النقدية العراقية: مغامرة الكتابة وفداحة الاسئلة !!!!

علي حسن الفواز

قد تبدو تسمية النقدية كمفهوم نظري، مقابلا اصطلاحيا لتداول مفهومي الشعرية والسردية ، اذ شكّلا هذان المفهومان مجالا اشكاليا واسعا في التعاطي مع انماط القراءات الفاعلة للنص الادبي ! باعتباره خطابا أي كتابة تم تثبيتها في صيغة ما !قال بول ريكور ، سعيا باتجاه وضع هذه المفاهيم نوعا من التحديثات الاجرائية في اليات القراءة وفي صناعة القارىء المتعدد الضمني والقارىء التقليدي والقارىء العمدة! والذين يشكلون تقسيمات في مباحث الاشتغال النقدي ..واذا كان لنا تجربة شخصية في فضاءات هذه النقدية فانها تنطلق في جوهرها من هذا العمق النظري والمناهجي الواسع الذي وضعنا في صلب عملية اجرائية تنحو في البحث عن خصائص وابنية ومستويات معينة للنصوص ،مثلما هي وضعتني بمواجهة مشكلات كبيرة ،تجعلني دائما في امام سيولة دائمة من الحراك والبحث والتأسيس …..
كنت من جيل يؤمن النقد فن متعالي وان الناقد هو الصانع الاستثنائي الاخر للنص ،بعيدا عن الاشاعة التي كانت قول ان الناقد شاعر فاشل !!!! وهذه المسؤولية اخذتني الى اغواءاتها كثيرا ،وفرضت عليّ شروطها القاسية احيانا… فالثقافة الراقية خلال مرحلة الثمانينات كانت تعيش مخاضات معقدة ما بين التشكلن في اطار ثقافي جديد ، وتقعيد افاق الحداثة الثقافية بضيغ عالي من التنظير ،ومابين واقع مازال يعيش ارتكاساته وازماته ،ناهيك عن تجاذبات الحرب الدامية التي اخذت شطرا مهما من (الثقافية) باتجاه صناعة مثقف (مقاوم) ومثقف(مسلح وعدواني) وهذا المثقف المترض بحاجة الى تاريخ!! وبحاجة الى جاهزية والى اكاذيب عالية ايضا ،،،كل هذا العبث والتجاذب كان مطروحا بقوة امام اجندة الناقد !!لذا اكنت امارس شخصيا مغامرة الهروب الى اعلى بحثا عن خلاصات شخصية وبحثا عن خلاصات للنصوص التي اقرأها وللاسئلة الثقافية المعرفية والفلسفية والنقدية التي كنت اواجهها….
ان النقدية الاجرائية التي كنا نعمل بها كانت بحاجة الى فضاءات النظرية النقدية لانها كانت المخيلة المحرضة وكانت الصندوق السحري الذي انقذنا من تاريخ طويل من النقدية الانطباعية المهيمنة باشكالها واسماء ابائها المعروفين …..
ان جيلنا النقدي كان جيلا من المتسائلين المدهشين !! جيلا من المغامرين الباحثين في فداحة الاسئلة العامة عن اسئلتهم الشخصية ،وهذا ماجعل كتابتنا اكثر قربا من المشغل النظري واكثر شراهة في البحث عن ما يضمره الجسد الثقافي من انوثات طاغية …..
ان النقدية وفق هذا التوصيف تضع مشغلها ليس لوضع تقعيدات متعالية في اطار النظرية النقدية وانما اساسا لبيان الضرورت الجامعة التي تدخل في صلب التحول الاشكالي والمناهجي والاجرائي الذي حدث في انماط القراءات والمفاهيم التي اسست للنص الادبي …
ان تاريخ النقدية العراقية وبيان اتجاهاتها في الاجندة المعاصرة ابتدأ مع ملامح المغايرة الجديدة التي رافقت الكتابات المثيرة للجدل في الشعر والقصة !! اذ وضعت هذه الاشكال النقد امام استحقاقات غير مألوفة وغير متداولة رغم شيوع بعض الانماط الكتابية في هذا المجال خاصة عند نهاد التكرلي في مجال النقد الوجودي وعند على جواد الطاهر وجلال الخياط في النقد الانطباعي وعند مهدي المخزومي في النقد اللغوي ،،وما لحق بهم من جيل اخر اكثر تمردا واكثر اغواء في البحث عن اشكالات اخرى في قراءة النص الادبي كما في مغامرات النقاد عبد الجبار عباس وشجاع العاني وفاضل ثامر وياسين النصير وعلي عباس علوان وغيرهم … ولكن التأسيسات الفاعلة للنقدية العراقية في اطارها العلمي و النظري كان اكثر حضورا وتأسيسا مع بداية الاهتمام بالطروحات والمفاهيم النقدية الجديدة في بداية الثمانينيات خاصة مع الاهتمام بدراسة الالسنيات ونشوء مفاهيم جديدة في الاطار الاشتغال اللغوي ، والبنيوي و بيان الانساق الجديدة في الاتجاهات الاسلوبية الجديدة التي جاءت مع الترجمات الواسعة للاشكاليات المعرفية الجديدة والتي طرحها النقد الغربي في لحظته التنويرية ، والتي وردت الينا مع الترجمات المتعددة والواسعة والتي وصلت متأخرة كالعادة رغم تعدد نسخها وتشوه تعاطيها مع بعض المفاهيم والمصطلحات بشكل عام ..
ان هذه التحولات اخذت مدياتها الواسعة في شرعنة فضاءات جديدة للنظرية الادبية مع مجموعة من التحولات الكبيرة الحادثة في انماط الثقافات والنظريات الادبية والاجتماعية واللغوية والتي وجد فيها النقاد العراقيون مجالا لاعادة النظر بالكثير من ادواتهم ،رغم ان اغلب النقاد ابدوا عزوفا عن الكثير من مقاربة تطبيقاتهم النقدية ،، لكنها رغم ذلك اثرت المشغل النقدي العراقي بالكثير من الفاعلية النظرية والاجرائية ،واسهمت في توسيع مديات الحراك الثقافي عبر نمو ظاهرة تعدد القراءات ، والتعاطي مع (سرانيات ) الجسد النصي بعد تاريخ طويل من التابوات !! فضلا عن نشوء ظاهرة الترجمات التخصصية ،و ومحاولة نقل هذا الدرس الى المؤسسة الاكاديمية التقليدية رغم محدوديته فيها ورفض العقل الاكاديمي الرسمي تبنيه كشكل من اشكال الانتاج والدرس الثقافيين في المناهج المقررة ..
ولاشك ان السعي الى تكريس مفاهيم (النقدية) في انتاج الفعل الثقافي انعكس ايضا على نشوء اتجاهات ومواقف تجاوزت ماهو تقليدي وانطباعي وتأثري في ثقافتنا النقدية ، باعتبار ان النص الادبي لم يعد هو النص السهل والمباح والقابل للشرح على طريقة المعلقات !! بقدر ما هو بنية واسعة تتكشف عن مجموعات لامتناهية من العلاقات والمستويات ، وهذه المكونات لايمكن التعاطي معها داخل بنيات النص دون اضاءات و دراسات وقراءات معمقة ،عززت وجود الناقد كمنتج آخر للنص ، واعطت للنقدية قيمة اجرائية في كونها محاولة حية في تفكيك البنيات المغلقة في النص ..واعتقد ان من ابرز ما اعطته النقدية الجديدة في تعدد اتجاهاتها هو المقاربات العلمية والموضوعية في قراءة الزمن والمكان والاسلوب في النص ، وقراءة المنهج وحقوله المتعددة وتوظيفاته في الكشوف الدقيقة للبنيات النصية المكشوفة والمضمرة او كما يسميها البعض البنيات العميقة والبنيات السطحية والتي تعكس اهتماما خاصا بالنص باعتباره البنية المتكاملة كما يقول الناقد حاتم الصكر ..
ان تجارب النقاد العراقيين رغم هذا التوسع النظري وتعدد الترجمات لاتشكل للاسف قيمة (انتاجية) تذكر !! لاسباب بعضها يتعلق بانشغال اغلب النقاد بالجوهر النظري للنقدية والتعاطي مع تأسيساتها المفاهيمية في ضوء ما تبثه ترجماتها الواسعة في مظانها النظرية ،مقابل ضعف بيّن في اعتماد مشاغل هذه النظرية في (الاجراء النقدي) وقراءة التجارب العراقية في ضوء ما توفرده من ادوات وامكانات ، باستثناءات قليلة جدا امثال د .مالك المطلبي ، ود, شجاع العاني ،ود. عبد الله ابراهيم، ود. حسن ناظم ،و فاضل ثامر وناظم عودة وسعيد الغانمي .. وبعضهم الاخر يرتبط بنوع من الحساسية ازاء التعاطي مع النص الجديد ،اذ عمد هذا البعض الى اعادة قراءة النصوص التاريخية والنصوص التقليدية في ضوء اشكاليات هذا المشغل النقدي كما فعل د. مالك المطلبي في قراءته لابن حزم القراطجني ،و وتكرار دراسته للفضاء الشعري لبدر شاكر السياب عبر تطبيقات المنهج البنيوي علي قصيدتي السياب (غريب على الخليج و انشودة المطر ) او كما فعله فاضل ثامر في دراسته عن العالم الروائي لفؤاد التكرلي وكذلك قراءات الناقد حاتم الصكر لبعض الحكايات التاريخية والاسطورية ،مع تغافل واضح للكثير من النصوص الشعرية والروائية والقصصية الجديدة التي اعتمدت التجريب في كتابة ابنيتها وثيماتها ،،وكأن هؤلاء النقاد لجأوا الى نصوص (مستقرة) في الذاكرة خشية ان تخونهم ادواتهم الجديدة او يفقدوا شيئا من كارزميتهم داخل المجتمع الثقافي ….
ازاء هذا نجد ان دور هذه النقدية الجديدة في متابعة ما انجزه المبدعون العراقيون هو هامشي وربما في جانب منه استعلائي ،اذ انها تمحورت حول اعادة انتاج الكثير من قراءة الظواهر المكرسة في مشهدنا الثقافي في الشعر والقصة والرواية فضلا عما هو مكرس في تاريخنا الثقافي ،، وكلنا يتذكر مهرجان المتنبي الاول وكيفية انغمار النقاد في اعادة قراءة المتنبي كظاهرة شعرية ميتا معاصرة !! وهذا ليس عيبا ،،لكن اهمال اللحظة الزمنية والتعاطي مع سيولتها وما تتركه من أثر هو العلة الجوهر التي انعكست فيما بعد على توهان الظواهر الثقافية في المشهد العراقي وسوء اداء النقاد في متابعتهم لحراك هذه الظواهر الثقافية !!!
ان الاعتراف بخواء الاجندة النقدية العراقية لا يعني ان النقاد العراقيين كانوا بعيدين عن متابعة يوميات المشهد النقدي ،لكن غلبة الرأي الانطباعي والتأثري وشيوع اثر (الايديولوجيات) على انتاج الخطاب النقدي هو الذي اسهم في تكريس ما يمكن تسميته بالنقد (الواقعي السهل) ذات المرجعيات والتصورات المؤدلجة ،،ولعل الحراك النقدي الفاعل ابتدأ مع حركة الترجمات (الممنهجة والمنظمة) لحداثات الادب الاوربي ومناهجه وارائه التي كنا نصنفها قسرا تحت خانة(الادب البرجوازي) !! واعتقد ان هذه الطفرة الترجمية او الصدمة الترجمية بمعنى ادق هي المحرك والمهيج للخروج من تابوات النقد الواقعي والانطباعي ، لان الفضاء الترجمي قد نقل لنا زمنا ثقافيا مهما وكبيرا وتأسيسات معرفية وعلومية دخلت الى جوهر الجسد الثقافي واعطته الكثير من عوامل الخصب والحياة ، واحسب ان الترجمة بعد انقلابها المعرفي تحولت الى نمط مهيمن في ثقافتنا وربما اصبحت له استقلاليته الخاصة في الاجندة الثقافية والاكاديمية …
ومن هنا نجد ان الاشتغال النقدي الجديد اصبح جزءا من حراك الثقافات الكوني وتجريبها التوليدي لانه اربط بحراك الوعي الانساني ونمو انجازه الحضاري ، ولاشك هذا الاشتغال ارتبط بتقاليد اكاديمية صارمة باعتبارها (المختبر) والمدرسة التي تؤسس وتسوّق الخبرات الثقافية وهذا التقليد معمول به في اغلب جامعات العالم ،اذ نجد ان الالسنيات وطروحات دوسوسير وعلومه اللغوية و(البنيويات ) وتأسيساتها واغلب مدارس النقد الجديد والفكر المعرفي خرجت من الجامعات الفرنسية والامريكية مثلما كانت الفلسفة قد خرجت من الجامعات الالمانية ،وحتى المدارس الحداثوية وما بعد الحداثوية اقترنت باسماء نقاد وباحثين هم في الاصل اساتذة جامعيين امثال رولان بارت وفوكو ودريدا ودولوز وغيرهم.
وهذه الصورة تبدو غائمة في واقعنا الاكاديمي تماما اذ ان المشغل الرسمي في الاكاديمية الثقافية العراقية مازال تقليديا ومغلقا وطاردا لاغلب الاتجاهات التجديدية في النقد والعلوم الثقافية المعاصرة ،وان الجهود التي يجترحها بعض النقاد / المدرسين هي جهود شخصية وذات مرجعية ثقافية خاصة …
ان التعاطي مع اشكاليات التحديث النقدي هو التعاطي مع الزمن الثقافي ،لان التنمية الثقافية هي تنمية كليانية تبدأ بوعي الضرورات ولا تنتهي عن قيم الاقتصاد الثقافي وآليات صناعة المشروع الثقافي وتسويقه او تكريسه في المعاملات الثقافية والمدرسية ،فضلا عن ذلك ان جوهر الحراك الحضاري المعاصر يقوم بالاساس على وجود الثقافات النقدية والمثقفيين النقديين ،وهذا كله يعزز توجهاتنا في ان نسعى الى شرعنة مفاهيم النقدية وبرامجها داخل البناء الثقافي باعتبار ان النقدية هي العلم بشجون النقد وشؤونه ،وهذا العلم يقتضي التأسيس والمعرفة وتأمين الشروط الدراسية والفكرية والمعلوماتية والمادية والتي من شأنها ان تجعل هذا العلم حيا وقابلا لاداء مسؤولياته في النوير الثقافي والعلمنة الثقافية …

اترك رد

اكتشاف المزيد من عناوين ثقافية

اشترك الآن للاستمرار في القراءة والحصول على حق الوصول إلى الأرشيف الكامل.

Continue reading