بـَــلا ولا شـــي..
جمال جبران
(1)
موسيقاك تطل من النوافذ.
حشرجاتك تبدو متقاطعة مع امتداد الشارع. فيما الحقائب مهملة، عن عمد، بداخل خزانة مغلقة، لم يعد أمر العثور على مفتاحها ممكناً بسبب رداءة الطقس، كما وانشغالك بمحاولة إيجاد الدوافع التي تسببت في عدم عرض قناة mbc2 فيلم «موسيقى القلب» لميريل استريب مع أنهم قد أعلنوا عنه مسبقاً وبشكل متكرر. ربما لهذا لم تجد الوقت كيما تتذكر هوية الشخص الذي أخبرك قبل 17 عاماً أن لوردة الجزائرية عنق سكسي يتمتع بمثالية قادرة على إغواء جماعة الذكور. أو ربما كان انشغالك كلية بأمر صندوق بريدك رقم (11610) الذي لم يعد مصنعاً جيداً للرسائل. ويحدث هذا منذ 22 عاماً.. ولكن لا شيء.
كنت راغباً في كتابة رواية من ثمانية فصول لكنك تستيقظ متأخراً وفي قلبك مظاهرة صامتة ضدك. لم تكن مدركاً حينها حقيقة ان الحياة يمكن تدميرها بسهولة تامة لمجرد رداءة موسيقاها التصويرية المصاحبة. لك الآن هناك أمر إدراك كنه علتك. افتراضك حسن نوايا العالم ومسألة ان علي العصري صاحب ثقافة كروية رفيعة. تعتقد ان كل ما يحيط بك يمتلك قدرة اكتشاف ان موسيقى تصويرية من القرن الخامس الميلادي لا تصلح ان تكون مصاحبة لفيلم تدور إحداثه في أيامك هذه.
«… أمي التي لم أرها منذ سنوات، وليس في وسعي زيارتها، تحتاج عيدها بالطبع، واحتاج أنا ركبتها. وأعرف أن الذي يجمع بين هذين العيدين، بالنسبة إليَّ هو العقوق.
الشاعر العاق، والابن العاق، لن يحتفل بيومه، عيْدَيه يا أمي: لن يرفع سماعة التلفون كي يطلب سيارة الإسعاف للشعر، ولن يرفعها ليقول لك ما يقوله الأبناء لأمهاتهم.
لكن الركبة التي ستحكِّينها في غيابي، الركبة التي ستهرشها يداك، ستظل قِبلتي». ماهر شرف الدين.
(2)
كشارع يسير على أربعة عجلات يلاحق نهايته بلا روية أو تعقل. أيكون الأمر مكلفاً لو أنك تعيد ترتيب أيامك الماضية دون ان تنتابك حالة فزع، مهما بدا الأمر فادحاً، من اكتشاف ما لاتود؟
للتذكر مذاق الفقد، و أنت مثقل حد الأزرق بفوات، لا يمكن تعويضه أبدا. أأنت بعيد عن دائرتك إلى هكذا حد…
عن أيامك.. عن الموجع الذي دائماً ما تورطت فيه دون ان تصل نجاة؟!
(3)
كأرملة ترغب اقتراف نسيانها، لك حياة متروكة لحيثيات الصدمة والعدم.. والاعتباط، أنت، كأن عمراً مهدورا هنا يقف بمحاذاة الصفحة التي طويتها للتو. وعبثاً تحاول استرجاع ماهية ذلك العطر الذي غدت رائحته أرشيفا غير قابل للاستعادة. خلاص.. لقد صرت رقماً في ذاكرة طُمرت بشكل جيد. كلمات الأغاني التي استمعتها في طفولتك لا يمكن استرجاعها. تعلم جيداً أن الأمر ليس بهذه البساطة. لا يترك الماضي وروداً على نوافذ من قد يأتون لاحقاً.
«… يبدو ان الله لا يحبني
كبرت بما يكفي لأصدق:
الله لا يحبني من قديم
منذ كان يحب أستاذ الحساب
ويمنحه بصراً حاداً
وطباشير ملونة
وفرصاً كثيرة لتعذيب طفلة مثلي
لا تستطيع تحديد علاقة
بين رقمين غير متلاصقين…».. كتبت أيمان مرسال.
(4)
كل ما تطلبته حكايتك كان متاحاً. لكنك أدمنت سهرك. مؤشر ساعتك المنبهة ألف التجمد على نقطة بذاتها.
لا ألمح فيك أي رغبة ما لها أن تعمل على وضع تفاصيل ما كان لك على منضدة تشريح. أعلم أنك لا تريد أن تتحول لمجرد عربة لنقل الموتى ولو لمرة واحدة على سبيل التجريب كما ولتمضية وقتك الفائض بفراغه. وتكتفي فقط بمهمة تقمص استيعابك لفكرة ان تكون حياتك مجرد خسارات متوالية صافية. وتقولها بهدوء بال حتى ولو كان ما يلي حياة في عراء.
دربت أصابع قلبك على ذلك.
هكذا يبدو وأمك تعرف. وعليه تجد ان مسألة تركك للبصمة الأولى التي أحدثتها في كراسي الابتدائية أمر لا يقبل أي مراجعة أو إعادة نظر.. أو حتى مجرد ترك مساحة شك ولو ضئيلة فيما ذهبت إليه.
وتبقى فقط مكتفياً بممر طويل معتم ترمي على آخره نظرة حنين مكثفة.. كما وألمك.
مجرد حفرة سوداء عميقة بداخلك. النهايات البيضاء السعيدة لا مكان لها غير أغلفة أفلام الأبيض والأسود قليلة الكلفة. في السينما يحدث ان نخرج منتصرين وبابتسامات غير مشكوك في نزاهتها، عاطفية ودودة، لا تخشى اقتراب موعد حلول نشرة أخبار التاسعة غير الموجزة. على الرغم من أنهم يؤكدون عكس ذلك. وعليه اترك لذاتك سيرها واذهب عميقاً في ترديد نشيد «المارسييز».
«… وبلغت نهاية اللعبة قبل حضور جودو وقبل حضور أي اسم. فالكُتَّاب، كما قلت يابيكيت، لا أخ لهم ويأتون من لا مكان. فكيف لمن يأتي من لا مكان ولا أخوة له أن ينتظر أحداً، كيف لمن لا مكان له أن يفسح مقعداً لأحد إن أتى؟ ولماذا ياصاموئيل، علمتنا أن نُجلس الغائبين على مقاعدنا، وليس لنا مقاعد ولا أحد سيأتي؟). كتب وديع سعادة بمناسبة سنوية صامويل بيكيت.
(5)
ومرة أخرى تطل أصابعك على فارق ضئيل بين لحظتين. بذاكرة كسولة لارجاء من شفائها، تبقى متروكاً على حافة رصيف يمضي عابروه وبأجساد متلاصقة وبهداوة من لا يخشى فراقاً.
أنت لا تتعلم أبداً. لا ترغب في إدراك يقين أن جمال جبران سيوردك حتفك وهو الغارق في هلامية ممتهنة لدور المنشغل، متلذذاً بإحصاء خسائره وعدد انكساراته في المتر المربع الواحد. تنسى دوماً أن العابر لا يمر على ذات الجرح مرتين. لكنك أوغلت ذهابك باتجاه الجزء الأكثر قابلية للتطاير.
«بلا ولا شي».. هكذا مارس زياد الرحباني حبه مع كارمن مكتفياً البقاء تحت «الفي» الذي «مش لحدا».. بعد 15 عاماً انفصلاً وعلى الرغم من اعترافها ان زياد كان الرجل الذي أحبت دوماً إلا أنه كان يرغب في اصلاح أحوال الكون.
تبدو الأشياء الآن واضحة تماماً، على الأقل بالنسبة لأمين الصندوق الذي أمعن في راتبك الشهري تقطيعاً مبرراً ذلك أنك لا تحب الوطن. ألم أقل لك أنه السهر الذي أدمنت؟ ما يمنعك من النهوض باكراً لتستطيع الذهاب إلى حيث يسكن الوطن لتلقي عليه تحية الصباح كما والتوقيع بين يديه على حافظة الدوام. مسألة بسيطة كهذه ستعيدك كأئناً سوياً وعلى علاقة جيدة معه.
(… الموديل العاري هو مثال بارز على الغياب القسري للإلهام. صورة الجسد ليست الجسد، هي صفته وهو في حال ذهول عن أعماقه. ما نراه من الجسد ونحن في موقع الرقابة، ليس الجسد في بداهة تكوينه بل خوفه من أن يكون متاحاً…». كتب فاروق يوسف عن هذيان المنسيات الايروتيكي.
(6)
أنت تدرك تماماً أن لا شيء يعادل اسماً انثوياً عابراً استمعت إليه في ظهيرة 15 يناير 1989 حال بثهم لبرنامج ما يطلبه المستمعون وذلك الأثر الذي أحدثه فيك لحظة النطق به.
الأشياء الأكثر حميمية تستطيع السير منفردة.. بلا حارس شخصي، على شارع طويل لا يصله احد، تسقط عليه إضاءة بقدر مناسب يعطيك إمكانية الاستماع بذهن مفتوح لوقع خطواتها إذ تقترب وتركز نظرتك لحظتها على اللاشيء خشية ان تمر ملامحها في غفلة منك.
صعب هو أمر شعورك بالفوات. لجنة شؤون الأحزاب هنا لا شأن لها بالأمر، لابد أن تكون واثقاً من هذا. هي مسألة عارضة قد تحدث لأي واقف على تقاطع تتوسطه إشارة مرور ضوئية يبدو أنها توقفت عن إحداث إشارة منذ زمن محاولة تجميع ذاتها كيما تنجح في تفسير سر الكيمياء وحجم الفوضى التي اختزنها ذاك الفتى (سيظهر اسمه تالياً) دافعة إياه لكتابة «سأغتسل مراراً لأبدو مختلفاً عن الباصات والمارة ووجهي…». خمسون عاماً وأنت تحاول قول ذلك لكنك لا تستطيع التفريق بين مسألة في كتاب الجبر للصف الثاني الثانوي ص(16) وبين ما تقوله مريم نور في برنامجها التلفزيوني الخاص بتقديم أفضل النصائح الروحية لمن يود تعلم فن الرقص والنسيان في ثمانية أيام بدون معلم وبلا فواصل إعلانية. وبهذا يصبح قادراً على فتح بريده الالكتروني دونما خشية ملاقاته لرسائل غير مرغوب بها.
«سأغتسل مراراً لأبدو/ مختلفاً عن الباصات/ والمارة ووجهي/ بعد القات، ولكي/ أدرك خطأ الشارع أتلذذ بقطعة جين لم أذقها. دانمركية.. وأصلي للجبناء والطرقات وغموض البرد والجوع والحرمان…/ وسأرسم إصراري على البقاء أهديها، للنساء وأبناء الليل، لن اتبع الهراء وأتوضأ بأخلاق الريح/ من رجس الخطابة والمعسكرات لتمتلئ الأيام/ جمالاً وجنوناً. واقع بحب فتاة في السابعة عشرة/ تتسخ بقصائدي…/ لن أبكي لخيبة ما تراه عيني/ بندقية، حكماً بالإعدام/ وخوفاً من عباقرة الميتافيزيقيا، لتظل شهواتهم لذة للشبع، وحظاً لبقاء جيوشهم وإمامهم الواعظ، سأغتسل، والليل امرأة/وخمر للبسطاء، وسنبصق…». هذا ما قام بتدوينه الفتى أوراس الارياني ذات تحليق.
(7)
لا يبدو، بعد كل ما حدث لك، أن حرباً كانت تدور على حافة وسادة بيضاء تضع عليها أرجلك بطمأنينة لحظة تتسلى. لم تترك الحرب على قميصك الأبيض ولو حتى أثرها العابر البسيط. كأنك تنتمي لأولئك الذين لا تعنيهم حكاية. وحدك في السطر الأخير من كتاب الألفة. تخرج من معرض الحكايات كمن لم يعبر أبداً.الحكايات ترفع صور عابريها بخط مكتوب بطريقة ظاهرة. الحكايات تتفرج على الناس كمن وجدت قريباً لها.
هل قلت لك شيئاً؟!