رسائل غسان كنفاني إلى غادة السمان .. الموت من طرف واحد

لطف الصراري

عندما نشرت غادة السمان رسائل غسان كنفاني إليها، احتج عدد غير قليل من الكتاب والمثقفين والشخصيات الأدبية والنضالية على امتداد الساحة العربية ، ولم يقتصر الأمر على هؤلاء فقط ، بل حتى أن الجماهير أيضا احتجت، محبو غسان كنفاني المناضل الأديب والمفكر، واستقبلت غادة – حسب تصريحها– أكثر من مائتي مقالة نقدية كانت قد كُتبت حول ذلك الكتاب، نصفها مؤيد للنشر ونصفها ضد خطوة النشر ( وتقضي الأمانة الأدبية الاعتراف بان بعض المقالات النقدية كان يحمل وجهة نظر تستحق المراجعة الذاتية والنقاش أيضا) تقول ذلك وتشير إلى كلمة الدكتور إحسان عباس الذي اعترض على توقيت نشر الرسائل .
كُتب الكثير وقيل الأكثر في هذه المبادرة الجريئة، حتى أن غادة أصدرت المحاورات التي دارت معها على هامش انفجار ( رسائل غسان) في كتاب عنونته بـ ( محاكمة حب ) . هذا الكتاب الذي تتعدد اهداءاته كتعدد وجوه الماسة الذي كان غسان تمثيلا رائعا لها، فهي تهدي الكتاب – المحاورات الساخنة-:( إلى الذين دعموني في خطوتي البيوغرافية غير المسبوقة ” رسائل غسان إلى غادة” والمليئة بالثقوب لأنها محاولة أولى، وشجعوني بلا تحفظ ، والى الذين وقفوا بتحفظ مع صرختي ضد همجيتنا الأبجدية المتمثلة في إحراق بعض أوراق راحلينا المبدعين في غياب مؤسسة عربية ترعى الميراث الثقافي للراحلين، واهديه أيضا إلى الذين هاجموني ، فقد تتبدل بعض قناعاتهم المتكلسة ) ثم تهديه أولاً إلى:( الذين حاوروني حوله ، ومنحوني الفرصة للتعبير عن وجهة نظري التي لا تخلو من الهنات ككل ما هو بشري) . هذه غادة السمان بعد غادة السمانأن أصدرت كتاب الرسائل ، ولكن ماذا عنها وهي تصدره في ذكرى المناضل الأديب المخلص للقضية . ما يميز غادة السمان بالإضافة إلى جرأة الكتابة وسلاسة الأسلوب وتميز زاوية النظر، تلك الاهداءات التي تختارها بعناية فائقة حتى أن القارئ لا يستطيع فصلها عن المتن – موضوع الكتاب- لأنها في الحقيقة غير قابلة للاجتزاء. لذلك هي تبدأ كتاب الرسائل بمحاولة إهداء: ( إلى الذين لم يولدوا بعد ) وهي نفسها الكلمات التي أهداها إياها ذات يوم وطني مبدع لم يكن قلبه مضخة صدئة، ( والى الذين سيولدون بعد أن يموت أبطال هذه الرسائل) ، ثم بمحاولة تقديم أولى لا يزيد دورها فيها عن مذيعة تبذل جهدا كي تكون محايدة أمام شريط أحداث له طعم المعجزة ، إنها تتجنب ما وسعت رثاءه، بل تشهر صوته على الذاكرة كالخنجر. ويبدو واضحاً أن غادة توطئ لتبرير الخروج من الخاص إلى العام. أما محاولة التقديم الثانية فهي محاولة (الوفاء بعهد قطعناه). وهنا تنطلق غادة كحصان يتحرك ببطء ولكن بخطوات واسعة ، مظهرٌ منكسر و أعماق جامحة ، مقاطع طويلة كلها تبدأ بـ ( نعم كان ثمة رجل يدعى غسان كنفاني ) وجه طفولي وجسد عجوز ، نحيل منخور لا تفارقه ابر الأنسولين . إنها مطلقا لا تعرضه بصورة العاشق القوي البنية ، فغسان لم يكتمل بالنسبة لها كعاشق ولذلك كان هناك آخرون (لا أستطيع الادعاء-دون أن أكذب- أن غسان كان أحب رجالي إلى قلبي كامرأة كي لا أخون حقيقتي الداخلية مع آخرين سيأتي دور الاعتراف بهم – بعد الموت – وبالنار التي أوقدوها في زمني وحرفي …لكنه بالتأكيد كان أحد الأنقياء القلائل بينهم.) ولذلك كانت بعض رسائله تستجديها كثيرا وتوحي بشعور الاضطهاد الذي كان يشده أكثر إليها (وسأظل أضبط خطواتي ورائك حتى لو كنتِ هواءً.. ) وربما كانت محقة بشأن شعورها النرجسي، الفخر بعلاقتها برجل استثنائي بإبداعه ووطنيته رغم عادية مظهره (ها أنا أستجوب نفسي في لحظة صدق وأضبطها وهي تكاد تتستر على عامل نرجسي لا يستهان به : الفخر بحب رجل كهذا أهدى روحه لوطنه وأنشد لي يوما ما معناه:
مولاي وروحي في يده ……….إن ضيعها سلمت يده)
رسائل غسان الملتهبة عاطفة وإبداعا وروحه الوطنية هي ما كان يهم غادة إذاً..!، معقول هذا؟ لا يستبعد ذلك، خصوصا مع كاتبة ذات سقف جمالي سامق و شعور وطني ممزوج بأنوثة سامقة السقف أيضاً. ومع ذلك فهي لا تنسى رجل المواقف الذي ساندها واخذ بيدها في أحلك المحن التي مرت بها، لكنها نسيت أنها وعدت في محاولة التقديم الأولى ألاّ تتحدث عن غسان كثيرا وستدعه يتحدث هو بنفسه عبر رسائله التي قطعت له عهدا بنشرها ذات يوم بعيد كأنه البارحة، (وريثما أحصل على رسائلي إليه فأنشرها ورسائله معا ، أكتفي مؤقتا بنشر رسائله المتوافرة، بصفتها أعمالا أدبية لا رسائل ذاتية أولاً ووفاء لوعد قطعناه على أنفسنا ذات يوم بنشر هذه الرسائل بعد موت أحدنا ) ولكن أربعة عشر عاما لم تسعفها في العثور على رسائله، ولا يبدو- بالنظر إلى الأمانة الأدبية- أنها قد توفرت على أي منها.
يبدأ غسان بالحديث، لكن ليس من خلال رسائله كلها، فقد احترق بعضها – بحسب غادة- في احتراق منزلها ببيروت عام 1976م، وما تبقى نشرته بعد حذف المقاطع السياسية – وهي المقاطع الأهم برأيي- التي لا بد أنها قد حملت جزءا كبيرا مما لم يتضمنه أدب غسان كنفاني.
بضعة عشرة رسالة قال فيها الكثير وبدا فيها متعددا متقلبا قلقا لا يقر له طرف، و كل قارئ رآه بصورة مختلفة، فصورة المناضل لم تعد كذلك عند البعض بسبب (تفاهات العشق والغرام) التي شوهت تاريخه ، وصورة المفكر والأديب تزحزحت قليلا عن طليعة الريادة ، ورآه بعضٌ آخر بصورة أجمل، أكثر إنسانية وأرصن فناً. لقد تساءل الكثيرون لماذا لم تنشر رسائل غادة لغسان، وكأنهم يشكون في مصداقية دعوتها لمن بحوزته رسائلها إليه لنشرها و إظهار الوجه الآخر للحقيقة: (وأنتهز الفرصة لأوجه النداء إلى من رسائلي بحوزته (أو بحوزتها)..نداء أشاركهم فيه محبة غسان وأرجوهم جعل حلم نشر رسائلنا معا ممكنا كي لا تصدر رسائل غسان وحدها حاملة أحد وجوه الحقيقة فقط بدلا من وجهيها ). غسان كنفاني يتحدث عن نفسه، عن تمثيلات الوطن كما يراها وكما هي واقعاً، لكني سأقاطعه قليلاً، سأقوم بدور المترجم الذي يضطر المتحدث للسكوت لبرهة قبل أن يستأنف.

لعلنا بحاجة للتعرف – والكثير يعرف- على الظروف التي التقى غسان كنفاني بغادة السمان والظروف التي سبقت ذلك، فالصبي الذي غادر عكا نازحا مع أسرته إلى الجنوب اللبناني ثم إلى دمشق أصبح شابا يرتاد جامعتها، وهناك التقى غادة لأول مرة، لكن علاقته بها لم تتوطد إلا في بيروت حين كانت مكسورة بموت والدها ومحكومة بالسجن، حينها بادر بمساعدتها بجواز سفر إلى لندن.
لا بد انه كان قد تعلق بها قبلاً، ليس من اجل شيء إلا لأنه رأى فيها تجسيداً حياً لوطن فقده، لأرض زاد تعلقه بها بإقصائه عنها، كان يستمتع بألمه: طفولته التي فقدت ارتباطها المكاني، يفوعه الذي قضاه في صنع أكياس البلاستيك والكتابة أمام المحاكم كي يشارك أسرته الوقوف في وجه شظف العيش، ثم شبابه المشتت بين التوق والحرمان (معذبا وبعيدا عن جواده وقلعته ، يقاتل بكل دمائه النبيلة ، ناجحا في أن يتجنب التلطيخ بوحل الميدان الشاسع . كان يعرف أن التراجع موت ، وأن الفرار قدر الكاذبين، إنه فارس اسبارطي حياته ملتصقة على ذؤابة رمحه، يعتقد أن الحياة أكبر من أن تعطيه ، وأنه أكبر من أن يستجدي، ولكنه يريد أن يعطي بشرف مقاتل الصف الأول. ليس لديه ما يفقده ورغم ذلك فهو يعرف أنه إذا فقد هذا الشيء الوحيد الذي يعتز به فإنه سيفقد نفسه) لقد كان يبحث عن مستقر، لكنه أدرك ألا جدوى من ذلك، فهو محكوم بالفقد والوجود المجرد من معناه، لم يعد لديه ما يخسره: (فذلك هو قدره الذي تتوازى فيه الخسارة بالربح .)،حتى انه اعتاد على تعمد الفقد كي لا يفقد أسلوب حياة نذرها من اجل وطنه. لم يكن تشبثه بغادة السمان لمجرد التعلق بأنثى، وإلا لما ساعدها بالابتعاد عنه إلى لندن، حيث هي بالنسبة له مفقودة إلا من الرسائل التي لم تكن تجود بها بسهولة، انه رجل محكوم بعشق الوطن حين يكون مفقودا ومتعصيا: (سأظل أناضل لاسترجاعه لأنه حقي وماضيّ ومستقبلي الوحيد..لأن لي فيه شجرة وغيمة وظل وشمس تتوقد وغيوم تمطر الخصب… وجذور تستعصي على القلع) الفقد هو الدافع الأقوى للنضال، وربما كان بذلك يصنع مادته النضالية، وطالما الوطن مفقود فلا شيء يمكنه أن يكون البديل(لقد حاولت منذ البدء أن أستبدل الوطن بالعمل ، ثم بالعائلة ، ثم بالكلمة، ثم بالعنف، ثم بالمرأة ، وكان دائما يعوزني الانتساب الحقيقي. ذلك أن الانتساب الذي يهتف بنا حين نصحو في الصباح: لك شيء في هذا العالم فقم.أعرفته؟ وكان الاحتيال يتهاوى ، فقد كنت أريد أرضا ثابتة أقف فوقها ، ونحن نستطيع أن نخدع كل شيء ما عدا أقدامنا ، إننا لا نستطيع أن نقنعها بالوقوف على رقائق جليد هشة معلقة بالهواء). كرس غسان كنفاني كل مقدراته من اجل وطنه ليس لأنه طافح بالشعور الوطني فقط، بل لأن هويته مهددة بالاندثار، ولأنه إنسان لا يتنكر لبشريته، لم يكن الوطن الأرض هدفه الأول، إنهم (الناس)، من يشتركون معه بنفس الغصة ويعلقون عليه آمالا كبيرة: (لا أريد أن أفقد ( الناس) الذين لا يستحقون أن يكونوا وقود هذا الصدام المروّع مع الحقائق التي نعيشها…ولكن إذا كان هذا ما تريدينه فقولي لي أن أغيب أنا . ظلي هنا أنت فأنا الذي تعودت أن أحمل حقيبتي الصغيرة وأمضي …) إن غادة نفسها تقول في محاولة تقديمها الثاني: (سنكتشف في رسائل غسان أن كلاً منا يستطيع أن يكون مهما لوطنه إذا تبع صوت قلبه بلا وجل حتى النهاية وتخلص من الازدواجية بين المشاعر والسلوك قدر الإمكان، فإذا أحب وطنه حتى الموت مارس ذلك الحب سلوكا ، لا خطبا طنانة على المنابر فقط )
نستطيع أن نقرأ كيفما نشاء وندعي كل ما يخطر في أذهاننا من أفكار تجاه غسان كنفاني، ونعمل على إحالات في نواح عدة، ليس فقط فيما يتعلق برسائله لغادة بل في جميع أعماله الروائية والقصصية والمسرحية، ذلك أنه كتب نصا مفتوحا على أكثر من مستوى، لقد وصل صوته إلى الجماهير من خلال أعماله الأدبية وفي الوقت نفسه حظي باحترام ما يعتبر( ذائقة النخبة)، لقد قال عنه محمود درويش أنه ( نقل الحبر إلى مرتبة الشرف).
عندما بدأت في أفكر في الكتابة عن (رسائل غسان كنفاني إلى غادة السمان) كان اهتمامي متركزا على دوره النضالي والوطني، ما يمكن أن يقرأه المرء من هم وطني في رسائل عاطفية لأديب كرس إنتاجه الفكري والعاطفي لقضية وطن مسلوب، لم تخل هذه الرسائل- التي لم نطلع عليها إلا بالقدر الذي أرادته غادة السمان- من هذا الهم الوطني على اعتبار أن في المرأة اقرب نموذج يمكن أن تسقط عليه قضية وطن، غسان فعل ذلك، ولست متأكدا ما إذا كان لزواجه من امرأة غير عربية دور في ذلك. لقد تزوج من (آني): الشابة الدنماركية المتخصصة بتدريس الأطفال التي كانت قد سمعت عن القضية الفلسطينية في يوغسلافيا في مؤتمر طلابي اشتركت فيه فلسطين عام 1961م، ولم يمض العام حتى وصلت إلى بيروت للتعرف عن كثب على الوضع الفلسطيني، والتقت بغسان الذي عرفها على القضية أكثر، وزارت معه مخيمات اللاجئين نظراً لإلمامه بشئون القضية، ولم تمض أكثر من عشرة أيام حتى عرض عليها الزواج. بهذه السرعة اختار غسان زوجته، ماذا يمكن أن نقرأ في ذلك؟ لن أجزم في انه لم يكن يرغب الزواج بوطن، ثم أن (آني) فتحت له آفاق علاقات أوروبية طالما ساعدته في مسيرة نضاله.
أن مسالة المراوحة بين المرأة والوطن في رسائل غسان كنفاني قد تبدو سخيفة بعض الشيء، لكن الرجل كان وطنيا بقلمه الذي يقطر احد طرفيه حبرا بينما يقطر الطرف الآخر دما .
لماذا الأمر يبدو على هذا النحو ؟! الرسالة التي كتبها غسان لأخته فائزة عام 1966م تعطينا ما يشبه إجابة، وتعد الرسالة الأطول بين الرسائل المنشورة: حكى فيها الكثير عن علاقته بجاكلين ومنى وآني زوجته، ثم عادت غادة التي لم يستطع أن يكف عن حبها(أحياناً أنظر إلى عينيها وأقول لنفسي: ينبغي أن تكره هذه المرأة التي يروق لها إذلالك على هذه الصورة ، ولكنني لا أستطيع) ورغم أن الرسالة كتبت لفائزة إلا أنها في الحقيقة تخاطب غادة بضمير الغائب، كان مجروحا منها، عاملته باستغباء وكانت اقوي منه، بل أنها كانت توحي له بضعفه: (تراها سألت عني؟ ذلك لن يكون إلا إذا كانت تريد أن تراني معذباً، أو تريد أن تنصحني تلك النصيحة التافهة : اذهب إلى بيتك باكرا) وعندما هاتفها ذلك اليوم طالبا رؤيتها ردت عليه بفظاظة وأخبرته أنها عائدة إلى البيت(إنني أدفع معها ثمن تفاهة الآخرين..أمس صعقتني ، مثلاً، حين قلت لها أنني أرغب في رؤيتها فصاحت: أتحسبني بنت شارع؟)، ثم تفاجأ أنها خرجت للسهر برفقة صديق،(ثم هتفت لها فأبلغتني أنها كانت تشرب نبيذاً، وأنها كانت تسهر مع صديق…وسألتني: لماذا تأخرت؟). كان ذلك جرحا إضافيا جعله يحتسي كاس كحول لكل صفحة من صفحات الرسالة حتى تعطلت كتفه وراح يطل من على حاجز الروشة ناسيا لأول مرة إبرة الأنسولين، وبعد الشروق عرج على شقتها ليسلمها الرسالة ويمضي.
إن من يقرأ هذه الرسائل يجد نفسه معنيا بمحاكمة غادة السمان، فالقيمة الأدبية فيها تغيب عن الذهن أثناء القراءة، لأن شعورا إنسانيا يتصاعد إلى درجة التفكير بقيادة مظاهرة تطالب بسحل المرأة التي طالما استمتعت بتعذيب رجل غمرها حبا. لكن بالنظر إلى القيمة الأدبية أظن أن الشعور بالذنب قد دفع غادة لإنصاف غسان المبدع الفنان. لذلك لم يكن من مبرر للاحتجاج على نشر الرسائل، غادة حاكمت نفسها وإن بعد فوات الأوان، ومن ناحية أخرى، لو لم تكن فظة في تعاملها لما أبدع مثل هذه الرسائل وبهذه القوة. لقد كانت غادة ذكية بشهادة غسان وشهادة نفسها أيضا وربما رجال آخرون وكان هو غبيا حين لم يتوقف عن حبها حتى وان كانت رديفة للوطن، الوطن الذي استشهد متأثرا بحبه.( إننا تافهون حين يضحي القرار متعلقاً بنا .)

اترك رد

%d مدونون معجبون بهذه: