محمود درويش في ” لا تعتذر عمّا فعلت ” أو … الكتابة في مربع الدائرة !!
يحيى هائل سلام
بقدر ما توحي به دلالية الشكلية الهندسية في عنوان هذا المسار الرؤيوي المكتوب من محدودية أفقٍ وتموضعات تكلسٍ وإغلاق بقدر ما سيكشف – لا حقا – الانغماس في لعبة المفاهيم عن شكليةٍ وجوديةٍ داخلية جديرة بالتمايزية في فضاءات الوجود المتعدد للعالم ..
و إلى أن يحدث ذلك فلنذكر بصرخة الفيلسوف ” هيدجر “:” لا أحد يفكر لي كما أن لا أحد يموت بالنيابة عني ” لندعي من خلالها أننا لسنا بصدد التفكير للكتابة الشعرية ولكنه رهان المتوقع من اللغة الشعرية في ديوان الشـــــــــاعــر محمــــــود دوريش الأخيـــــــــر ” لا تعـتـــذر عمــــا فعـــــلت “اقترافه والتلميح إليه من وجود يمضي بنا نحو محاولة تتغيا تجربة الموت ليس بالنيابة عن – ولكن – مع .. مع النص – الديــــــــــوان .
على أنه لا ينبغي للقول برهان التوقعات أن يستثير ” ريفاير ” فيسارع هذا الأخير إلى تسجيل اعتراضه وإطلاق تحذيراته الناطقة باسم هيبة النص كونه سيبدو اعتراضا غير مبرر ِ وتحذيرات في غير مكانها باعتبار أننا بصدد رهان يتأسس على المفاجأة في تعدد احتمالاتها والتي في الغالب ما تبدأ ملامح أكثرها حضورا بالتمظهر من خلال إيماءات العتبة الرئيسية للنص والتي قد تكون العنوان ..
تلتقينا أول ما تلتقينا في العنوان ” لا تعتذر عما فعلت” ” أنا ” متكلمة غائبة شكليا ولكنها فائقة الوعي حدَّ اقتناء أدوات لغوية صارمة بمستوى ” لا الناهية ” وتوظيفها فعليا غير ممكن التحقق إلاّ لذاتِ واعيةِ وجودها بل ووجودها الداخلي في مقابل الآخر الشخصي الذي يعثر عليه في سياق العنوان ” النص ” أقول لآخري الشخصي ” على ما في ذلك من إشارة إلى وعي تمييزي أكثر عمقا يقول لنا كم هي باهتة تلك القراءات النقدية التي وجدت في العنوان مسرحا للتطبيقات النحوية أفضت إلى اختزال الفضاء الشعري وتأطيره في أفعال الزمن الماضي على خلفية التصنيف المنطقي للزمن في أبعاده الثلاثة وبدلالة الفعل ” فعلت َ ” الذي سيكتشف بعد عودته من الغلاف إلى حياته الطبيعية في بيئة النص أنه كان قد أسقط من حساباته عنصر المفاجأة التي تنتهي إليها عملية الحفر في الطبقات الذكرياتية وهي الاستثناء ” لا تعتذر إلا لأمك ” الذي بطبيعته يجعل الزمن مجرد احتمالات تعكس إمكانية الاختيار المتاحة لذات أثبتت ليس وعيها فحسب وإنما قدرتها على التحول بالوعي من مجرد حالة داخلية إلى ممارسة تبدأ بالنهي وتتخطى افتراضات النهايات بالاستثناء وبالتالي قدرتها على اختيار وتعيين زمنها الخاص الذي قد يكون أزمنة في واحد ..
يعني هذا فيما يعني أن الوعي التميزي بالوجود الذاتي والذي سيلازمه بالضرورة وعي تعييني بالزمن وللزمن هو رهان المتوقع – المفاجأة – في شكلها المتحقق شعرياً والذي يعد مفترقا ً بالنظر إلى انشغال واشتغال الشاعر /محمود درويش منذ وقت طويل وفي كتابات عديدة على الذات/ الآخر والزمن ملمحا إلى ذات تنساب في تموجات الآخر وتتداخل في التباسات الزمن بما يظهر من طريقة ذاتٍ في الوجود أقرب ما تكون إلى محاولات الوعي به التي بالضرورة سيصحبها اختلاف في الشكل وتنويعات في الصورة من نص إلى آخر دون أن يعني ذلك تحولاً في طريقة الوجود ولكنها اشتراطات التموضع فنياً في السياقات الشعرية التي لا تحتمل العمل بصيغة الأثر الرجعي في علاقة الدال بالمدلول..
بمعنى أوضح وأدق فأن ما يبدو بلوغ الذات الآخر والزمن ذروة الحضور الكثيف وتحديداً في ” الجدارية ” يحكي وضعية ذاتٍ في حالة من التشظي والتوزيع على الآخر المتعدد وصولاً إلى وضعية ” الأنا المتوسطة ” ضمن فعلٍ بالغ الإسراف في مراوغة الزمن والالتفاف عليه كإحدى مقتضيات المواجهة مع الموت ..
على الرغم من لمعان المقارنة وكل إغراءاتها فلن ننجر وراءَها وبدلاً من ذلك سنرى كيف أن تخطي العتبة الرئيسية للديوان ” لا تعتذر عمَّا فعلت ” يمضي بنا نحو امتحان الصيغ الواقعية والمفترضة للوجود ضمن مواجهة حتمية مع التباسات الزمن تتوافر على قدرِ ضروري من الوضوح اللازم لإعلان الزمن عن نفسه مواقيت أو انعكاسات أثر يتعمق الإحساس بها منذ الوهلة الأولى من قراءة مختارات التصدير الشعرية للديوان ….” لا أنت أنت ولا الديارُ ديارُ ” لأبي تمام , ” والآن .. لا أنا أنـا ولا البيت بيتي ” للشاعر لوركا ..
ما بين الأقواس أبعد من مجرد وعي ٍطارئيٍ بتحولات كينونية طالت الذات / الآخر ـــ المكان فكانت المماثلة .. أنها حالة من الوجودية الخالصة تحيل إلى وعي أشبه بخيط في نسيج التحولات ما أمكنه من لملمة المتماثلين في إفصاحات الزمن عن كينونته باعتبارها مصدر تلك التحولات أو لنقلْ الإحساس بها ولعل هذا ما يقول به صراحة ” توارد خواطر , توارد مصائر ” وهو السياق – النبع الذي انسابت منه مختارات التصدير للديوان بما تنطوي عليه من دلالات وعيٍ قادر على الكشف والتمييز ليس لما هو واقعي فحسب بل ولما هو افتراضات وجودٍ بديل تتكشف من خلال النص ” لو كنت غيري ” على ما فيه من بشارة بصيرورة الشاعر اثنين ” أنا … وغيري ! ” وهي البشارة المضاعفة الدهشة على الرغم من تحققها سلفاً “كم أنتِ أنتِ ..وكم أنا غيري أمامك هاهنا ! ” ولعل ذلك بسبب ظهورها بالصورة التوكيدية في حين أنها في الحقيقة وجود مفترض وواقع احتمالي ..
الأجدر بوعي ٍ على هذا القدر من الكشف عن الغيرية الاحتمالية في الكينونة الأحادية أن يكون قد تجاوز الوجود الغيري في الكينونة على المستوى الثنائي وهو ما يمكن العثور عليه بمجرد التقليب العكسي لصفحات الديوان عودة إلى النص الثالث بعد الثلاثين:
” هو هادئٌ , وأنا كذلك
يحتسى شاياً بليمون ,
وأشرب قهوةً ,
هذا هو الشيء المغاير بيننا .. ”
لنكن جريئين بما يكفي لمغامرة المواصلة حتى بلوغ مستوى معيناً في متوالية النص على ما تبدو فيه من انعطافات والتواءاتٍ خطيرة :
” أدندنُ لحن أغنية ٍ,
يدندنُ لحن أغنية ٍ مشابهةٍ ,
أفكر : هل هو المرآة أبصر فيه نفسي ؟..”
كل هذه المشابهة سندعي أنها حالة متقدمة من الوعي بالذات ولا ينبغي في المقابل أن تشير إلينا أصابع الاتهام بممارسة الإكراه .. ذلك أن تعيين المشابه في سياق تعيين المختلف يصبح في حد ذاته خلفية داعمة تعزز من الثقة باكتشاف الشيء المغاير وتزيده وضوحاً إلى حد يسول للوعي إمكانية خداع الشبيه وبالتالي الخلاص من المشابهة وهو ما كان قد أخذ في التمظهر شعرياً من خلال النص ” الظل ” الذي شأنه شأن أي خصم لا يمكن أن تخوض مواجهة التحرر منه قبل أن تستوعبه ضمن تعريفٍ ما :
” الظلُ , لا ذكرٌ ولا أنثى
رماديٌ , ولو أشعلت فيه النار ..”
بعدها تبدأ المناورة في اتجاه الخلاص :
” قلت : أخدعه و أخلع معطفي الكحلي ِّ ..
غير أن الذات الواعية وجودها لن تعدم مكيدة للإفلات والخلاص:
” فقلتُ : إذن , ساتبعة لأخدعهُ
سأتبع ببغاء الشكل سخريةٍ
أقلد ما يقلدني
لكي يقع الشبيه على الشبيه فلا أراهُ , ولا يراني . ”
بهذه المكيدة المؤكدة على حالة متقدمة من الوعي بالوجود يكون قد حان الوقت للانغماس في لعبة المفاهيم حيث تتأتى – لكن – مع حذر شديد استعارة مفهوم ” الماندالا” كما هو عند عالم النفس السويسري ( ك. غ. يونغ ) نموذجاً مثالياً للتطور النفسي أعطاهُ البعض في طابعة التنظيمي شكل دائر ةٍ يتوسطها مربع أو العكس .. أنه عند “يونـــغ ” ” رمــز الكــلية ” ..
ما نريده بهذه الاستعارة هو المرادف للذات في بلوغها تلك الحالة المؤكد عليها من الوعي بالوجود على المستوى الشعري
في ” لا تعتذر عما فعلت ” وهذا المرادف هو بلوغ الكلية ما يقدم صورة للكتابة تبدو فيها عملاً في ومن داخـل مربع الدائرة ..
ما من شكٍ في أن مثل هذه الاستعارة تضعنا في مشكلة حقيقية مع “يونغ” الذي يظل مفهوم ” الماندالا” – رمز الكلية في تصوره الهدف النموذج المثالي مما اقتضى بقاء العالم النفسي عند ذلك القدر من ضالة الأمل في بلوغ ولو وعي تقريبيٍ بالذات – أي الكلية ..
في تصورنا فأن ثمة خطأٍ خافٍ وراء الأمل الضئيل وهو أن “يونغ ” الذي تنبه إلى ضرورة التمييز بين ” الفردانية ” و ” التحقق الفردي “- تحقيق الذات وقع في مصيدة الخلط بين هذا الأخير و ” وعي الذات ” حين جعل كليهما مرادفاً للآخر دون الالتفات إلى ما يتضمنه ” تحقيق الذات ” من نمو محكوم باشتراطات المعطى الخارجي وأحدها التواطوء بهدف التكيف والاندماج الذي بدونه لا تتم عملية القبول المتبادل وهذا على العكس من ” وعي الذات ” الذي حين لا يؤكد على خصوصية مفترضة فليس لأنه طرف في مقايضة من نوع ما وإنما لأنه لا يؤسس رهاناته الوجودية على توقعات الرد بالمثل بسبب أنه في الأساس يتموضع خارج اشتراطات الدور وهذا ما يجعله يتمثل مستوىً افتراضيا معقولاً من الحيادية اللازمة للتأمل الذي هو جوهر التعرف والاعتراف وما بينهما الوصف و التعيين :
” من حسن حظي أنني أمشي على جبل ٍ
وأنظر من علٍ
نحو الغيوم … ”
إذن فتصحيح الخطأ يكون بالفصل بين التحقيق والوعي وفقاً لطريقتنا في حل المشكلة التي لم تتضمن خلافاً مع ” يونغ ” حول السبب الذي يعيد إليه ضآلة الأمل وهو تعقيد المادة غير الشعورية وبالتالي تمنعها عن الرضوخ للوصف والتعيين فهذا أمر بديهي وتحديداً عندما يأتي الوصف والتعيين للمادة غير الشعورية من خارجها – لكن – ما هو الحال عندما يأتي الوصف والتعيين لما هو غير شعوري من داخله وبواسطة إحدى أكثر بناه فاعليـة من حيــث الـقدرة على احـتضان الوجود …
ما نعنيه بذلك هو اللغة و اللغة الشعرية على وجه التحديد أولياً بوصفها مادة وطريقة عمل وثم في صيرورتها من خلال التموضع في النص الشعري أسلوب وجود تتوافر فيه مقومات الوضعية الآخرية حيث يبدو ذاتاً معنية بتفاصيل رابطة اللاوعي المتبادل ومن ثم محصلات هذه العلاقة الطوعية التي كلما حاكت التوقعات من جهة النص بالنسبة للمتلقي كلما تأكدت أن الطرف المبادر في العلاقة – النص واعي وجوده الذاتي ومعنى هذا أن “لا تعتذر عما فعلت ” كفعل كتابة شعرية .. كنصٍ شعري مكتوب هو تلك الذات البالغة رمز الكلية .. المتوسطة مربع الدائرة ..
من حق القارئ –هنا – أن يفرغ شحنات الصدمة بالسؤال :
وأين المؤلف ؟!!
” نمتُ لكي أطير ”
بالطبع فليس هذا هو الجواب عن السؤال ولكنة الانشغال الضروري عنه إن لم يكن بطريقة النوم وتفاصيلها فبالطيران المرادف لتخريج النص- إطلاق المعنى عبر سيرورة التحولات التي تتمعنى فيها اللغة ذاتاً ليس على حساب ذات ولا لأجل ذات وذلك لسبب بسيط هو أنها تمتلك معنى ينم عن معرفة لا تدعي أنها العالم ولكنها – الهاء عائد للغة – في المقابل لا تكف عن المفاخرة بوصف الفيلسوف “هيــدجر ” لهــا بأنــها ” بيت الوجود ” وبالتالي يصبح المعنى وعياً بشكل من أشكال الوجود وطريقة في فهم العالم :
“تطير بي لغتي إلى مجهولنا الأبدي ،
خلف الحاضر المكسور من جهتين : إنْ
تنظر وراءَكَ توقظْ سدوم المكان
على خطيئته … وأن تنظر أمامك توقظ
التاريخ ، فاحذر لدغة الجهتين .. واتبعني .”
لكن – إلى أين ؟! .. سؤال لا طائل منه طالما والشاعر – لن نقول يتماهى مع لغته بسبب المسخ الذي طال مفهوم ” التماهي ” على أثر تعاطي النقد الأدبي معه بمنطق استهلاكي جعل منه ما يشبه الوجبات السريعة – لذلك سنلتفت إلى ” جادا مر ” ونأخذ عنه مفهوم السيطرة لنقول طالما والشاعر يسيطر على لغته بمعنى أنه يحيا داخلها .. يتيح لها نطق موضوعها فهي الناطقة من خلال ولم تعد مجرد المنطوق الأداتي متجهاً نحو الخارج في مسار تأديته لدور الوسيط الذي لا تقبل اللغة أن تكنه لأن لها عمل تقوم به :
” خارجي داخلي
كلما ضاق سجني توزعتُ في الكل ،
واتسعت لغتي مثل لؤلؤةٍ كلما عسعس
الليل ضاءت / ”
قطعياً ..فليس بمجرد التكلم – الكتابة تضيء اللغة التي لا بد لها حتى تضيء من أن تقول – ليس الحقيقة عن الحقيقة – وهذا لا لمجرد أنه غير ممكن في تصور ” لا كان ” ولكن لان قولاً من هذا النوع محكوم بأسبقية المعنى وبالتالي المصير بينما ما لا بد للغة أن تقوله حتى تضئ هو ما تقولـه ذاته وعلى هذا النحو فأنْ تقول اللغة معناه ُ أن تكشف وتكتشف في آن واحد .. تكشف عن ممكن هي كائنه الآن وتكتشف ممكنات هي حالات وأساليب وجود لا أقل ولا أكثر ..
إنه امتياز المعنى المشار إليه للسيطرة والذي لا يتحقق إلا لوعيٍ مطمئن إلى لا وعيه وأكثر من ذلك يثق به وهو ما يستحيل امتحان تحققه إلا بتوافر الاستعداد المبالغ فيه إلى حد ممارسة فعل القدرة على المكاشفة في مستواها الداخلي الذي هو مستوى من الغموض يقبل القسمة على اللغة الشعرية باعتبار طابعها التمويهي اللازم للمكاشفة و الضروري للوصول :
“طريق يسد على الطريق
فيصرخ بي شبحي :
إن أردت
الوصول
إلى
نفسك الجامحة
فلا تسلك الطرق الواضحة !”
تلك السيطرة الناجمة عن امتحان المستحيل تبقى حيوية بقدر ما هي في حراك مستمر أساسه الطابع التمويهي للغة وبراعتها في مواصلة إ غراء الذات المسيطرة بمتعة اللعب التي لا تكون لمجرد التسلية وإنما في سياق اجتذاب الخارجي نحو الداخل حيث تتم إعادة تخريجه من موقع الوسط في مربع الدائرة وفقاً لاشتراطات اللغة التي ليس من بينها الإخلاص لان هذا ضد اللعب وهذا على الرغم من احتفاظ الذات المسيطرة بشي من الجدية أثناء اللعب غير أنه لا يتوقع منها أن تكون إلا جدية الاستغراق في اللذة وليست جدية الأخلاق التي سوف تعني إعادة إنتاج الخارجي بما تنطوي عليه هذه الجدية من تــــحول باللغة إلى مجرد مادة للعب على ما في ذلك من نقض لبنود معاهد السيطرة تجابههُ اللغة من جهتها ليس بالتمرد إلى حد القطعية وإنما بالتمترس اللحظي في الوضعية الصامتة :
” لم يبق في اللغة الحديثة هامش ُ
للاحتفاء بما نحبُ ،
فكل ما سيكون .. كان ”
غير أن محاولة نقض معاهدة السيطرة ليست وليدة اللحظة أو أنها الحلقة الأخيرة في مسلسل العلاقة فيما يعرف بقوس النهاية بل هي رغبة حاضرة على امتداد مفهوم السيطرة يفسرها قلق الوجود الذي يحتد بحدية الوعي بالوجود وليس العكس على الإطلاق ..
من هنا تتبدى تلك الرغبة في حضورها مكوناً أساسياً من مكونات العلاقة باعتبارها خالق ضمان الاستمرار من خلال فعلها التحريضي للغة على عدم التراخي والدفع بها نحو التمسك بحقها في القول كما تشاء لمزيد من الدهشة التي هي ودون غيرها جوهر العلاقة وضمان الاستمرار ..
بهذه الصورة وعلى خلفية ما هو تفسير لتلك الرغبة يمكن مقاربة حالة الضيق بالاسم في تخليه عن صاحبه وصيرورته ملحقاً بالنص ومدلولاً لسيرورة اللغة :
” أما أنا فأقول لا سمي : دعك مني
وابتعد عني , فإني ضقت منذ نطقت
واتسعت صفاتك !
“…….”
اختارك
الآباءُ كي يتفاءلوا بالبحث عن معنى .
ولم يسألوا ماذا سيحدث للمسمى عندما
يقسو عليه الاسم , أو يملي عليه
كلامه فيصير تابعه .. فأين أنا ؟”
لن ننتظر من الآباء إجابة عن سؤالٍ لم يسألوه فالقساوة ما ثلة في تحسس الذات وجعها وهي تكتشف في وجودها الخارجي خديعة الاسم الذي بات واضحاً في عيون الآخرين أنه كان طوال الوقت يعمل لحساب الغير – النص – اللغة :
” ويحملق الطلاب في
إسمى غير مكترثين بي , وأنا أمرُ
كأنني شخصٌ فضوليٌ ”
ومرة أخرى فإن الذات الواعية وجودها لا تعدم حيلة للالتفاف على خديعة الاسم والتخلص من وجع الاكتشاف معبراً عنها في النص ” لا أعرف اسمك ..” الذي هو في مضمونه حوار استفهامي مع الأنثى أساسه السؤال عن الاسم الذي ينتهي إلى إجابةٍ واحدة من كلا الطرفين على اختلاف المفردات فسؤال الشاعر الأنثى عن اسمها يأتي جوابه (( ” أنا لا أحد” )) كما أن جوابه لسؤالها لـه عن اسمه هو (( “أنــا لا شــيء “)) ..
هذه الحيلة في غاياتها المتوخية إنقاذ الذات من التلاشي والذوبان في اتساع صفات الاسم مأخوذة عن بطل ” الأوديسية ” الميثولوجي ” عوليس ” الذي وجد في التجرد من الاسم طريقة في النجاة من ” الككلوبوس ” المارد أوحد العين الذي ما أن سأل ” عوليس ” عن اسمه حتى أجابه بمكر “لا أحد”وبهذا فأن رفاق “الككلوبوس ” عندما يسألونه عن سبب زئيره فإن جوابه ” أيا رفاقي , لا أحد يقتلني غيلةً وليس بأساً ” عندئذٍ يطمئن رفاقه الككلوبيون إلى أن لا أحد يقتله فينصرفون وينجو ” عوليس ” !!
” جوزف كمبل ” وعلى ضوء ذلك رأى في ” عوليس ” شخصية لا سلطان للأنية عليها استطاع أن يجتاز عبرها حارس العتبة الكونية في مقابل ما نراه وعلى ضوء ذلك في الشاعر محمود درويش ذاتاً لا سلطان للاسم في اتساع صفاته عليها تحبذ ” من الأسماء أقربها إلى النسيان ” ربما لتعاود رحلتها نحو الداخل وقد تحررت من ثيمات الوجع وتوتر المخدوع حيث في انتظارها لغة على استعداد تام لمعاودة العمل تحت سيطرة ذات هي منها وفيها بما هي عليه من امتياز الوعي بالوجود ..
وإنها لأحدى المفارقات العجيبة أن تصبح السيطرة عبئاً على المسيطر الذي من حسن حظه أنه لا يستشعر العبء بصورته اليقينية الجارحة إلا في وجوده الخارجي وتحديداً في رؤيته للنص التي تصبح مغايرة بسبب حضور المتلقي ما لو حدث أثناء سيرورة العمل الكتابي لكانت الكتابة الشعرية على موعدٍ مع النهاية وربما – بل المؤكد – أن الأمر ليس مجرد حسن حظ بقدر ما هو حالة التحرر التي هي عليها الذات في وجودها الداخلي أثناء سيرورة اللعب – الكتابة ضمن مسار العلاقة باللغة حيث ” هناك ما يكفي من اللاوعي كي تحرر الأشياء من تأريخها ” ولعل هذا ليس من شيء آخر سوى النسيان :
” ماذا سيبقى من كلامك أنت ؟
نسيانٌ ضروريٌ لذاكرة المكان !”
في تصورنا فأن ” لا تعتذر عما فعلت ” هو ذلك النسيان الضروري .. النسيان الذي لا يطاله إلاّ وعيٌ حادٌ بالوجود أمكنّ اللغة من أن تشق طريقها نحو النطق بما تشاء من نقطة الوسط في مربع الدائرة !!