خطوات نحو سينما سعودية

خالد ربيع السيد

2006

ثمة ما يلفت الإنتباه الى الأفلام السعودية القليلة التي أنتجت في غضون الثلاثة سنوات الأخيرة والتي تبشر بازدهار هذه الصناعة وتناميها ، خاصة وأن المشتغلين على إنتاجها ينطلقون بحماسة وخلفية ثقافية جيدة ، وإن كانت هذه الخلفية قاصرة على المستوى النظري ولم تتجاوزها الى التراكم التجريبي العملي .
غير أن الإرهاصات ،أو ما يمكن تسميته ببواكير السينما السعودية، بدأت مدركة لمحدودية إمكاناتها ، مما جعلها تتجه لسينما التسجيل والتوثيق والسرد الروائي القصير ، ورغم ذلك فقد نالت بعض هذه الأفلام الجوائز وحققت إشادة النقاد في بعض المهرجانات العربية والعالمية . . فمنذ قيام المخرجة “هيفاء المنصور” بعرض فيلمها التسجيلي القصير الأول ـ 7 دقائق ـ المعنون بـ ( من ؟ ) في عام 2003 والذي أنتج بإمكانيات مادية متواضعة وبكلفة لم تتجاوز 1000 دولار ، وبإستخدام كاميرا فيديو منزلي مدمجة الصوت . . منذ ذاك الوقت والحديث عن قيمة الأفكار والمضامين التي تطرحها تلك الأفلام الواعدة يتخذ الأولوية في تناولها النقدي ، فهي تؤسس لحضور متميز من الممكن تحقيقه.

بيد أن الوقوف على التجارب السينمائية السعودية التي تحققت قبل سنة 2003م، يجعلنا نقول أنها بدأت بمحاولات منفردة ومتقطعة منذ العام 1977م ، وكان أولها قيام المخرج “عبدالله المحيسن” بتقديم فيلم (اغتيال مدينة) في مهرجان القاهرة السينمائي الثاني، وحصوله على جائزة أحسن فيلم قصير عنه . . وكان بمثابة معالجة تسجيلية لأحداث الحرب اللبنانية، تميزت برؤية سينمائية منطقية بعيدة عن إثارة النعرات الإقليمية ، وبرعت عدسته في إلتقاط مشاهد معبرة عن رفضه للعنف والحرب والدمار في لون من الرثاء لمدينة بيروت التي أحبها.

وفي العام 1983 قدم المحيسن فيلم (الإسلام جسر المستقبل) ـ 50 دقيقة ـ جسد فيه صورة العالم الإسلامي في نهاية القرن العشرين ، وذلك في 900 لقطة سينمائية مدعمة بالوثائق عن أهم القضايا الإسلامية والتي تمت منتجتها وفق ثيمة الإسقاط التاريخي على الراهن (حينذاك ) .. وبرز الفيلم في مجمله كدعوة إلى الوحدة العربية الإسلامية البعيدة عن الإيديولوجيا الغربية أو الشرقية ..
واستمر المحيسن ـ 59 سنة ـ في عزفه المنفرد ، فصاغ بأسلوبه الخاص فيلم (الصدمة) الذي تناول خلفيات إحتلال الكويت ثم حرب الخليج في العام 1990م . . ممثلاً إنعكاساً لما يدور في وجدان الإنسان العربي والذي أصيب بـ “صدمة” هزت الكثير من المفاهيم والقيم الراسخة لديه .. عايش المخرج بشخصه الأحداث ، ووثقها بكاميرته المحايدة التي لم تكن تسعى إلى إدانة شخص أو نظام أو دولة بعينها ، وإنما حثت على البحث والتفكير فيما يجب عمله تجاه ما حدث ، ثم محاولة محو المسببات التي شوهت الوجه الحضاري للأمة العربية .
في بداية العام 2006م كانت الخطوة الحقيقية للمحيسن في تقديم ما وصف بأول فيلم روائي طويل لمخرج سعودي : ( ظلال الصمت) ـ 110 دقيقة ـ دارت أحداثه إبان مرحلة ما بعد الاحتلال الاميركي للعراق عام 2003 ، وأسند بطولته لمجموعة من الممثلين السعوديين والعرب منهم : عبدالمحسن النمر ونايف خلف من السعودية ، وغسان مسعود ومنى واصف من سوريا ، ومحمد المنصور من الكويت ، سيد أحمد أقومي من الجزائر . .وغيرهم ، وكتب موسيقاه التصويرية زياد الرحباني . . ناقش الفيلم أزمة الإنسان العربي وعجزه في مواجهة نظام متسلط يوظف أساليب التكنولوجيا لإحكام السيطرة على العقل وعزل فكره . . يحدث ذلك في صحراء نائية داخل مبنى أشبه بالمعهد العلمي الذي يبدو ظاهرياً كمركز للعلاج المتقدم المهتم بالتأهيل وتنمية القدرات . بينما في جوهره هو معتقل يقوم بغسيل واحتواء الأدمغة بأساليب متطورة . . يوضح الفيلم طرق استقطاب العلماء والمعارضين السياسيين والمفكرين المستقلين سواء بالقوة أو بالخداع ، وتغيير أفكارهم . . الأحداث تتواتر في مسارات فكرية ونفسية معقدة تتم في ظلال من الصمت والتعتيم .. كما تتشابك الخطوط الدرامية في تصاعد حتى تأتي لحظة الخلاص على يد جيش عربي ( …. ) واقتحام المعهد وإخراج المفكرين المحتجزين . . لينتهي الفيلم تاركاً للمشاهد قدراً كبيراً من التفكير والتأمل.

إن المتأمل لأفلام المحيسن يجد أنها تتجه بشكل عام الى القضايا القومية العربية والإسلامية ، وسينماه ما يمكن الإطلاق عليها : سينما الرسالة الأيديولوجية والفكرية . في حين أن مجموعة الأفلام التي أنتجها مخرجون شباب فيما بعد عام 2002م تناولت موضوعات أخرى تعنى بالشأن الداخلي والإنساني والفني . فظهر أولاً إسم المخرجة “هيفاء المنصور” التي أنجزت ،حتى الآن، أربعة أفلام سردية قصيرة / Short narrative films وساهمت ليـس عـلى صعيد الإخراج فحسب، وانما على صعيد كتابة القصة والسيناريو, والتمثيل والتصوير . فقدمت أول ما قدمت في لعام 2003م فلمي ( من ؟ ) و ( الرحيل المر ) . وكان فيلم “من؟” المستوحاة قصته من شائعة انتشرت في مدينة الخبر عن سفاح ،أو سفاحة، مجهولة تقوم بعمليات قتل متكررة ضد النساء في المدينة . . طرح الفيلم قضية هوية المرأة السعودية من خلال القاتل المتخفي في ثياب امرأة سعودية منقبة، وهو ما أثار حساسية المجتمع الذي يرى في العباءة والخمار الزي الشرعي للنساء . . ينزل التتر على الشاشة بعبارة : نخاف المجهول ، وبعضنا بلا وجوه ، ويظل السؤال ( من ؟ ) . ويبدو أن “المنصور” قد محورت فيلمها بطريقة أو بأخرى حول تغييب المرأة والإمعان في إقصائها من المشهد الحياتي ..

الفيلم الثاني لهيفاء جاء بعنوان (الرحيل المر) ومدته 12 دقيقة ، تناول الهجرة الداخلية من القرية إلى المدينة السعودية فهي، بحسب وجهة نظر الفيلم، تمثل إنقطاع عن الجذور، الامر الذي قد يفضي الى الشعور بعدم الانتماء إلى أي مكان ، وضياع الهوية والاغتراب داخل مساحات المدن ..

ثم في سنة 2004م عمدت هيفاء في تصوير فيلمها الثالث (أنا والآخر) الى الكاميرا السينمائية المتخصصة ، فأتاح لها ذلك تجويد الصورة الملتقطة وإختيار الزوايا المعبرة . . (أنا والآخر) قصة ثلاثة مهندسين سعوديين يجدون أنفسهم تائهين بين كثبان الرمال ورمضاء الهجير بعد ان تعطلت سيارتهم وهم في طريقهم الى اماكن عملهم. ولأنهم يمثلون اتجاهات فكرية مختلفة، يدور بينهم حوار يتحول إلى جدال ثم إلى خلاف: فأحدهم ليبرالي والآخر أصولي متطرف والثالث يميل إلى الوسطية والاعتدال. يحتدم الخلاف بين الأصولي والمعتدل إلى درجة التصادم ونسيان أنهما على وشك أن تبتلعهم الصحراء . . فجأة يتذكرون أنهم يواجهون مصيراً مشتركاً وبينما هم يعملون على إخراج سيارتهم العالقة في الرمال يظهر على الشاشة رقم السيارة : و، ط ،ن OO1 في اشارة صريحة ومباشرة إلى أن الوطن يمثل الملاذ النهائي لأبنائه مهما تنوعت أفكارهم.

وهكذا واصلت المخرجة الشابة ـ 31 سنة ـ في مطلع العام 2005 وقدمت فيلمها الرابع (نساء بلا ظل) ـ مدته 50 دقيقة ـ وهو يتحدث عن ثلاثة أجيال نسائية : جيل الإنفتاح الاقدم ، و جيل التقوقع المتوسط ، ثم الجيل الثالث الراغب في التحرر . لامس الفيلم نقاط حساسة في الثقافة والموروث الإجتماعي السعودي، إذ تناول علاقة المرأة بالرجل ، وطرح أسئلة معقدة وبسيطة في الوقت ذاته : لماذا لا تعملين؟ هل من حق المرأة أن تعمل؟ ما هامش الحرية المتاح أمام الرجل؟ هل توافقين على خروج المرأة من المنزل وحدها؟ هل تزوجت عن حب؟
كما عرض الفيلم أيضاً التحولات التي طرأت على خطاب التيارات الدينية المختلفة، ومن هنا شهد الفيلم جدلاً ساخناً ..

وقد تعددت المحاولات السينمائية التجريبية بدأ من العام 2004 وما تلاها ، بشكل عام إذ ظهرت عدة أعمال قصيرة ،لعدد من الشبان المتحمسين، تتراوح بين السرد الروائي القصير والتسجيل والتوثيق . وظهرت أفلامهم جميعها بشكل مشرف في المهرجانات الدولية .
قدم أولا عبدالله العياف فيلمه (السينما 500 كلم) في 45 دقيقة، بإشارة في عنوانه الى المسافة التي يجب على السعودي أن يقطعها ليشاهد فيما في أقرب صالة له في البحرين ، فيحكي معاناة “طارق” ـ الشخصية المحورية ـ في الدخول الى السينما حيث أنه لم يسبق له أن دخل قاعة سينما لعدم سفره خارج البلاد ، كاميرا العياف تابعت الشاب طارق من البداية وأظهرت جزءاً من الصعاب التي يواجهها هو ومن مثله في رحلاتهم المتعددة خارج البلاد لأجل السينما.
واكب ظهور هذا الفيلم فيلم آخر بعنوان (القطعة الأخيرة) للمخرج الشاب “محمد بازيد” وهو فيلم صامت بالأبيض والأسود نفذ بحرفية عالية في خمسة دقائق وخمسة عشرة ثانية فقط . . يحكي عن شارلي شابلن ما ، سعودي ربما ، يتنازع وآخر على قطعة بسكويت أخيرة في الكيس الذي اشتراه “شابلن” ووضعه على المقعد الخشبي ما بينه وبين الآخر في إحدى الحدائق العامة . نال الفيلم تنويهاَ وإشادة في مسابقة الإمارت السينمائية وفي مهرجان روتردام السينمائي .
وبدأ من منتصف العام الماضي وحتى منصف هذا العام 2006 ظهرت عدة أفلام بمستويات متفاوتة بين الوعظية والرعب والتأمل، للمخرج عبدالله المحيشي و مجموعته “القطيف فريندز” وهي : ( ساعة الرحيل ) و(اليوم المشؤوم) بجزئيه الأول والثاني ثم فيلم (رب إرجعون) ـ 42 دقيقة ـ الذي يعتبر رحلة تأملية في الموت والتوبة ، وهي أفلام تضاهي الأفلام الجيدة على مستوى جمالية الصورة .

كما قدم المخرج “عصام الفايز” في هذه الفترة ثلاثة أفلام : (عالم الطيران) وهو فيلم وثائقي يحكي عن تجربته في قيادة الطائرة النفاثة ، صور مشاهده في مدينة الأمير سلطان بن عبدالعزيز لعلوم الطيران وفي مطار الملك عبدالعزيز الدولي بمدينة جدة. وكان قد قدم من قبله فيلم (قبلة الدنيا) الذي يروي بنكهة تسجيلية قصة العاصمة المقدسة مكة المكرمة قديماً وحديثاً . . ثم قدم “الفايز” فيلمه الأخير بتمويل من قناة الإخبارية : (غموض اليقين) الذي يمزج فيه بين الروائي والتسجيلي ليحكي قصة الإرهاب في المملكة من خلال صور حقيقية أخذت من المواقع التي تعرضت لمد الإرهاب الآثم ، وشاركت المذيعة نسرين حكيم ومجموعة من الاطفال في تمثيل مشاهد الفيلم .

وأخيراً في خطوة أولى وبادرة مؤسساتية أنتجت شركة روتانا بداية العام 2006 الفيلم الذي يحاول إنتزاع لقب أول فيلم روائي جماهيري سعودي : ( كيف الحال ) الذي يسلط الضوء على موضوعات تمس حياة الشباب السعودي وطموحاته في قالب من الكوميديا الخفيفة تصور الصراع بين المعتدلين والمتشددين في سياق طموح ثلاثة من الشبان يحاولون إنشاء مسرح ومواجهتهم للصعوبات المادية والإجتماعية .
إشترك في التمثيل خالد سامي ،هشام عبدالرحيم وهند محمد ومشعل المطيري وغيرهم ، وقام بإخراجه الكندي إيزيدور مسلم وكتب قصته محمد رضا وسيناريو بلال فضل وإشتركت في الكتابة والإنتاج هيفاء المنصور.

اترك رد

%d مدونون معجبون بهذه: