قصائد .. نصار الحاج

قهوة

إفتقدتُ
صديقتي التي تعانقني
كلما سألتها
عن مقدار شهوتها
لفنجانِ قهوةٍ على شارع النيل
ذات صباح معتم
تركَت حقائبها
على مقاعد الركاب
وغاصت في النهرِ
بكامل زينتها
نامت في القاعِ
مثلما أشتهت
مثلما كتَبَت قصيدتها
تحت ضوء الصواريخ التي تحوم في الهواء
بكى الموج
بعدما خارت قواه
وهو يدفعها صوب الشاطئ .
قبل أن تغادر
قرأتْ أوجاعها في الطريق العام
كأنما ترسل تراتيلها
لآلهة الرِّيح المنبوذين
وسافرت بحقيبة القلب الملأى بأورام غربتها الطويلة.

الغريب

أسيرُ
في إتجاهٍ ما
الجهات
مغلقة بالتدابير التي فرّختها الحرب
الليل
أيقظَ الريح
الغرفة
أوصَدَت نوافذَها
البيت الذي كان مأهولاً بالأصدقاء
تصدّعت أبوابه
صار مأوىً للعناكب
والطير
والحيوانات الشريرة
صار الشارع
يقود إلى مقبرة الأطفال
مُوصدٌ أمام العربات
التي تَصْدرُ من نوافذها
ترانيم الصَّبايا في ليالِ العرس
صار الشجر
ماوىً للطيور المرضى بفيروس الأنفلونزا
والمزارع قاحلة
نَفَقَتْ على أرضها الهَوَام
صرتُ هيكلاً أتمشى فوق ظلٍّ قصير
الحائط المتهالك
يترنَّحُ قريباً من عجوزٍ تُصافحني
تريدُ ماءً وخبزاً
يُضيئان شهوتها الأخيرة في هذا النهار
رأتني في ظهيرة الحرب
أسير في إتجاهٍ واحدٍ
ألعنُ الموت الذي يسير في الطرقات
أمسح الليل من نوافذ البيوت
والخوف من شوارع الصغار
أسير في إتجاهٍ ما
لساعةٍ يكف فيها الموت
عن رهانه الغريب .

عشب الليل

ليلاً ..
يأكل عُشْبَتَهُ
يُرمِّمُ فراغات
خلّفَتها رياح البنت التي هجَرَتهُ
يسير على طرقات الحانات
يحكي لأصدقائه
عن زاريا …
تلك التي أشبعتهُ لذّةً خضراء
بعطشٍ ساخر
يمزِّقون قمصانهم البالية
يغتصبون فتاةً
تهزُّ مؤخرَتَها لأصحاب السيارات الفارهة.

زاريا
التي أرهقتهُ بشهواتِ الغانيات
جائعة كانت لرغيفٍ أسمر
في الصباح
ذهبت تبيع قصّتها الأخيرة
لصحيفة الحوادث التي يشتريها المراهقون
بينما خجلاً
لا يشترينها المراهقات
يستعرنَها من شقيقاتِ المراهقين
ليقرأنها في نهاية الإسبوع
حينما تذهب العائلة للتسوق من متجر البلدة القريب.

أحزان الوردة

وردةٌ
قرب نافذتي
تتأمل الشارع الحزين
وأصوات الصِّغار الهاربين
من قذائف الهاون
ذَبُلَتْ
الدخانُ
أرهقَ أطرافها
أيقظها
لتعيش حالة الموت
تماماً
كما يفقدُ الشارع ألوانه
والأطفال بالوناتهم
والأرض رائحة التراب.
سقطت الوردة
تحتَ أقدامِ الرصاص.

من أفلام الطفولة

السرير
الملاءة
أبواب الغرفة
النوافذ
كائنات الشارع
بخور الشهوات
كلها شاهدة على بكارة العروس
تتمزق في الربع الأخير من الليل
وهي تصرخ على مسرح الغرفة
ذات الشباك المُطِل على الشارع.
كنا صغاراً نقف على النافذة
بالثقوب الصّغيرة
نشاهد فيلماً ساخناً
لا يخلو من عراك
البنت مثقلة بوصايا الجدّات
منجذبة بشبق الصديقات
والعريس
متعجل
ليهدر أيقونة الشرف .
يدرك أننا نتلصص من ثقب الشباك
لكنه يتجاهلنا
يريدنا شهوداً لفحولته
وكالات أنباء لسرد ليلته
كيف يشدُّ شعرها
كيف يُعرِّيها
كيف يفتح ساقيها
كيف يتلذذ بصراخها
كيف يكتم انفاسها
كيف يبلل منديله الأبيض
كيف كان قاسياً وشرساً وهو يلتهمُ فريستهُ ليلة البارحة.

عشاء

بينما
كان الضوء منزوياً
كرائحة الطعام على بيوت الجوع
عبرتُ مسرعاً
دخان ذلك المقهى القديم
على آخر الطريق
طفلتان
وعابر يسيرُ مثل سنجابٍ أليف
الرصيفُ فارغ
كأي شارعٍ حزين
والظلامُ قادم كثوب راهبةٍ عجوز
على حافةِ المكان – بلذةٍ لامعةٍ
وجدتُ كومةً سوداء
من طعامِ حفلةٍ أقامها هواةُ الرّقصِ آخر الإسبوع
بخفّة الهارب من وكرِ الظلام
أسير مسرعاً
كأنما أطير عالياً
أشطفُ الغبار من قطعة الخبز
وشرائح الموز التي بللتها المياه
أختبئ في زاويةٍ أنهكتها دموع الغرباء
أفض جوع يومي اللعين
أعود ذابلاً لسيرةِ الخراب والضياعٍ
لشارعٍ يبيعُ وقته لصبيةِ الطريق
لعالَمٍ فقير
أسيرُ تحتََ حاجةٍ لرقعةٍ تسدُّ ليل حزنيَ الرّهيب
هكذا عشاء
وجبة واحدة كل يوم
تمنع الموت بالجوع الأكيد
تُدمي الروحَ والأمنيات برعشةِ الموت البطئ.

الباب الأخير

الباب
مغامرة على أوتارِ الفراغ
كائنات قليلةٌ
تعرفُ الطريقَ إلى الغرفةِ البيضاء
هنالكَ برفقةِ القمر الوحيد
نوقظُ الليل
والمساند
والفوانيس
والمياهَ في خزائنِ الكائنات
البابُ الذي يفتحُ
العشبَ نحو نافذة الشّمس
ينمو كشجرٍ
يوفِّرُ الظلالَ والأوراقَ للرعاةِ في سهل الكلام
يسير على ضفاف الماء
مثل دعاشٍ خفيف على خدودِ العاشقات
يمسح قطرات البخار بشرائحِ الورق الرهيف
هو البابُ الاخير
البابُ الذي يكشفُ الكونَ في ساعةِ البيت
الباب الأخير لسيدةِ الأبنوس
وهي تمسك الساكسفون
والبيز جيتار والطّبل والكمان
لحفلٍ صاخبٍ في الليل
الباب ظلّ مفتوحاً
على بهوٍ عريضٍ في القصر العتيق
يمرِّرُ الهواء مثل نافورةٍ في وسطِ القلب
لنشربَ أكوابَ الفاكهةِ
وشاي الصّباحِ
مغمورينَ بصندلِ الغاباتِ
وموسيقى الجّاز
وبنات الأدغال يرقصنَ عاريات
كأنّما يزرعن المزامير في صخر الجبال .

خيول

العرين مكتظ بحيواناتٍ
غسلتها السماء وهي تئن بين أقفاص خانقةٍ
صنعها حدّادون برفات السّيخ
الذي خلّفه الإنجليز تحت طوب السرايات
كائنات يركبها طلاب كلية الشرطة منتصف النهار
لذلك تبدو كارهة لهذه الياقة الخضراء
بين أقواس الإسطبل
تجوع
تعطش
تصهل
يزجرها الخفير بلعنة بارزة الشتيمة
لكنها نكاية بهؤلاء جميعا
تقذف مخلفاتها خارج القفص .

مهاجر

يدخل الغريب
أوسع من غابةٍ مداهنةٍ
تلوّن الغيم
في العتمة الأخيرة من شجر الليل
يحزمُ الموسمَ
في حصاةٍ تهرش الضوء
على سبابة الطير الحزين
يذرع الشوارع
سيجارةً
تلو مقهى حافل بالحنين
يبيع الدخان للفقراء
بنكتة سخيفة عن غرق الزوارق في المحيط
مثل أوراق تطفّف النشيد في عرس الدلافين
يا لهذا الغريب
ينامُ على شرفة الرّيح
خائفاً من صهيل الأمهات في الحلم البعيد .

شيخ

يستظل
بأوراق شجرة الحراز
العربات مسرعة
يحيِّهِ البعض
والآخرون
يرون في وحدتهِ وحشة اليُتمِ
يغني بمزامير القصب
تماما مثل أصوات اللّواري
ورعاة الغنم
يعشق المكان بذات التفاصيل النادرة
بيوت من القش هجرها السكان
بئر وحيدة تعاني في جلب الماء من قاع البعيد
تسعون عاما
وشجر الذكريات ينمو
تحت نجم الروح .

فراغ

أقرأ الجريدةَ
وصوتُ الصغار الغائبين
يرنُّ في الصّالةِ بألعاب متخيلةٍ
ومشاكساتٍ
ما زالت آثارها
تلطخ الحائط والستائر
وكراسي الأطفال …..

في الواقع
لم أكن أقرأ شيئاً
كنت ساهياً ألملم سيرة الصغار
كمن يقرأ أخباراً عاصفة .

اترك رد

%d مدونون معجبون بهذه: