آمال عواد رضوان … الكتابة بشرط الاستعادة!!

علي حسن الفواز

لا يمكن ان تكون القراءة النقدية الاّ محاولة في استعادة تامل النص،، النص المفتوح والمصمم والموحي ، لان هذه القراءة ستسعى الى تفكيك التماسك الظاهري في النص والبحث عن الأبنية الخفية والعميقة فيه،،تلك التي تتجسد عبر تلوينات بصرية او هيجانات حسية ، حتى يبدو وكأن النص يفقد خاصيته المعلنة ومباشرة ليتحول الى مجموعة سيرورات باثة لطاقة داخلية تكون هي الحاضنة والمشرعنة لكل التصادمات الدلالية في النص وربما هي المسؤولة عن كشف المعنى الذي تلاحقه الكتابة دائما عبر استعادة الذات او الطبيعة او المحبوب ..
وازاء هذا اجد ان اغلب نصوص الشاعرة الفلسطينية امال عواد رضوان في مجموعتها الشعرية (بسمة لوزية تتوهج) تتماهى مع هذه الاستعادة التي تتكفل باعطاء نصوص المجموعة سياقا حرا تسعى من خلاله الشاعرة الى توسيع فكرة الاستعادة تلك عبر استمالة الحسي والجسداني والتماهي مع تقنية غنائية تعتمد الوصف الشعوري المكثف و المتورط بالكشف عن الكثير تفاصيل التجربة الحسية وترميزها ، ومنحها ايقاعا داخليا مصمما (جوهر الغنائية ) وكأنه المجس الرغبوي الباعث للتدفق او ربما هو تعويذة سرية للارتواء وبيان الانشاد العاطفي الذي يتماهى مع نداء ألاخر الحاضر عبر صور ومناخات حسية وايروسية متعددة…
ان ما تفصح عنه الشاعرة هو افصاح وصفي يتوالد في لغة بسيطة مشوبة بهوس الرغبة ،رغبة البحث ،رغبة الاكتشاف ،رغبة الاستحضار ،رغبة اللذة ، اذ تكون اللغة هي مجموعة اشارات تستفز الذاكرة ،وتستفز الجسد ،وتجعل من لعبة الاستعادة المجازية محاولة في الانشداد الى انزياح الاستعارة الذي يبدو مكشوفا امام ازدحام التفاصيل الشعورية ومناخات الاحساس المفرط في نزوعه الاستعادي ..

احنّ الى حفيف صوتك
يندلق
نسيما رطبا في معابر روحي
تجمعني قزحاته اضمامات فواحة
تزدان بها منابر مسامعي
***
اشتاقك
ايها المجنون
الى مالا نهاية صوتك
اشتاقك

ان تكرار الاشارة الصوتية (صوتك) هي اشارة تعويضية تقابل غياب الحضور والتشخصن، وهذا ما يفترض اقتراح السياق الاستعادي ليكون بمثابة البنية المهيمنة التي تحرك المحتوى الاشاري ،وتكنح بنية الصوت مجالا تعويضيا يجذب اليه الكثير من البنيات الثانوية ..
ولاشك ان هذه النزوع البنائي يفترض له تراتبا وتركيبا يجعل من المجموعة وكأنها قصيدة واحدة كتبت تحت اغواء الاستعادة مثلما هي حاملة لطاقة الاغواء الحسي او المزاج التي يطبع احساس الشاعرة وهي تجعل من اللغة ترميزا ودلالة واحتواء اشبه باللغة التي تسلل الى الذات المهووسة بالاخر ،تستحضره في توليفات صوتية مكررة او مناخات تختزن طياتها توهجا خفيا هو توهج الشاعرة ذاتها وهي تستسلم الى ما تكتشفه من صور ودلالات ثانوية واستمالات تتجوهر فيها الروح والجسد المسكونان بهاجس الاستدعاء وفرش التفاصيل توقا الى ارتواءات تعويضية ..

آثار قلبك دعني ارممها
اجدد ماء حدائقها
اجعلها ورودا
نتراقص بينها شغفا
وتسبح قناديلي في
جداولها الشهية

تكرر الشاعرة هذه الخاصية (خاصية الاستحضار) حدّ الحلول فيها ،لانها تمنحها احساسا حادا بالامتلاء واستيعاب ما تفور به الرغبة من تهويمات تخفي في جوهرها قلقا وجوديا هو قلق الفقدان ،لذا هي تحاول ان تخفي هذا القلق عبر استحضار الاشارات الايروتيكية واشارات الخصب كدلالة مقابلة لفكرة الحلول عند الصوفية ، لان هذا الشعور التعويضي هو المضاد لبنية الفقدان المضمرة في حدوس غير معلنة ،،نجد مقابل (اثارقلبك) وهي صور استذكارية اذ هي تشيء بثنائية مفترضة للحضور والغياب عبر صور (آثار) وصورة (ارممها) ،صورا اخرى (هو صدرك بيدري) وهذا التقابل الصوري يكشف عن شبق حسي ولغوي مثلما تتوالد عنه رغبة في التوحد والتبادل تجسدها البنية التساؤلية،

أتكون دفين انصهاري
حبيس أنويتي
أتقبل بكينونة جديدة
لاتحررها الاّ براكيني

ان ما يتحكم في اغلب بنى القصائد/ النصوص احساس عميق بالاسى ،تستفز من خلاله الذاكرة المعادية للصمت ، فهي تعاين ذاتها من خلال الاخر (مصدر الاسى واللذة )و الذي تستله بدءا من بنية الاستهلال(اليك ،حيث انت ،فيّ ابدا) وانتهاء باعادة استحضاره عبر سيولة من التفاصيل والصور والاتساع الذي يخل احيانا بايجاز الشعرية!! اذ تنحاز الشاعر هنا الى هذيانها المصمم ،هذيا ن الرغبة ،هذيان التدفق والتوليد اللغوي المدجج بالاستعارات، وكأنها عبر هذه الشراهة تؤكد الحضور الرمزي وتؤكد نزعة سايكولوجيا الامتلاك مثلما تؤكد ايضا طاقة البقاء التي تؤنسنها عبر تحقق العديد من الترميزات الموحية بقوة التملك والباثة لسياق التوافق الحسي ..
في قصيدة ( في مهب رصيف عزلة) تحاول الشاعرة ان تكشف عن رمزية فقدانها ،اذ هي الانثى الموغلة في آهاب رغباتها وتيقنها بانها لن تستعيد الاّ صورتها في المرآة،، صورة المرأة الانثى وليست المرأة الوجود ، اذ هي التي تندفع الى الاستعادة لانها محكومة بالحب والتوحد واللذة والتبادل ،والمرأة الاخرى محكومة بقانون الطبيعة ..تنحاز الشاعرة الى نموذجها المتعالي والانوي والمهووس والمشخصن في عقدة المرآة ،وتجد عبر خساراته وفقدانه احساسا متعاليا وباطنيا يجعل من مشاعرها المضطربة والقهرية استبطانا لاجتراح لذة داخلية/ استمنائية وعداوية هي سر ما يمنحها التدفق والتوحش واستعادة الحياة والحب ولو رمزيا…

آه
ما شقاها المرأة
حين تساق مقيدة الرغبة
الى زنزانة احلامها المستحيلة
كأن الشوق يرمي حوريات الاحلام
في سحيق هاويتها..
يهجّن ولادات رهيبة
يتركها اجنّة حب على ثدي انتظارها
قد اكون ارهقتك بضجيج فكري
بضوضاء قلبي
اشعر بالذنب
حينما ارجمك بابر احاسيسي
وما من ذنب اقترفه
سوى ان تتكبد جريمة حكمي
احسّ براحة غريبة
حينما اوقع بك قصاصي
بلؤم ابله..

تكتب الشاعرة امال رضوان تحت ايقاع هذه المشاعر اللجوجة ، تغرق لغتها بغليان من الصور المحتدمة وحدوس الروح المتوجسة ،(البنية الصوتية) تمثل فضاءها الذي تستغرقه كبنية استحضارية متدفقة ،اذ يكون الصوت هو الناقل لوجعها الداخلي ونفورها ومزاجها القهري مثلما هو مجسها الذي تتلمس به الخارج بكل ما يمور به من احلام ورؤى وتوهجات وفقدانات والتي عادة ما تترك فراغا مريعا !!! الصوت هنا هو لجوؤها الفارق والمدهش والباطني ، تغلف ايقاعها بنبر خفي يتجاوز احيانا بنيته النثرية ليكشف عن ايقاع اللغة ذاتها ،ايقاع التوتر ، تصادم الرؤى ،وتعاكس الاحاسيس،حتى تبدو اللغة هنا اشبه بالمصد الذي يحتك بالتباسات الخارج المرثي !!اذ تصنع له الشاعرة كتابة في الرثاء ،وتجعل من ذاتها المرآوية فضاء لحيوات ضاجة تكسر ايهام الزمن واغترابه ،حيث ينطلق هذا الزمن من الماضي ليستحضر حاضرا لا هوية له سوى انه حاضر الجسد المكتنز بالنداء واستجلاب المحبوب الغائب والغائم كنوع من الايهام برغبة التعويض او الترميم واحيانا تكون الكتابة استغراقا في رثاء الجسد ..
ومن هنا تضع الشاعر قصيدتها امام لعبة اغواء متواصل ،لعبة في استغراق الحياة ،لعبة في الانفلات من المرارة ،كتابتها نص الاستعادة هو محاولة للهروب الى الامام ، دفعا لاستعادة قوته في الشهوة والاشباع ،واستئثارا بكتابة هي الاقرب الى كتابة المزاج ،اذ تكون الشاعر امام شراهة انويتها وحيدة تنحاز الى آخر يشبهها لاخصوصية له سوى ان يتدفق ،يطلق عصافير اشباعه ونشيده المباح .. ولاشك ان هذه القصيدة / النص تفترض لغة صاخبة لاتسلل باطمئنان الى الخارج ،لغة غير مشبعة ،انشطارية ، لازحمة في نظامها الدلالي، مفتوحة على شفرات الجسد وانشغالاته وحدوسه ،حيث يكون الجسد هنا هو الحاضن الاشكالي الذي يلفسف ازمة الكائن في وجوده وفي عشقه وفي استمالته وارتواءه..الشاعرة تطلق العنان هنا لهذه اللغة المتدفقة دون مواربة لانها على يقين انها تكتب لغتها وتنزاح الى استعاراتها الحسية التي لاتفلسف علاقتها مع الاخر ..لذا هي لغة محتوية لانوية الشاعرة ،حاضنة لقلقها وندائها وبوحها وتوحدها واعترافها !!!

ياوحشتي فيك وعليك
ان تلتحم اكوان كلفك بضلوع جناني
أأقول
لاتدن من مروجي
فما اخضرار بتلاتي سوى سراب
يخلب لحاظ القلوب
ويفتن مجسات العقول….

ان قصيدة(انفض الغبار عن متحف فمك) تمثل قصيدة اعتراف موجع،تمارس فيها الشاعرة اقصى رغباتها في التصريح عن مكنونها وانهماكها باستعادة الاخر اللذوي والاشباعي ازاء توهمات حرمانها وفقدانها ،وهذا التقابل الحاد يضفي على شفراتها اللغوية نوعا من التعبيرية الحادة التي تتكثف اصواتها في صوت واحد هو صوت الانثى التى تمارس اغواءها القديم بمواجهة ذاتها/جسدها/ حريتها اولا قبل الاخر الذي وضعت الشاعرة/الانثى فمه في المتحف ،وهنا تتوهم استعادته دائما عبر اصطناع لعبة حضورية افراغية، تفترض فيها اشارة (نفض الغبار) كنص مضاد للمتحف الذي يؤطره السكون مثلما تتوهم المروج كعلامة مضادة للسراب ، وتتوهم ثنائيات اخرى تتزاوج فيها رغبات الشاعرة المحتدمة ..
ان شعرية امال رضوان هي شعرية كفاية الحلم كما يسميها ابن عربي !اذ هي تستدعي وتستحضر سيرة فقدانها حتى تبدو وكأنها مروية حلم له نشوة الابتهاج وله قسوة المكاشفة ،وهذا الانجرار الحسي يجعلها اكثر ايغالا في تلذذ الكشف ،وتحويل جسد الاخر الى سطح لتدوين هذا الكشف الذي تتكثف مشهديته في نص فسيح /توصيفي لا قاموس له سوى الرغبة ولا امتداد له اللحظة المكثفة المتوهجة التي تمنحها الشاعرة استعادة مكررة ..

هو ذا القلب خاشع
راكع في محراب الاعتراف
يتمتم في صمته الصاخب
يامن ترجمني بوابل
من قبلات
لاجمل اقتراف

ان نصوص الشاعر لاتحتمل التأويل و لاتهرب بعيدا عن المعنى !! لانها محمولة على كتابة موجعة وحلمية ومباشرة احيانا ،تفرش قماشتها اللغوية بنوع من التوثب الذي يلامس روح انوثتها النافرة والقلقة ، هي تكتب نصا في استدعاء الغياب بكل ما يختزنه هذا الغياب من ترميزات واستعارات والذي يحمل شفرة الاخر بكل توهجه وخوفه وخذلانه ..
وجدت نفسي اتسلل مع قصائدها وكأني ابحث عن نهاية هذا الاسى وهذا الصحو في هذه اللعبة الماهرة داخل كيمياء الجسد واللذة والتي تختمها الشاعرة باستعارة نداء (ايها) وهي اشارة للحضور الملتبس الذي يكشف عن ادوار تبادلها اياه الشاعرة الحرمان والنشوة والجنون وحتى الهذيان !!

ايها القادم من رحم الحرمان
مدفوعا برياح النشوة والهيام
تخشى افتقاد اللحظة
تحلّق في روائع الجنون
خشية ان تصحو من عبق الهذيان ..

اترك رد

اكتشاف المزيد من عناوين ثقافية

اشترك الآن للاستمرار في القراءة والحصول على حق الوصول إلى الأرشيف الكامل.

Continue reading