« حب ليس إلاّ » لنادية الكوكباني .. المرأة علاقة ملتبسة بالرجل

محمد عبدالوهاب الشيباني

لماذا لم تزل الكتابة بأقلام نسائية مقيمة في مساحة علاقة المرأة بالرجل باعتبارها، أي المرأة ضحية دائمة لطبيعة الأوضاع التي يكرسها المجتمع في شتى المناحي ، بل ويتفنن في اعادة انتاجها بلبوسات متجددة تتمشى مع حال الوقت؟
وان هذه الكتابة مشروطة فقط بوعي الكاتبة لإنتاج ما تعتقد بأهميته كفكر قادر على قراءة مثل تلك العلاقات وفحصها وتشخيص علتها، ليسهل تالياً التمرد عليها؟
لكن ماذا لو اعتبرنا ذلك جزءاً من محاولات الكاتبات توجيه الأنظار ـ أنظار جمهور التلقي ـ إلى أكثر المناطق اعتماماً في مثل هذه العلاقات الملتبسة بين رؤية المجتمع لها وإحساس المرأة ذاتها بهذه العلاقة .. باعتبار ذلك في نهاية المطاف احدى حضورات قضيتها كناشطة وداعية حقوقية وصلت إلى موقعها هذا بفضل مكابداتها في مجتمع ببنى محافظة تنشأ ممارساته إلى ماض لم يزل مقيماً في أذهان من يصنع قراراته ويدير شئونه وأن هذه المكابدة وحدها التي تمنح صاحبتها الحق بالحديث نيابة عن ملايين الأميات المضطهدات..؟ من جهة ثانية، ماذا لو أمكننا فهم المسألة .. كون مثل هذا الانهمار الكتابي ليس إلا.. تعريضاً فنياً يساعد الكاتبات على تقديم أفكارهن بقوالب إبداعية شتى يشتغلن على جملة الأفكار من مناظير متعددة لفتح نوافذ تلقي ـ قرائي ونقدي ـ تحيط بمثل هكذا انجاز؟!
تساؤلات مثل هذه تقفز إلى ذهني بطرائق مختلفة كلما فرغت من قراءة عمل أدبي لواحدة من الكاتبات اليمنيات على وجه الخصوص ـ خصوصاً وان الكثير منهن وبفعل تراكم التجربة إلى جانب التماسات الناشطة التي خلقنها مع منجز الكتابة اليوم بفعل القراءة والتواصل جعل مما يقدم بواسطة أقلامهن يمثل حالات متقدمة في فعل الكتابة باعتباره فعلاً تغييرياً ناضجاً حتى وهو يعتمل فقط في مساحات تلق ضيقة تشغلها الكاتبات أنفسهن وبعض من يقرأ لهن من النساء والرجال.

***
ما ستقدمه الكاتبة نادية الكوكباني في عملها الروائي الأول الموسوم بـ«حب ليس إلا» سبق للكاتبة أن أصدرت على مدى أعوام ستة ثلاثة أعمال قصصية «رحلة في أجواء العلاقة الملتبسة بين المرأة والرجل، في المجتمع اليمني».
فمن خلال سيرة امرأة تتغلب على كل ظروفها الشخصية أو تلك التي يضعها المجتمع في طريقها للوصول إلى مرتبة متقدمة في التعليم ـ الحصول على شهادة الدكتوراه في الفلسفة وسنتحقق من شيئين:
الأول: مسحة حقوقية وداعية وتبشرية للانتفاض الذي يمكن للمرأة تحقيقه.
الثاني : الكتابة في مساحة السَيَري للكاتبة التي نستطيع تسريب الكثير من تاريخها ليغدو تمزيجاً قرائياً ناضجاً.
من خلال سيرة مزج ـ مطابقات السيرة بسيرة الكاتبة كما سنقف تالياً.. سنتعرف على عديد أزمنة وفضاءات شغلتها أفعال الشخصيات السردية أو تلك لتي حكمت أفعالهم بفعل سيرورة الزمن ومنتجه التاريخي الذي غطى جغرافيا اسمها «اليمن» وبعض انفتاحاته على جغرافيا أخرى ـ نموذجا دمشق والقاهرة المرتبطان بجزء من سيرة فرح الطفلة .. واليافعة ولاحقاً الناضجة.. وماهو خاص في السيرة سيرتبط بأفعال مرصودة تنتجها بالتتابع.. الشخصيات المتعددة التي تدور في فلك شخصية رئيسية جعلت من الكتابة وبضمير المتكلم لحظة تحليق كبرى.. ستبدأها بعد واحد وعشرين سنة.. توقفها عن تدوين ماهو حميمي من يومياتها في مفكرة زرقاء ظلت تحتفظ بها في الجيوب الداخلية من حقائبها وفي خزانة ملابسها الداخلية لسنوات حتى بدت هذه المفكرة نسجاً عضوياً من حياتها ولم تتخلص منها طيلة عقدين كاملين وبها احتفظت بتواريخ وأرقام هواتف وتذكارات مدونة عن لحظات عاطفية ستنتقل معها في ترحالات عديدة وإقامات وانهدامات لا تحصى.. والذي سيعيد إحياء وخلق ما دوّن في المفكرة الزرقاء مفكرة زرقاء جديدة ـ التي ستغدو لاحقاً هذه الرواية لم تنتابني مثل هذه الرغبة الجامحة الملحة للكتابة منذ زمن تحديداً منذ ما يقارب الواحد والعشرين عاماً منذ أن أصبت بفوبيا الكتابة مند صرخت في وجهي شقيقتي الكبرى بعد مديح شديد من والدتي ومقارنة لم تكن في صالحها.
أمي لا تعرفك على حقيقتك أنا أعرفك لقد قرأتها «المفكرة الزرقاء» هوت بي عبارتها إلى بئر سحيقة مظلمة باردة ارتطمت في قعرها أوصالي، ذهول أطبق مخالبه على كل حواسي.
ما إن أفقت من دهشتي حتى سمعتها تواصل من جديد وبلؤم عبرت عنه من غمز عينيها وحركات يديها ونبرة صوتها، أقصد مفكرة يومياتك الزرقاء الموجودة في الرف الرابع لدولاب ملابسك» ص7
رغبة الكتابة جاءتها بعد مغادرة ـ هشام ـ الأستاذ والحبيب لمدينة القاهرة بعد أن حضر بصفته عضواً في لجنة الحكم ـ مناقشة رسالتها لنيل درجة الدكتوراه في الفلسفة اليونانية.
بعد مغادرة هشام للقاهرة مباشرة وعودتي حجرتي الصغيرة التي مازالت رائحة الفل تعصف بها وبي أيضاً أخرجت مفكرة زرقاء جديدة.. أظنني الآن وفي هذه اللحظة بالذات والمفكرة الزرقاء أمامي، والقلم الأخضر يعانق أصابع يدي.. عرفت لِمَ انتابتني هذه الرغبة الجامحة الملحة للكتابة التي لم تداهمني منذ زمن تحديداً منذ مايقارب الواحد والعشرين عاماً منذ أن أصبت بفوبيا الكتابة في المفكرة ذات اللون الأزرق ص228
بين «دفتي مفكرة زرقاء» حسب العنوان الذي حمله الفصل من الرواية فضاء الرواية ومسروداته الحكائية التي تحف بشخصية رئيسية تبوح بسيرتها للمرأة فرض عليها أن تعيش وقتاً لا يخصها بالكامل خصوصاً ذلك الذي حاولت تشخيصه بالقراءة والتحليل خصوصاً ذلك المتصل بالشأن العام والتاريخ السياسي للفترة التي عاشتها أو ارتبطت بحضور بعض الشخصيات الروائية ـ الأب ـ هشام هذا الوقت يصح تقليبه على أوجه متعددة ليفضي إلى حبله ـ التواترات التي حكمت حضورها بالآتي.
ـ خيارات المرأة حين تنتفض على الأدوار المطلوب تأديتها في مجتمع محافظ.
ـ خيارات الاستكانة والرضوخ لضعط المجتمع الذي يتبدى في النص هشاً ومن السهولة بمكان تفتيته وتمزيقه مثل قرطاس لامع مع أول إصدار كما بثّته في أنحاء متفرقة والمجتمع يُختزل في النص بسلطة الرجل في حضوره كزوج وأب وأخ وحبيب.
ستقرر فيه ان تثور على انسان البارحة في أعماقك ان تقود عملية انقلاب سلمية هادئة شفافة لتغييره، لتحديث مفاهيمه في الحياة ولترسيخ مبادئ جديدة في قاموس معاملاته مع ذاته ومع الآخرين.. اليوم الذي تستيقظ فيه وقد أزلت عن جسدك غبار السنين الماضية، بدا لك سطحه لامعاً شفافاً لا يخفي عنك شيئاً من مكتنز أعماقه مع ذلك ستنفي منه كل شوائبك كل ما يكدرك ويؤلمك وستلقي بها في أقرب سلة مهملات» الرواية صفحة 155

***

حين أشرنا إلى المساحة التي تتحرك فيها نتاجات الكتابة بأقلام النساء اعتبرنا أن اللافتات الكبرى التي تحمل مساحتها الكاتبات ستفرض عليهن دائماً الكتابة عن الالتباسات الكبرى في العلاقة بين الرجل والمرأة باعتبار الأول رمزاً غاشماً لسلطة لا يمكن الشعور بالأمان حيالها حتى وإن بدت هذه السلطة بتقديم نفسها بلسان ناعم وعاطفة مخملية، فالرجل هو الرجل رمز المجتمع الذكوري كم هم بارعون الرجال في نسج أكاذيبهم وارتدائها صدقاً أمام الآخرين، كم هم قادرون على العيش بعدة أوجه في نفس اللحظة.
نادية الكوكبانيكم هم فنانون في نحت مشاعرهم ورسمها لوحة لا تشك في أنها أصلية تعلقها على جدار قلبك تبهرك وقتها، وتمتعك رؤيتها لتكشف ربما في اليوم الثاني وربما لا تكتشف أبداً أنها مزيفة» الرواية ص154
فسامي، الزوج المتعلم ورجل الأعمال والذي تقبل به بعد اختفاء الدكتور هشام بإلحاح من الأب والأخ باعتباره ابن ناس وجيبه عامر هو ذاته الذي سيعاملها بكل قسوة وسيمنعها من كل شيء يمكن أن يتصل بانتاج خصائص أخرى لشخصيتها العامة باعتبارها تعمل كمحاضرة في الجامعة، وكل ذلك لمجرد ان احباط نفسية قاسية تركبته نتيجة لرفض ابنة عمه الزواج منه فكان لابد من ايجاد وخلق ضحية يفرغ فيها نزوعات الشر.. والضحية تكون..لمرأة حضورها في المجتمع أهم من ابنة العم المتعلمة أيضاً ولديها مشروع واضح يشير إلى طريق واضح لخلاصات المرأة وهذه المرأة مع ذلك ستتحمل كل الأذى حتى لا تصل إلى لحظة الطلاق لأنها تدري أن مجتمعاً برمته يترصدها ليحملها كل تباعات الطلاق ليبدأ بتقييمها من زاوية كونها مطلقة لم تستطع العيش في ظل مؤسسة الزوجية.
لماذا هذه الرغبة الشديدة في الانتقام مني .. في تعذيبي بهذه الطريقة في تماديه وعدم تقديره لتضحيتي وتحملي لكل ما يقوم به.. ربما فسر كل ذلك بأنه ضعف ولم يتبادر إلى ذهنه أنها رغبة صادقة في استمرار الحياة بشكلها الطبيعي بيننا وبأني أحلم بالعائلة الهادئة المستقرة والأولاد الذين سيملأون حياتنا سعادة.
أصبحت أخشى قدوم الليل، أخافه.. يسبب لجسدي رجفة لا أستطيع التحكم بها، يزيد من وتيرتها شعوري بتعمده إيذائي بتلذذه في سماع صراخي يصل إلى مرحلة يفقد سيطرته على أفعاله المجنونة تجاهي لذة غريبة في تعذيب جسد يتلقى كل ذلك قرابة عامين ولم يصل للمتعة التي قرأت عنها أو النشوة التي تتغامز بها النساء» ص 85ـ86
وبمقابل الزوج سيتبدى الحبيب في أكثر من زاوية رؤية خائناً حتى وهي تشفع له أفعاله حين تكتشف ان له زوجة وأولاداً في مدينة أخرى طالما أحبتها من مجرد حديثه عنها.
صفحها عن الحبيب هو تمثيل آخر لصفحها عن الزوج الذي استطاع اقناعها باعتذاراته المبطنة بحبه له حتى وهو يحاول إيصالها إلى الجحيم بواسطة السيارة في حدث غامض وهما في طريقهما لمدينة عدن لتجديد شهر العسل.
لأن مبرّر انتحاره كان لدرء الآلام التي يفشيها في الجسد سرطان البروستاتا لكن ما ذنبها في موت مجاني كهذا؟! ألا لأن الرجل كان يرغب بذلك.

حدود السيرة ـ أفق الكتابة

التخييل في الكتابة السردية المعتمدة على حدود السيرة الذاتية في انتاج نصوصها تُضعف في الغالب حدود المطابقة بين العمل السردي وسيرة المؤلف وتخلق نقاطاً مشابهة بين الحالتين ـ تستوعب اسقاطات التلقي بدون محاذير كبيرة،ومعها ستبدو «آنا»،السرد ـ الذات الساردة ـ تعمل وبشكل نشط تحت مجهر المتلقي كذات مفحوصة وكل ذلك أن العمل السردي يتجاوز في كل مرة كتابة السيرة الذاتية «الشخصية» أو المذكرات اليومية،التي تضعف من حالة التخييل،وتكبح جماحه لصالح التدوين الوقائعي.
الأولى : أن العمل في تجنيه الظاهر في كلمة «رواية» الموجودة في الجهة اليسرى من الغلاف الأمامي للكتاب وتحت العنوان الرئيسي،سيوجه المتلقي مباشرة إلى التعامل مع العمل باعتباره نصاً سردياً صرفاً يلعب فيه المتخيل أو التخييل دوراً بارزاً في اضعاف المطابقات وأحياناً المشابهات بين سيرة المؤلف ومدونة النص.
الثانية:أن سيرة المؤلفة التي تحتل صفحة كاملة في نهاية الكتاب ـ الرواية ـ ستفصح بشكل واضح أن حدود المشابهات مفتوحة بين بعض من تثبيتات النص كمتن وبين سيرة المؤلفة ستتقوى كثيراً،وتحديداً فيما يتعلق بين سيرة البطلة «فرح» الاستاذة الجامعية ،وبين سيرة المؤلفة «نادية يحيى الكوكباني» التي تعمل مدرساً مساعداً بقسم العمارة ـ كلية الهندسة جامعة صنعاء ،ومتحصلة على ماجستير في الهندسة المعمارية وتحضر درجة الدكتوراه في القاهرة.
الثالثة : الذين يعرفون نادية الكوكباني ـ وأنا واحد منهم ـ سيجدون في حدود المطابقات ماتشير إليه حضورات سيرة الدكتور هشام ومدينة عدن بحضور زوج الكاتبة وهو استاذ جامعي واستاذها في كلية الهندسة،وابن مدينة عدن.
رابعاً: فضاء المطابقات المفتوح أمام القارئ سيكون هذه المرة في سيرة «سلى» الأخت الصغرى للبطلة الروائية فرح والمتجلية بكل حب في محطات مختلفة من العمل و المتبدية على هذه الهيئة:
«سلى» اسم على مسمى مصدر تسل وسعادة لجميع من حولها،لاأحفظ لها في ذاكرتي موقفاً عبست فيه أو رفعت صوتها أو حتى فقدت أعصابها كما يفعل أغلب البشر! وعاء يحتوي كل مايقذف فيه بحنان وحب من الأعماق!..
قادرة وبمهارة على اخفاء ألمها،مادام في مقدرتها احتماله نفسياً كان أو جسدياً ،دون أن تسبب هم الشكوى لأحد حتى لو كنت أنا.
سلى ،سلى على العين برؤية وجهها الملائكي، سلى على القلب بنقاء سريرتها.سلى على النفس بصدقها الذي لايخذلك حنانه ،يصلك شفافاً مباشراً محققاً غرضه في لمح البصر ليحلق بك في ملكوت روحها البهيّة».. الرواية ص147ـ148.
وبين الاهداء الحميم لـ«أروى يحيى الكوكباني» شقيقة المؤلفة وتهديها العمل«لعطائها الذي لايفوقه إلا حبي لها» حسب مايرد في الصفحة الرابعة من الكتاب.
في اعتقادي أن الاشتغالات على التجارب الذاتية في مساحات السرد وخصوصاً الاقتحامات الأولى لكتابة الرواية كما تفعل في هذا العمل «نادية الكوكباني» يساعد الكثير من الكُتاب على انتاج أعمال تتسم بتماسك الأحداث وترابط الوقائع وهذه الخاصية تعمل كثيراً على تقوية بعض الجوانب الضعيفة والهشة في «تقانة» الكتابة التي قد تحتاجها الوحدات الحكائية.
صحيح أن التخييل يكون في أدنى مؤشراته بسبب أن صرامة سرد الاحداث وحدودها المثبتة تلعب دوراً كابحاً لإيقاف جنوح الغرائبية وغير المتوقع والفجائي في النص لصالح التقديرية والمباشرة والتدوين الصحافي الصرف.
«نعم كنا ثمانية ،علل أبي أنه حقق رغبته بهذا العدد الكبير الذي كان يفوق ـ أحياناً ـ قدراته المادية خاصة في مراحل معينة حتى لانشعر نحن ابناؤه بالوحدة كما عانى هو طوال حياته بعد أن حرمه المرض من شقيقته الكبرى،نتيجة عدم الرعاية الصحية والتخلف قبل قيام الثورة..
يردد ابي دائماً بفخر أنه تمنى قدوم بنت أخرى بعد مولدي في العام 1966 ويرغب في تسميتها «سلى» ليكمل مع اسمي«فرح» كلمات الزامل الثوري المشهور:
«يافرح ياسلى طل يوم أصيل ،فجر أيلول عاد،بالنسيم العليل» الذي يُحبه ويذكره دائماً بنعم ثورة أيلول التي سيراها متجسدة أمامه في ابنتيه فرح وسلى..
….استبشر أكثر بمولد سلى أوائل 1968 تحديداً في شهر فبراير، الشهر الذي انتهت فيه حرب السبعين يوماً،بانتصار جيش الثورة الجمهوري والقضاء على ذيول الملكيين المؤيدين لحكم الإمامة بعد أن تم حصار صنعاء لمدة سبعين يوماً»
الرواية ص8ـ9
لكن بمقابل ذلك قد نجد في المتن ماهو مبثوث هنا وهناك من التراكيب والوحدات السردية القادرة على كسر حالة الصرامة التي تولدها عملية التدوين للوقائع ـ أو ايرادها بشكل تقريري ـ مثلما يطرحه النموذج الذي اخترناه سابقاً..
هذا الكسر سيجيء مثلاً على هيئة جُمل مكثفة مشحونة بالتحوير،ستقود خطاب السرد إلى تبديل موقعه …المتكلم ـ الثرثارـ إلى المخاطب…بلسان راصد جديد مبدلاً في ذات الوقت صفة المخاطب …المؤنث ـ الشاغل حيز المتن بالكامل إلى مذكر:
«هذا هو الطريق الذي أسميته..كسر الخواطر» لمروره وحيداً فيه،تعدك إلى طريق جبر الخواطر» يحتضن رصيفه خطواتكما..تهمس أزقته في اذنيك «مبروك وصول رفيقك،ستشكرك أشجاره العالية على مداعبة أوراقها بحنو وأنت ترسم على شخصيتك..ابتسامة تكاد تفضح مايدور في أعماقك أمام المارة..المارة الذين كنت تسترق النظر إليهم وتتمنى لو يعود الزمن إلى الوراء لتتأبط مثلهم ذراعاً وتخطف مثلهم لمسة وتذيبك مثلهم نظرة.
ستسير ببطء تنظر نحوهم بائعي الورد والفل الذين كانوا لايلتفتون إليك لأنك وحيد !! يتقدمون باتجاهك تاركين الفل يقوم بتهنئتك عوضاً عن عباراتهم،يمارسون عليك اساليب الترغيب المتبعة لديهم بزيادة الكمية لأن من بجانبك يستحق ذلك..» الرواية ص227
البناء الفني في الرواية يقوم على وحدات حكائية متعاقبة.
العنونة الداخلية للفصول لم تعمل قطوع فصل في النص باعتبارها وحدة واحدة حتى وهي تصل مسميات مثل دفتا مفكرة زرقاء ـ صيف بغيض /متواليان/صنعاء جنوباً/ماذا بعد/صرخات لبياض ينزف/في اللاتوقع/الشيخ عثمان/لو /عدن شمالاً/خطوة أولى..
فالنص يقوم على فكرة البناء الخطي الواحد الذي يبدأ من نقطة البداية وصولاً إلى نقطة النهاية.
البداية تكون بتلك الرغبة الجامحة التي تتلبس الشخصية الرئيسة ـ فرح ـ في الكتابة وتنتهي باللحظة ذاتها وبين النقطتين السيرة السردية لها وما احيط بها وأثر بها من احداث طيلة احدى وعشرين سنة متصلة متسلسلة تماماً،وبالتالي لم تكن مسألة تقطيع الزمن السردي بواسطة تقنية الاسترجاعات لأزمنة فنية ضرورية الحضور إلا في حدود تلك الاستبطانات لبعض الشخصيات وتنتزع منهم في سياقات مسرودات الشخصية الرئيسة حين تربط هذه المسرودات برغبتها في الحكي لتفريغ مكبوتاتها محاولة في ذلك الإحاطة أو التعريف أو الإعلام عن تلك من باب التعريف به مثلاً من الاسترجاعات المتصلة بها تتصل بمدينة دمشق التي زارتها وهي طفلة كثيراً لتفتح أمامها آفاق جديدة لتعريفها بأنوثتها وجسدها كما تقول :
«آه من دمشق المدينة الجميلة التي اكتشفت فيها انوثتي المدينة التي جذرت علاقتي غير الحميمة بالمرآة ..أن تكتشف شيئاً كهذا في مدينة فهذا يعني لاتنساها ابداً،أن تخلد اسمها على لسانك أن تحضر أماكنها على جدار مخيلتك.
آه لو يستطيع المرء أن يفعل بالبشر ما يفعله بالمدى عبارات باللهجة الشامية تبتسم لسماعها وإن لم ترقك تلفح وجهك حرارتها ويصلك صدقها تعتقها في أعماقك يزداد تألقها وقيمتها بمرور الزمن ليصبح لمذاقها نكهةأخرى تسكرك وتلفك في نشوة تذكرها:
«شو!!!مافي سكر في البلد» أنظر إلى ساقي اشعر بالخجل ! فعلاً لماذا لم انزع كل هذا الشعر عنهما حتى الآن ! ألا تفعل ذلك كل البنات في مثل سني .
«ياالله ما أحلى سمارك/ولي على هالخصر/أطيل الوقوف بعد سماع عبارات كهذه أمام المرآة أتلمس وجهي…»
الرواية صفحات 113ـ114ـ115
استذكارات هشام لأحداث يناير 1986م حين يقول «لم اطق بقاء في عدن بعد فظاعة ماحدث في اليوم الدامي، الذي لم ولن يزول من ذاكرة التاريخ فيما لو تجاوزه البشر لايمكنني أن اقرب لك بشاعة ماجرى مهما كنت خبيراً في الوصف.
هل احدثك عن انتفاخ الجثث التي كانت ملقاة في الشوارع دون ذنب اقترفته في الدنيا،لتحرم ايضاً من مواراتها للثرى وهي جثث هامدة،وقد تحولت إلى وجبات دسمة لكلاب الشوارع!…هل احدثك عن الاطفال الذين سكنوا المدارس والمساجد عوضاً عن منازلهم بحثاً عن الأمان ! هل احدثك عن الآباء وهم في حيرة من أمرهم في البقاء مع أهلهم لحمايتهم أم الخروج بحثاً عمايسدون به رمقهم ويروون به ظمأهم»
الرواية ص123.
البناء الخطي للعمل تبعاً لذلك هو الذي سيمنح النص تلك التصاعدات الفنية التي تتوج بالنهاية المفتوحة للعمل ـ الانفتاح على الكتابة باعتبارها حالة خلق لما نريد أن نعيشه ـ وحين يُستبدل موقع الراوي من المتكلم إلى مخاطب وهي اللحظة التي ستتخلص فيها الرواية من الزوائد الكثيرة التي حكمت بعضاً من مسرودات الشخصية التي تتخذ أحياناً صيغ الاحتجاج الصحافي الصرف.
«المرض الذي يموت نتيجته اعداد كبيرة في اليمن، إما بسبب انعدام الأجهزة الخاصة بغسيل الكلى في معظم المستشفيات الحكومية…الكم الهائل من المرضى الذين يقفون في الطابور الطويل لاحول لهم ولا قوة غير قادرين على السفر كما يفعل اصحاب المال والنفوذ عندما يصابون بإنفلونزا بسيطة وغير قادرين أيضاً حتى على الذهاب لمستشفيات الجيش التي تتمتع بنصيب الأسد من المعدات الطبية».. الرواية ص190
الرواية في واحد من محمولات الرمز فيها ستقدم اشتغالاً واضحاً على ثنائية العلاقة التي تجسد استبطانات الجغرافية في اليمن ـ شمالاً وجنوباً ـ لتجسيد افتراضات سياسية تلقى أمام متلقٍ قادر على تفكيكها…وهذه الثيمة تجسدت في أكثر من عمل روائي لعديد كتاب يمنيين منهم المرحوم يحيى علي الإرياني في عمله «نحو الشمس الشمس شرقاً» وعبدالله عباس الإرياني في عمله «بدون ملل» وحبيب سروري في «طائر الخراب» مع النسبية في وضوح الموضوع وتبدل موقع العلاقة والتي تنتج مساحات اسقاط قرائية وتقترح نهاياتها..وهذا الموضوع سنحاول مقاربته بشيء من التفصيل قراءة وتحليل في موضع آخر..

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
– (حب ليس إلا) رواية: نادية الكوكباني – دار ميريت.. القاهرة 2006م.

اترك رد

%d