعلية. ذلك أن الذهاب في “فردانية التنصيص” قد يجعل القصيدة مغلقة على مبانيها تماماً، وحتى على شاعرها نفسه. تبقى القصيدة بالنثر تحدياً بقدر ما هي ورطة. تخلصت من القيود، ولكن ما يخشى عليها هو أن تتخلص من أية عوالق بخارجها وبغيرها. بل يبلغ السؤال حداً أقوى، وهو أن جدواها قد تتعين في احتياج الشاعر لها، على أنها “لعبته” التي قد لا يبالي بها أحد غيره. أيمكن للشعر أن يتخلص من اجتماعيته من دون أن يقع في النرجسية الهيهية (التي تقتصر على رغبة الشاعر فيها واحتكامها إليه وحده)، أو في “الإخوانية السرية” (التي تقتصر على حوارية تحيط بمحترفي الشعر من دون غيرهم)؟ كيف للغة فردية أن لا تكون لغة “خاصة”، اصطلاحية، بمعنى “الشيفرة”؟ ذلك أن لغة مثل هذه قد تكون، مثل لغة المتصوفة، لغة “سرية”، أي أنها لا تتوصل إلى تبديل اللغة في اجتماعيتها اللغوية.

بين الحاسوب والقصيدة
كما إن السؤال عن مستقبل هذه القصيدة ممكن انطلاقاً من تبين صلاتها بغيرها من الفنون الكلامية وغيرها: هذا ما بلغته بعض قصائدها في الغناء (مع عابد عازرية)، في العزف (نصير شمة)، في المسرحة (سالم اللبان)، في التشكيل (ضياء العزاوي، إيتيل عدنان، جمال عبد الرحيم وغيرهم)… إلا أن هذه “الوصلات” بين القصيدة وفنون أخرى قد يمكنها من رواج ما، من شهرة ما – ولا سيما لشاعرها -، ولكن من دون أن تبلغ القصيدة نفسها مثل هذا الذيوع بالضرورة. وماذا عن صلتها بالحاسوب؟
هذا السؤال مستقبلي بامتياز، غير أن الجواب عنه قد لا تتوافر له المعطيات الدالة والأكيدة. ذلك أن الحاسوب بحوامله المختلفة، ومنها مواقعه الإلكترونية، تستقبل هذه القصيدة (حتى أنني وقعت قبل أيام على موقع خاص ب “قصيدة النثر المصرية”، على ما يفيد عنوانها)، بل الشعر العربي الحديث عموماً (مثل “جهة الشعر” المعروفة، ومجلة “أبابيل الأنترنتيكية”، كما تعرف بنفسها وغيرها). هذا ما يتضح في تجربة شاعرات ناشئات اتخذن من الحاسوب، ومن سبل اتصاله، وسيلة لنشر الشعر وحسب، وأذكر منهن: هيلدا إسماعيل (السعودية)، التي لها موقع إلكتروني، وميادة عمر زعزوع (الكويت)، ومها معتوق المهنا (الإمارات) وأميرة أبو الحسن (سوريا)، وهبة عصام الدين (مصر) وريم اللواتي (عمان) وغيرهن (27).
هذه السبل والمواقع المختلفة وسائط نشر وعرض وحفظ وتواصل، من دون شك، إلا أنها لم تعرف ما تعرفه بعض التجارب الكتابية “التفاعلية”، بين يوميات وروايات تنبني وتؤلف يومياً بين كاتبها ومراسليه الإلكترونيين. فهل ستعرف قصيدتنا مثل هذا التراسل الإلكتروني أو غيره؟ وهو سؤال يزيد من لزومه كوني تسلمت باليد، قبل سنوات قليلة، النشرية الشعرية: “داتا” (السابقة الذكر)، أي عبر النشر الطباعي، لا في البريد الإلكتروني.
لا يسع الدارس تبين ما يمكن أن يكون عليه علاقة القصيدة بالنثر بالحاسوب، غير أنني أتبين وجود “مناعات” تحول وتعيق مثل هذا التطور الممكن. ذلك أن الدارس يلاحظ بأن علاقة الكلام الشعري بالحامل النشري، أياً كان، بين طباعي وإلكتروني وغيره، قد لا يحظى بتوافق مناسب بينهما. هذا ما سبق لي درسه في ما أسميته “الشكل الخطي” للقصيدة الحديثة، وتبينت فيه أن الشاعر الحديث يبدو أقرب إلى “الأعمى” منه إلى المدرك أو المتحقق من لزوم نزول السطر فوق حامل طباعي له مواصفاته وإمكاناته. بل ما يستوقفني، في تتبع هذه العلاقة، هو أن الشعراء العرب الحديثين، بين الخمسينات والسبعينات في القرن الماضي، يبدون أكثر عناية بالحامل المادي من زملائهم اللاحقين. وهو مظهر يشير إلى أمر آخر، بنيوي لا شكلي، وهو أن بعض الشعر الأخير انتهى إلى تغليب الجانب “القولي”، بل “الإرسالي”، على الجانب التأليفي في قصيدته.
ويتضح في تجربة الشاعرات أنهن أقبلن على النشر الإلكتروني بديلاً عن الكتاب وعن كلفته (في بعض الأحيان)، وهو ما أقدم عليه شعراء ذكور بدورهم، من الجيل الشاب. وهذا الحل يبقى اقتصادياً، إن جاز التعبير، ويدل في ما يدل على مصاعب النشر المتجددة-المتكررة في عالم العربية. كما يتضح أمر آخر، ولا سيما في حال الشاعرات منهن، هو أن النشر يلبي احتياجات في التحاور والبروز والتمايز لا تتيحها، في أحوال كثيرة، سلوكات وعلاقات تقليدية تحصن دور الأنثى في الخفاء والانتظار. غير أنني أتبين وجهاً آخر في هذا المجال، ويتناول صلة هذا الشعر بالحاسوب. ألهذا الحامل، ألهذا الوسيط، تأثير في بنية الشعر نفسها؟ أله تأثير في تجربة الشاعر نفسها؟
ويزيد من الحاجة إلى الإجابة عن هذا السؤال كوني عرفت، مثل غيري، تجارب كتابية إلكترونية غربية يمكن تسميتها ب_”التفاعلية، إذ أقدم كتاب معروفون على نشر مقاطع أو بدايات من رواياتهم أو مذكراتهم اليومية – التي هي قيد الكتابة – في موقعهم الإلكتروني، فيما كانوا يطلبون من مراسليهم الإلكترونيين التدخل، بل الإسهام معهم في كتابتها. وهو ما لم نعرفه في هذه التجارب العربية الجديدة، ولا عند أقرانهم من الكتاب العرب المعروفين. ومن يتابع التجارب العربية هذه يلاحظ بأنها لا تستفيد أبداً من “لعبة” الحاسوب نفسها، ولا مما يتيحه من تراسل ذي طبيعة جديدة، تقوم على تعداد الشخصيات أو الأصوات أو التعابير في المراسل الواحد، وعلى خفائها. بل يلاحظ المتابع ما هو أدهى من ذلك، وهو تطويع الآلة الحديثة (كما الفيديو في مجتمعات لا تقر بالاختلاط الجنسي في الجامعة على سبيل المثال، إذ يحل الفيديو محل الأستاذ، وفي غرفة أخرى) لأغراض اجتماعية تقليدية. فالتحاورية الشعرية عبر الحاسوب تقلد “الديوانيات” الخليجية واقعاً، وتتم تحت نظر الأب، بكل معاني الكلمة: فلقد انتبهت في أخبار عدد من هؤلاء الشعراء، وخصوصاً الشاعرات، أن مراسلاتهن تتم بعلم الأب، وعبر أجهزة تشغيل لا تتيح “الدردشة الإلكترونية” (أي “التشات”) كذلك، ما يشكل حفاظاً على البنية التقليدية (عدم الاختلاط بين الجنسين المشار إليها)، وعلى مسموحاتها وممنوعاتها بالتالي.
قال ماكلوهن، منظر الاتصالات الحديثة، “الوسيط هو الرسالة”؛ وكان في ذلك يشير إلى أن الوسيط، أو الآلة، “يملي” على النص شروطه التأليفية، أي رسالته. ويتحقق المتابع – كما قلت أعلاه عن “الفيديو” – من أن “استقبال” هذه الآلات “التحديثية” قد يبطل أو يخفف من مفاعيلها بحيث يجعلها أدوات تقليدية. إلا أن السؤال يبقى ملحاً حول علاقة الحاسوب بقصيدة النثر؛ وهو ما لا يمكن تبينه عنها في مقبل إيامها، ومقبل أيام الحاسوب في المجتمعات العربية. ولو شئت الاستدلال بمؤشر بسيط، لانتبهت إلى أن بعض شعراء “داتا” المذكورين أعلاه، كما بعض الشعراء الإلكترونيين المذكورين، يقبلون على تقنيات الصورة المختلفة (بين تقطيع ومونتاج وسيناريو، فضلاً عن تقنيات “الكولاج” عند بعضهم) في انتظامات القصيدة، ما يجعل الجواب عن علاقة هذه القصيدة (وغيرها أيضاً) بالحاسوب مفتوحة بالضرورة. وماذا عن مقبل علاقة الشاعر بالقصيدة؟ ما يكفل للشاعر مستقبله في القصيدة؟

الشاعر بين الاسم والصوت

هذا السؤال يدفع النقاش إلى وجهة أخرى، ولكن ملازمة لهذه، وهو علاقة القصيدة بالنثر بالرومنسية عموماً. ذلك أن بعض هذا الشعر يشتمل على عودة إلى الشعر الرومنسي، إذ تظهر “الأنا” بقوة ضاجة وإن في “غرفة بملايين الجدران”. وهو ما يتجلى أكثر ما يتجلى في إعلاء مفرط لأنا المتكلم في القصيدة، حيث لا يقل تحكمه بالقصيدة عما هو عليه عند الشعراء “النبويين” أو الإيديولوجيين في قصيدة التفعيلة وغيرها. وهو ما يصح في أصوات شعرية شابة تميل إلى تدوين أو استظهار الانفعال أو الغرابة في التجربة، على فجاجته أحياناً وبوصفه مادة خام من دون معالجة.
لم تدرس كفاية الرومنسية الشعرية. جعلناها محطة بعد “الإحياء الشعري”، ثم أقفلنا بابها سريعاً بحجة القدوم العاصف لقصيدة “حديثة”. اكتفينا، إذن، بالتفاتة خجولة، بل عجولة، إلى جبران خليل جبران وأبي القاسم الشابي وأبي شادي وغيرهم. واعتذرنا منهم، كما من غيرهم، وذهبنا إلى استقبال العجول والضاج. هذا ما جرى في الدرس، لكنه جرى قبل ذلك في القصيدة نفسها. طوى الشعراء، قبل النقاد، صفحة الرومنسية. طووها على عجل، على شيء من التبرم، على شيء من التلهف. ما تحققت منه سابقاً، وما أتأكد منه في صورة مزيدة، هو أن طي هذه الصفحة أتى عجولاً، بل متعجلاً في الواقع. وفي التعجل شيء من التسرع، ولا تلبث أن تتكشف طبيعته وإن لا تتبدى في هيئة نظرية ونقدية مناسبة لها.
هذا ما أجمعه في الكلام عن إعلاء صوت المتكلم في القصيدة، على مديح المتكلم لنفسه، لصنيعه، بوصفه مسمي الوجود والقيم، ومطلق الصفات والأحكام والمعاني على الألفاظ. إن قدرةً مثل هذه تتأتى من مصدر رومنسي، من مرجع بات لا يجمع في صيغة – تحتاج إلى تبين ودرس – بين الربوبي والأنوي، بين الديني والوجودي.
هناك – على ما أرى وأدافع – وجه خفي للرومنسية في ثنايا ما نسميه بالقصيدة الحديثة، ومنها القصيدة بالنثر. وجه بلسان أنوي صريح، بل صارخ: سواء أكان صارخاً في “غرفة بملايين الجدران” (عند الماغوط)، أو في وجه “الحضارة” (عند أدونيس)، كما في قوله: “قادر أن أغير : لغم الحضارة هذا هو اسمي”.
هذا الوجه الخفي له صورة بألسنة عديدة. له صورة المتكلم الذي يفصح عما لديه، وكيفما يريد في القصيدة: القصيدة كلامه الذي يوجهه إلى غيره. هذا صريح الأنا وعاليها. وهذا متخيل الأنا وواطيها أيضاً. هذا ما أطلقت عليه تسمية “المتكلم”، إلا أنها تحتاج إلى إيضاح وتبين. ذلك أن من يقول “أنا” في القصيدة، ومن تصدر عنه هذه القصيدة، مالك حصري للصوت، ومنتفع منه. هو “ناطق رسمي” له، إذا جاز القول.
هناك أنا موصولة بموقع، باسم فردي واجتماعي، تعمل له وعنده، وتصدر منه القصيدة كفعل مباشر. وهو ما أتبينه في أعداد من القصائد بالنثر، التي جرى إطلاق صفات عليها، مثل صفات لاحقة بالشعراء، “الهامشيين” أو “الفتية الشرسين” أو “الصعاليك الجدد” وغيرها، فيما نتحقق في هذه القصائد من ترجيعات رومنسية غير جلية في صورة صريحة في غالب الأحيان. وهو ما يمكن قوله في الحديث أو في الدعوى الشعرية عن قصيدة “اللغة التالفة” حيث أنها، هي بدورها، نشأت في دعواها الفنية والشعرية والجمالية ضد “الفصاحة المستجدة” في الشعر العربي الحديث، فيما انتحت بجانب من اللغة العربية على أنها اللغة “الشعرية”، وكانت بذلك تقيم مثالاً معكوساً عن الفصاحة، وهو أن الشعر قابل لفصاحة من نوع آخر، إذ تقر مثلها بأن قسماً من اللغة من دون غيره هو “الصالح” للشعر.
يفيد طرح هذه الأسئلة وغيرها في استبيان مستقبل ممكن لهذه القصيدة، ذلك أنه يطاول علاقة الشاعر بالمتكلم الشعري، وعلاقة المتكلم الشعري بالصوت (أو بالأصوات) في القصيدة؛ وهو ما يتم خلطه ودمجه في طرق اختصارية ومضللة في النقد. ذلك أن الدارس يتحقق من أن القصيدة بالنثر مدونة ذاتية بامتياز، من دون أقنعة أو كنايات في الغالب؛ قصيدة يحتاجها شاعرها بنوع من التمسك الخلاصي، وفي ظروف الطوارىء، أو بنوع من “اللعب”. لهذه القصيدة نبر يتراوح بين الإعلان الضاج للمتكلم وبين الوشوشة التي تكاد أن تنغلق مبانيها بين المتكلم ومخاطب بعينه. بل تسارعت قصائد وشعراء إلى رفع القول الحميمي، إلى رفع التجربة الفردية، مثل شهادة عن “صدق” الشعر على أنه الدال على “صحته”، بل على “طليعيته”. والحميمية هذه لا تتيح التندر إلا في الغالب، ولا التهكم من الذات، بل تتيح في الغالب الترويج لصورة الشاعر عن نفسه، التي تكاد أن تتحول إلى كنايات لا إلى استعارات، طالما أنها تشير إلى الهامشي والغريب والصعلوك والعاشق وغيرها. قصائد تتنكب عن “النبوي” و”الفصيح” إلا أنها تبقي “أنا” التكلم عالية وإن بصور سلبية، فلا تجعل بينها وبين القول محلاً لتبين أو مساءلة. قصيدة أقرب إلى المرآة النرسيسية، فلا تفضي مثل نافذة إلى ما يعرضها لامتحانات، وإلى ما يجلوها في التجربة فعلاً. هذا ما وجدته في هذا الحضور المتمادي للرومنسي، وإن يتخذ وجوهاً متبدلة. وهو ما يمكن قوله في استمرار حضور الغنائية نفسها بأشكال تحتاج إلى استقصاء وتبين ودرس بالتالي، وتقوم على أنواع مختلفة من الاحتفائية: بالذات، بالحبيبة وباللغة أساساً (28). إلا أن هذا لا يغيب وجود تجارب أخرى تعمل على “تجفيف” هذه النبرة العالية، صوب غنائية خافتة أو سرية، ما يشير إليه عنوان مجموعة عباس بيضون: “نقد الألم”.

***
لا يسع الدارس، في اختتام هذه الورقة، سوى الانتباه إلى أن القصيدة بالنثر بلبلت بقدر ما بنت الكتابية العربية، بمعان وأشكال مختلفة وعديدة، وهو ما يحتاج إلى رصد ودرس خارج هذه القصيدة نفسها، ليطاول تأثيراتها المديدة والأكيدة، بما فيه الجانب الجمالي نفسه. فما وفرته هذه القصيدة يتعين في تدبر جمالية مختلفة، هي جمالية المباينة، من جهة، والإنشاء الفردي، من جهة ثانية.
فما يستوقف الدارس، في الجمالية الإسلامية القديمة – وهو ما لم يدرس كفاية –، هو تناسبها فيما بينها وتواؤمها في منظورها العام: فغير صلة تجمع قصيدة المتنبي في أبنيتها الشديدة الترتيب والحذاقة بالبنائية الزخرفية والاتساقية في الفن الإسلامي. وهو ما يمكن قوله في الأشكال الزخرفية المتنوعة التي توسلها نثر الجاحظ وأبي حيان التوحيدي، وقبلهم في نثر “الدواوين” الحكومية. ما أريد لفت النظر إليه هو أن الدرس الجاد لم يتناول المباينة الجمالية التي حملتها القصيدة بالنثر إلى الأشكال الفنية والجمالية العربية؛ وهي مباينة خرقت مبدأ “التمامية”، على ما أجتهد في التفسير: لم تعد القصيدة متماثلة مع “عمود”، هو التعبير الفني والتقعيدي عن هذه الجمالية التمامية التي لا تحتمل أي خدش، أي تشوه، أي خروج عنها. وهو ما تمثل عبانياً في تصديعها، سواء لفصاحة اللفظ، أو لبلاغة التركيب. بل باتت القصيدة في عهدة الشاعر، يتصرف بها وفق ملكاته وتدبيراته، قبل أن تكون مرتبطة بقواعد أو معايير. هي تبتدىء من الشاعر، من دون أن يعني هذا أنه ينشىء القصيدة من عدم، من بداية تدشينية، إلا أن هذا يعني أن الشاعر ينصرف إلى معالجاته في الكتابة بوصفها تجربة قيد التشكل، و”تتوازن” بنيتها في العمل عليها.
الكتابة العربية خرجت في السياق “النهضوي” من احتكامها الذاتي إلى متنها وثقافتها وجماليتها، وأوقعت نفسها بفعل التثاقف في تعايشية-نزاعية، قلقة وخصبة في آن معاً؛ وهي تتوزع اليوم في استلهامات وتأثرات تصيب القصيدة بالنثر أكثر من غيرها (من ريتسوس إلى الهايكو مروراً ب”خفيف” الشعر الإميركي).
يبقى أن أشير، ختاماً، إلى مفارقتين لافتتين في ما يمكن أن تؤول إليه هذه القصيدة:
المفارقة الأولى هي الموصولة بمدنيتها، التي أشرت إليها أكثر من إشارة أعلاه، إذ أن هذه المدنية بقدر ما تصل هذه القصيدة بموضوعات و”مناخات” وأشكال تخاطب فهي تهددها أيضاً بالقطيعة معها، فلا يبقى لهذا الشعر من مدنيته سوى وحشته، وإن كانت مضيئة؛
والمفارقة الثانية هي الموصولة بفردية هذه القصيدة، التي سبقت الإشارة إليها أيضاً، وهي فردية موصولة بالمدنية المذكورة، إلا أنها تتظهر أحيانا في القصيدة، وابتداء من بنية اجتماعية راسخة في تقليديتها، بأشكال متجددة من “الفحولة”، حيث أن أنا المتكلم لا تزال تمسك بالقصيدة إمساكاً نرجسياً أو خلاصياً أو رسولياً.

الهوامش:
1 : أستعمل منذ عدة سنوات التركيب اللفظي “القصيدة بالنثر” (أو “القصيدة نثراً”) بدل التسمية الرائجة: “قصيدة النثر”، لسببين: الأول لغوي ويتناول صحة الترجمة، إذ
أن التركيب الفرنسي (poème en prose)، لا يفيد “قصيدة النثر” أبداً، وإن بدا مستساغاً للسمع. أما السبب الآخر فشعري صرف، بعد أن وجدت أن التركيب، “القصيدة بالنثر”، يناسب هذه القصيدة في تعريفها وواقعها النصي، وهي أنها قصيدة، لكنها تشتغل وتنبني بالنثر، وليست قصيدة النثر.
ووجب القول أيضاً إن هذه التسمية عانت في فرنسا من مشاكل بينة، إذ أن يودلير أطلق عليها، في رسالة إلى أحد أصدقائه في العام 1861، الاسم التالي: “القصيدة، بالنثر” (poème, en prose)، وقد وضع الفاصلة بين لفظي التركيب؛ وأطلق غيره (فرنسيس بونج) عليها تسمية منحوتة من لفظي النثر والشعر في آن، وهو: (proème). ولقد تحققت كذلك من أن الشاعر أوسكار وايلد لم يتأخر، هو الآخر، عن تسمية إحدى مجموعاته بما يفيد التمييز الفرنسي الذي أشدد عليه: (poems in prose)، ما يمكن ترجمته: “قصائد في النثر”، أو “قصائد بالنثر” كذلك.
أما أقدم استعمال لاسم هذه القصيدة فقد ورد في الفرنسية، ويعود إلى العام 1700، إلى الكاتب بوالو، إذ عنى الاسم في كتابته… الرواية، على أنها تنتسب بدورها إلى الفن الجميل، أي قريبة من الشعر.
2 : يقول أنسي الحاج:
“أنا الموقع اسمي أدناه
أسمع المطر ينزل
جافاً على الأسفلت
ومما قلت الآن وقبل الآن
لن تذكروا كلمة
لكن فمي ارتوى قليلاً
وهو يروي لمن يريد
ماضي الأيام الآتية”
أنسي الحاج، “ماضي الأيام الآتية”، 1965، دار الجديد، بيروت، 1994، ص 128 .
3 : لن أقوم في هذه الدراسة بمراجعة، أو بتتبع تاريخي يظهر – خلافاً لما ظنه بعض النقد – أن الإقبال على كتابة القصيدة بالنثر لا يرقى أبداً الى نهاية الخمسينات من القرن العشرين، مع مقالة أدونيس التعريفية عنها في العدد الرابع عشر من مجلة “شعر” (صيف 1959)، والمنطلقة من عرض لكتاب سوزان برنار الذائع الصيت، ولا من مقدمة الشاعر اللبناني أنسي الحاج لديوانه “لن” (1960)، المستندة هي الأخرى لكتاب برنار. ولن أقوم كذلك بعرض نقدي يظهر أيضاً أن نسق كتابة هذه القصيدة لا يعتمد على ما دعت إليه، أو ما صاغته الناقدة الفرنسية، بل على وقائع وعمليات تأثر أخرى، علينا أن نجدها قبل هذا التاريخ، عند شعراء آخرين، وتبعاً لمؤثرات أخرى. ذلك أن تتبعاً كهذا يدعونا إلى وقفات مطولة عند مساعي جبران خليل جبران وأمين الريحاني وغيرهما في كتابة “النثر الشعري”، وعند تجارب الياس زخريا ونقولا قربان وتوفيق صايغ منذ نهايات الأربعينات، وعند محمد الماغوط منذ قصيدته “النبيذ المر” في مجلة “الآداب” في العام 1953، وغيرهم ايضاً مما لا أجد حاجة لتكراره. وهم – على ما ألحظ – شعراء من سورية وفلسطين، لا من لبنان وحده، مثلما تسرعت نازك الملائكة في القول، واتبعها في ذلك نقاد متسرعون بدورهم، من دون أن يدققوا أو يراجعوا التأكيدات هذه. عدا أن تأثرات هؤلاء الشعراء لا تعود الى كتابات الحاج وأدونيس، ولا إلى كتاب سوزان برنار، خصوصاً أن شاعراً منهم (توفيق صايغ) إنكليزي الثقافة، وآخر (محمد الماغوط) لا يتقن لغة غير العربية (إلا أنه تعرف على الشعر الأجنبي المنقول إلى العربية على الأرجح).
4 : لم تنعم هذه القصيدة بعد في النقد العربي بنصيبها الدراسي، على الرغم من كل الضجيج الإعلامي الذي صاحبها ويصاحبها. واللافت في ما صدر عنها من دراسات هو أنها لم تحظ بعد بدراسة تاريخية مكتملة الشروط حول تكوينها ومساراتها. ويمكن ذكر الكتب التالية في مجال درسها (بعد أن أضع جانباً ما أصاب بعضها أو عدداً من شعرائها، في هذا الكتاب أو ذاك، من عنايات نقدية):
أحمد بزون: “قصيدة النثر العربية: الإطار النظري”، دار الفكر الجديد، بيروت، 1996 .
وأصدر “اتحاد كتاب المغرب” مجموعة كتب عن مسألة هذه القصيدة، منها: “الشعري والنثري”، في العام 2001 لرشيد يحياوي، وفي العام 2003 الكتب التالية: عبد الله شريق: “في شعرية قصيدة النثر”، وحسن مخافي: “قصيدة الرؤيا: في التنظير الشعري” ومحمد الصالحي: “شيخوخة الخليل: بحثاً عن شكل قصيدة النثر”.
ووجبت الإشارة إلى دراسة للدكتور مصطفى الكيلاني يستعرض فيها دارساً ومحللاً المدونة النقدية العربية لهذه القصيدة: د. مصطفى الكيلاني: “سؤال الحداثة الشعرية بمنظور قصيدة النثر في نقد الشعر العربي المعاصر”، مجلة “ثقافات”، العدد 17، 2006، البحرين، صص 58-72.
5 : تنتبه الدارسة الفرنسية ناتالي فنسان-مونيا إلى أنه كان للترجمة من الشعر الأوروبي المختلف إلى الفرنسية دور أكيد في إطلاق هذه القصيدة، ولا سيما حينما اعتمد شعراء ومترجمون فرنسيون على لغة النثر لترجمة الشعر الموزون والمقفى. وهو السبيل – على ما نعرف – الذي مكن القصيدة هذه في عالم العربية من أن تنطلق، ولا سيما بعد تنكب الشعراء عن محاكاة صنيع سليمان البستاني في “الألياذة” ونقولا فياض وأحمد شوقي وغيرهم، وعلى الرغم من مساعي الشاعر والمترجم إداور طربيه المتأخرة (في ترجمة “البارك الشابة” لبول فاليري، والتي يشدد في مقدمتها على لزوم ترجمة الشعر الموزون بالشعر الموزون)، في ترجمة الشعر الموزون والمقفى شعراً موزوناً ومقفى في العربية. وهو ما دعا البعض إلى الجمع – من باب السخرية – بين الشعر المترجم والقصيدة بالنثر:
Nathalie Vincent- Munnia : Les premières poèmes en prose : généalogie d’un genre, dans la première moitié du dix-neuvième siècle français, Honoré Champion, Paris , 1996, pp. 62
-73.
6 : يفيض المجال عن ذكر السياق الواحد الذي “تخلعت” فيه القصيدة العربية في “عصر النهضة”، وفي تجارب كتابية مختلفة. يمكن العودة إلى دراستي:
شربل داغر: “القصيدة العربية المتأخرة: الشاعر بدلاً عن النظام”، مجلة حوليات كلية الآداب والعلوم الإنسانية في جامعة البلمند، العدد 13، 2006، صص 17-64،
للوقوف على وجوه التخلع العروضي المختلفة.
وما وجب قوله أيضاً هو أن بعض النقد جعل قصيدة التفعيلة قصيدة “متأصلة”، والقصيدة بالنثر “ربيبة الاستعمار”: يقيم هذا النقد علاقات “عجائبية” بين تكوين النص أو النوع الشعريين العربيين وقرارات استخباراتية “خارجية”، من دون أن يدرك واقعاً أن ما يشيعه من أفعال وقرارات عن الغير لا يعدو كونه الصورة الاستخباراتية “المحلية” عما تقوم به هي نفسها في بلادنا وثقافتنا.
7 : مصطفى لطفي المنفلوطي : “الشعر”، منشورة في الجزء الثاني من “النظرات”، وردت في “نظرية الشعر: 3 – مرحلة الإحياء والديوان”، القسم الأول: المقالات، تحرير وتقديم: محمد كامل الخطيب، منشورات وزارة الثقافة السورية، دمشق، 1996، صص 274-284.
8 : عباس محمود العقاد : “ساعات بين الكتب”، دار الكتاب العربي، بيروت، 1969، ص 92.
9 : Roman Jakobson : ‘Linguistique et poétique’ , in : « Essais de linguistique générale », 1963 , éd. de Minuit, Paris.
والتوقف خصوصاً في الصفحات: صص 213-222.
غير أن توصلات رومان جاكوبسون النقدية – على أهميتها – لم تف بالمراد، بدليل أن اللسانيين اللاحقين تنكبوا عن درس هذه القصيدة، ولا سيما في الستينات والسبعينات من القرن الماضي، لأنهم – على ما أقترح في التفسير – لم يجدوا في القصيدة هذه ما يمكنهم من لحظ “الأنماط النسقية” التي تقوم عليها الشعرية في حسابهم، إذ لم يجدوا أنمطة متكررة في مستوى الإيقاع أو النحو أو غيره بما يتيح التأكد من البنية التي لها أن تكون نسقية بالضرورة.
10: تمثل هذه القصيدة شكلاً “نزاعياً”، حسب الدارس ميشال ساندراس
Michel Sandras : Lire le poème en prose, Dunod, Paris, 1995, p 21.
وهو ما قاله تزفتان تودوروف بدوره، قبل ذلك، في العام 1987، فيما تحدث ميشال ريفاتر في العام 1983 عن “المسارين المزدوجين”.
هذا الازدواج ألقاه منذ تعريفات شارل بودلير لهذه القصيدة: تحدث في رسالته الشهيرة إلى صديقه أرسان هوساي عن إيقاعية هذه القصيدة، فوجد أنها موسيقية من دون إيقاع وقافية، جامعاً بين صفتين متناقضتين فيها: بين كونها “مرنة” و”صادمة”، بما يناسب “تموجات الحلم” و”قفزات الوعي”.
11 : أوجد هذا المتصوف هذا اللفظ الاصطلاحي لوصل ما انقطع، ولفصل ما اتصل، في النظر الديني إلى وحدة الوجود. فالبرزخ يقوم، في ذلك، مقام الجسر أو المعبر الذي يجمع بين طرفين متناقضين ومتباعدين على الأقل. لذلك هو يقوم على المفارقة؛ وهي مسافة وسطية بين النفي والإثبات، بين الواجب والممكن، وبين أطراف ووظائف متقابلة. ويحدد ابن عربي وضعية البرزخ بالقول إنها وضعية “الجمع بين الطرفين بما هو برزخ، فيعلم نفسه ويعلم بطرفيه ما هو به برزخ بين شيئين، فيكون جامعاً من هذا الوجه عالي المقام، وبين فضله على الطرفين” (ج 4، 208). غير أن البرزخ لا يجمع وحسب وإنما يفرق أيضاً: “وكل أمرين يفتقران – إذا تجاورا – إلى برزخ ليس هو عين أحدهما وفيه قوة كل منهما” (م. ن.، ج 1، ص 304).
محي الدين ابن عربي: “الفتوحات المكية”، تحقيق وتقديم: د. عثمان يحيى، وتصدير ومراجعة: د. إبراهيم مدكور، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة، 1985.
12 : تعود بدايات القصيدة بالنثر إلى مطالع القرن التاسع عشر (بين 1822 و1834، وبين 1835 و1846)، حسب أكثر من دارس ومؤرخ فرنسي، إذ اعتبروا أن الشاعر أليوسيس برتران (Aloysius Bertrand) وغيره هم الذي افتتحوا هذا النوع الشعري، فيما اعتبروا الشاعر شارل بودلير هو الذي أطلقها وثبتها، خصوصاً وأنها تحولت معه بين العام 1855 و1869 نوعاًً مطلوباً من شعراء عديدين، وليست بالتالي قصيدة هامشية. يمكن العودة خصوصاً إلى كتاب فنسان-مونيا المذكور أعلاه، الذي يتناول القصيدة بالنثر قبل بودلير.
13 : وما عرفه من أشكال، مثل الموشح والبند والمسمط والأرجوزة وغيرها بقي مقتصراً على الغناء أو على وظائف أسلوبية محددة.
14 : وهو ما أصاب قصيدة التفعيلة بدورها، حيث أن نازك الملائكة وغيرها تعامل معها على أنها “ظاهرة عروضية”، فيما انبنت هذه القصيدة في تجاربها الحيوية، في انبناءات تحتفظ بالتفعيلة وبمجزوءاتها الكثيرة من دون شك، إلا أن هذه الوحدات العروضية والإيقاعية باتت تتحكم أقل، أو ليست هي التي تملي شروطها على بناء الجملة النحوي وعلى تولد المعاني فيها: راجع نازك الملائكة: “قضايا الشعر المعاصر”، مكتبة النهضة، بغداد، 1965، ص 122.
15 : شربل داغر: “الشعرية العربية الحديثة”، دار توبقال، الدار البيضاء، 1988، ص 63-64.
16 : Suzane Bernard : Le poème en prose de Beaudelaire à nos jours, Paris, Librairie Nizet, 1959, réédition 1988.
وهو ما استعاده أدونيس وعرضه في مجلة “شعر” (1959)، وأنسي الحاج في مقدمة “لن” (1960)، قبل أن يعرف الكتاب ترجمته الأولى إلى العربية (زهير نجيب مغامس، دار المأمون، بغداد، 1992).
17 : وقد أسبقته في كتبي ودراساتي بالحديث عن “الهيئة الخطية” للقصيدة، والتي باتت تميزها بعد دخولها في عهد الطباعة الفنية والتشكيل البصري لمفردات القصيدة ومبانيها: راجع خصوصاً: شربل داغر: “الشكل الخطي للقصيدة العربية الحديثة”، مجلة “دراسات عربية”، بيروت، العدد 9، 1978، صص 99-111 .
18 : فيما يتكلم غيري عن “المولد” (générateur)، مثل ميكايل ريفاتر:
Michael Riffaterre : ‘ La sémiotique d’un genre : le poème en prose’, in: « Sémiotique de la poésie », éditions du Seuil, Paris, 1983, pp. 148.
19 : بول شاوول : “أوراق الغائب”، دار الجديد، 1991.
20 : ويفيد التذكير أن شاعرها الفرنسي الأول، ألويسيوس برتران، طلب من مصمم صفحات مجموعته الشعرية أن “يجعل بياضاً (في نهاية كل سطر) كما لو أنها من الشعر (كما لو أنها أبيات نظمية)”، وأن يوفر “فسحات بيضاء بين مقاطع القصيدة (كما لو أنها مقاطع من الشعر اامنظوم)”.
21: يوسف بزي (إشراف) : “داتا”، نشر خاص، بيروت، 2000.
22 : وجب التنبيه إلى أن شعراء مثل أنطوان الدويهي مالوا إلى ما هو أقرب من النثر الشعري، راجع على سبيل المثال: أنطوان الدويهي: “كتاب الحالة”، دار النهار للنشر، بيروت، 1993.
كما يستوقف كتاب شوقي أبي شقرا “سائق الأمس ينزل من العربة” ببنيته التأليفية التي تجمع بين النثر اليومي، السردي، وبين شعرية تتمثل في الاختزال والاستعارية: ِشوقي أبي شقرا: “سائق الأمس ينزل من العربة”، دار نلسن، السويد، 2000.
23 : هذا ما ألاحظه في عدد من قصائد أنسي الحاج (في “القيامة، و”بحيرة” و”الشيطان الأبيض” وغيرها في: “الرأس المقطوع”، 1963، دار الجديد، بيروت، طبعة ثالثة، 1994)، وبول شاوول (في: “أيها الطاعون في الموت”، و”الزهرة-المنجل-الحديقة”، في: “أيها الطاعن في الموت…”، 1974، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت، الطبعة الثانية، 1981) وغيرهما.
24 : ولا سيما في: “ترنيمة للحجرة الكونية”، منشورات مجلة “كلمات”، عدد 10، أسرة الأدباء والكتاب بالبحرين، 1994، و”مدائح”، الكلمة للنشر، البحرين، 1997.
25 : يلاحظ المتابع عربياً، كما في التجربة الفرنسية عند نشأتها، تلازماً يكاد أن يكون تكوينياً بين الصحافة وهذه القصيدة، من أنسي الحاج وشوقي أبي شقرا إلى بول شاوول وعباس بيضون وأمجد ناصر وحلمي سالم ويوسف رزوقة وغيرهم الكثير.
26 : وإن كان لممارسات الحكومات العربية سياسات نشطة بهدف إسكات فئات المجتمع، ولا سيما السيطرة على فئاته المتعلمة، وعلى رأسهم الصحفيون كما الكتاب، ولا سيما الشعراء منهم.
يقول محمد عضيمة: “لاحظوا هذه التحالفات القائمة بين شعراء التفعيلة وبين الأنظمة الثقافية والسياسية السائدة في العالم العربي (…). شعراء قصيدة النثر الأحرار مأخوذون بأنفسهم، مشغولون بفهم واكتشاف عالم جديد (…). لا يمكن لأي سلطة سياسية أن تجير قصيدة نثر واحدة لصالحها أو ضدها. قصيدة النثر مستقلة، حرة، ملك ذاتها”: محمد عضيمة: “ديوان الشعر العربي الجديد: سوريا”، الكتاب الرابع، دار الكنوز الأدبية-بيروت ودار التكوين للنشر-دمشق، 2003، ص 52-53.
27 : عدت إلى مواقع إلكترونية مختلفة، مثل “عناوين ثقافية” و”جسور” وغيرها؛ كما وجبت الإشارة إلى أن بعض هؤلاء الشاعرات نشرن أعمالاً طباعية أيضاً، في دور نشر مختلفة، سواء في الرياض (في دار “المفردات”)، أو في “المؤسسة العربية للدراسات والنشر” في عمان.
28 : وهي احتفائية تجد نسبها في التجربة الكتابية اللبنانية بين سعيد عقل وأمين نخلة، وبعض رجعها البعيد عند شوقي أبي شقرا، وهي الشكل الجمالي المصفى والمثالي لعربية بعض اللبنانيين في “عصر النهضة”.

اترك رد

%d