في شغف الخسارات
إيناس العباسي
انمحاء الرغبات الصغيرة أمام بوّابة الفقد…
الريح التي كانت صديقتي تتلقف كرة من نار و ترسلها في الهواء…لا الكرة تسقط و تنطفئ في مياه النسيان و لا الصورة تتلاشى لتتشكل قوسا من الرؤى.
لا موسيقى أشدّ و حشة من موسيقى المطر المتلازمة مع تساقط رذاذ ناعم من الدم في مدن أخرى بعيدة و أقرب منها لا يوجد …..قريبة قرب حد السكين على رقبة التناسي بعيدة
-لما تقتل أخاك يا يوسف؟
– هو الذي ألقاني في البئر يا أبي …و البئر مظلمة و لا ماء فيها
هنا البئر تتفوّه بنداءات متواصلة و متقطعة بالعطش…
مدّ يا يديك يا يوسف و التقط كلّ هذا الفراغ الدمويّ كله لك
افتح رئتيك على الأصوات المتشابكة أغصانا من اللوعة و التجاهل…
هدى مازالت تركض بعد على شاطئ الفجيعة و تخبط على الرمال الصيفية بنفس الألم :”آه يا بُويا”
مازالت الكاميرا تلاحقها و لا أحد يلتفت,لا أحد ليبكي معها انهمار البحر رذاذ مدفعية …
لا أحد ليبكي جثّة طفلة تُنهش و تحرق –هي و عائلتها-في الفراغ ….
خمسة عشر خريفا كان عمرها :هل نستطيع أن نسمي الربيع المخنوق في أرض تحترق غصبا ربيعا؟
لا أحد ليبكي أو ليتذكر.
الرجل الذي مات بسكتة قلبية أمام التلفاز وهو يشاهد دماء قانا المتدفقة حارة غصبا عنها بدماء قاتل محترف…نفس الرجل يحلم هذا الصباح –في برد قبره- بأن يخنق القتلة و لو في أشد أحلامهم رعبا
هل يحلم القاتل؟
بما يحلم؟ و هل يستطيع أن يكون عاشقا أو محبا لأطفاله بنفس درجة محبة الآخرين( الذين نسميهم العاديين ) لأطفالهم؟
أذكر بعد صورة الممثل محمود عبد العزيز في دور ضابط يمارس العنف على المساجين لكنه لا ينسى في طريق عودته ا إلى البيت أن يشتري ألعابا لطفله…
هل يمتلك القاتل المحترف الذي يمارس لعبة الحرب (/طبعا الحرب في سبيل وطنه دون أي تقييم أخلاقي لدوافع ذلك الوطن) قلبا و مشاعر؟
تنساب الدماء المتفجرة بعنف من وريد الأرض يوميا…
لا ظلال واضحة خلفها
لكن الصورة الثابتة: هدى تركض بعد…
ملائكة “قانا” الصغار النائمون بين ذراعي الحلم و الغفلة يتنهدون بين ذراعي الأرض الباردة
و قيس أعمى…. يبكي بعد ليلاه.
مال الغصن وسقط…
في حالة التحلل،صار الغصن الأخضر ورما في ظهر رجل يدخن غليونه مخططا لغنائمه الجديدة
و الجثث؟
هل يستطيع أو يهتم القاتل بأن يسمي ضحاياه بأسمائهم؟
هل يستطيع أن يرى انعكاس صورته في جسد الرضيعة اللبنانية(ابنة الثلاثة أيام) محنطة في موتها المباغت بيديه الملوثة؟
أم تراه يرى فيها صورة لمجده …جثة يجب المرور بها أو عليها بسرعة للعبور إلى الأخضر الموعود؟
الوقت الآن :انسكاب ،انهمار، ارتفاع الدماء….
الوقت:انكسار البهجة على أعتاب وحشية غير مقنّنة….
لا ليس كافيا تقليم أظافر الموت بطفل أو بأغنية….ليس كافيا البتة.
“قانا” تتنهد من تحت جروحها و تفتح عينيها ببطء ،هدى ترمق المشهد كله بنفس النظرة الموجعة و اللامبالية في نفس الوقت……..
كرة النار التي قد يسميها -“الآخرون” – : القلب، هذه الكرة التي نتلقفها و نلقي بها في الهواء…..لا تحرق أحدا سوانا.