اليومي في ديوان “قصائد كاتمة الصوت” لعبدا لله المتقي

عبد الله بناجي

من الملاحظات التي تثير الاهتمام في البناء اللغوي والدلالي للقصيدة العربية المعاصرة هي الحضور القوي للمشاهد اليومية ، حيث أصبح النص يلتقط صورا وتفاصيل دقيقة من الواقع المعيش ، فقد تكون مشتركة ، في حياة كل الناس ، وقد تأخذ طابع الاستثناء ، المهم في ذلك أنها صور لتفاصيل صغيرة من الصعب ان تلتقطها عين عابرة.
المسمى ” يومي ” أصبح قيمة شعرية يفعل تداوله في القصيدة ، ولاشك أن في حضوره تأثير على بنية النص شعريا…
يبقى السؤال : هل اليومي هو المعنى الآخر للمحلي: الأمكنة ، الأسماء والمسميات … باعتباره مسرحا ، ام هو الوقائع والأحداث ، أم ما تلتقطه العين من صور إجمالا … ام هو كل ذلك ؟؟
في سياق تناولنا لليومي في ديوان ” فصائد كاتمة الصوت ” ، سيركز على خمسة عناصر هي في تقديرنا أسس متغيرات تستوجب الالتفات.

المعجم
الجدة في علاقتها العتيقة بقارورة الكحل .. التضامن المحتمل بين المسامير، المطرقة والخشبة .. العلاقة المضطربة بين الشرطي والصفارة .. الربط المصيري بين حياة البقال وكنانيش الطلق .. الاسترجاع لمواقف فائتة بالأبيض والأسود .. وغيرها ، نماذج صور تحتاج الكتابة عنها اوتوظيفها في النص الى انفتاح على معجم يلتصق التصاقا حميميا بحياة الشاعر / الانسان، معجم متداول في الحياة اليومية من قبيل المستعمل النسائي ، المستعمل المهني / الوظيفي ، مسميات الشخوص ، المرئي السينمائي :
” كعادتها الكمنجة
تلاعب الجسد والضفائر
حتى يداه الفجر السكارى
ويلقي عليهم القبض ص 34″
” هذه التي ..
في عينيها نوم لذيذ
تلف في سلتها خبزا بائتا
دلكته البارحة بأصابع مضمخة
بالحناء 55 ”
اللغة

الانفتاح على معجم متداول ، يعني توظيف لغة لها طابعها المحلي ، لغة الشارع ،الكلام البسط اليومي ، ماء الحياة ، تحنش ، المرود ، مسارب ، الكسكس ،تمرغ ، كنانيش ، بارود ، يغمز ، كناش التناوب ، شاي بائت …. هذه نماذج كلمات وظفها الشاعر في حكي شعري متميز ، والأكيد أن الشاعر عبدا لله المتقي ، يعرف المعنى الآخر لماء الحياة ، كما أن توظيف الشاي البائت وكناش التناوب ، هو توظيف لحمولة ودلالات، وليس لكلمة عابرة ، أي ان هذه الكلمات هي مفاتيح ، الكلمات الأساس التي تتشكل عبرها تيمة القصيدة والخريطة اللغوية للنص :
” قليل من التفاح
ولاشيء غير أوردة
يعبرها ماء الحياة

قليل من اليتم
ولاشيء غير دمية
وسنجاب يلهو بالفستق ص 8″
هذا الذي …
يعدو في المسارب
يخبئ في محفظته كناشا للتناوب
وقارورة شاي بائت ص 55″

تقنية التوظيف

الكتابة عن اليومي أو توظيفه تحكمه حاجيات ويؤثر في خلق صيغ وأساليب شعرية، فبساطة اليومي تفرض نوعا من المرونة التي لاتخلو من عمق في القصيدة ، المقصود بالمرونة ، الابتعاد عن الكثافة المستغفلة ، خروج النص عن سياقه العام في لحظة حاسمة وعودته في توقيت جيد .
الإفادة من الشارع بشكل حقيقي ، روح النكتة ، السخرية الهادئة واللاذعة في آن … هي صيغ غي تقديري فرضتها الكتابة عن هذا اليومي .. آخر ، هناك استحضار واعادةاستحضار لشخوص وأمكنة ومسميات أشياء وأدوات … الجدة ، الطفل ، المعتقل ، الجد ، الحذاء ، السيجارة ، القنينة ، السكارى ، الشارع ، الوطن ، الشرطي ، مقهى الكرامة ، المسارب ، قارورة الشاي ،قارو العطر ، المعطف … عملية إعادة الاستحضار تحيل الى نوع من العادة او الألفة ، ليست علاقاتية أو حميمية بالضرورة ، انما هي الفة الرؤية او صور تدخل في نطاق حقول الرؤية اليومية …
الشرطي تصادفه في ملتقى الطرق كل صباح ، وأنت طفل تقبل يد جدتك كل مساء وتتكوم مع إخوتك حولها في حلقة من الحكايا /طفلك في كل الأحوال ، ترتطم عيناك بالشارع في كل حراك ، مقهى الكرامة ، ديمومة الانتظار ، الحذاء جزء من المستعمل اليومي … كتابة الشاعر عن هذه المسميات ، الأمكنة والشخوص وتوظيفها تعني حديثا عن جزء من الرؤية او الوقائع التي تتكرر في اليوم ، هي كتابة عن مشاهد حية لكنها لاتخلو من خيال في إعادة تشكيل شبكة من العلاقات بين مكونات هذه المشاهد .. أيضا ، التقطيع الحرقي للكلمات :
ع
ر
ي
ا
ل ي ت د ح ر ج
ال م و ت
و ا ن ت ث رت
الملاحظ ان هذه الكلمات تعبر عن حالات في صورتها الاعتيادية قد لاتحقق إلا بالتدرج ، فالعرق يتصبب تدريجيا، عملية التدحرج تتضمن نوعا من التكرار في الفعل ،اليوم (ي) الياء للنسب ، مفهوم ” اليوم ” خصائصه تنتقل بالضرورة إلى اليومي حيث إمكانية اعادة (تكرار ) تمثيل لذات الأدوار أو التقاط ذات المشاهد ن بمعنى ، بمعنى حضور اليومي في القصيدة يدفع في اتجاه ، ليس فقط الانفتاح ، بل خلق وإبداع قيم جمالية شعرية غائبة او استحضارها او منحها أدوارا ودلالات أخرى غير مسبوقة الكشف.
أعود إلى كلمة ا ل م و ت ، في النص هو موت تدريجي /يومي ، طريقة إبراز الصورة او المشهد شعريا باستخدام التقطيع الحرفي ، هي قيمة شعرية تعكس روعة الكتابة الشعرية ، حيث الانسجام بين الصورة / المشهد وطريقة التعبير عنه :
” نطر إلى المرآة
تفرس أسارير جبهته وتنهد :
” ا ل م وت
يحزم حقائبه الأخيرة ص 30″

شرطي…
يصفع مواطنا
بمقهى الكرامة
يجره من ربطة عنقه
ثم يغمز النادل ص51″

القص الشعري

حين قرأت قصائد الديون ” بضمير المتكلم، لان الأمر يتعلق بإحساس خاص ) ، أحسست أنني أمام شيخ بساحة جامع الفنا في حلقة شعرية ..فالكتابة تأثرت بحضور اليومي لتحتل تيمة القص مساحة اكبر من القول الشعري ، حيث يمنحك النص وصفا سريعا للصورة/ المشهد مع غمزات توحي بالواقعة / الحدث ، حتى تبدو الوضعية اقرب للحكاية او المشهد السينمائي ، مع الإشارة الى ميزة اختيار الكلمات /الجمل الشعرية / تنظيمها في بنية القصيدة وتوقيت توظيفها .
” يمينا …
ثمة صديق شاعر
يكتوي بحرقة القصيدة
…..
يسارا …
ثمة رفيق
يحلم بشمال ابعد

بينهما كومة رماد
وثمة كؤوس باردة ” ص 26

المتخيل ، المشاهد أو المعيش

اليومي المتخيل ، او المتخيل اليومي ، ذاك الذي نحسه إحساسا بيننا ، هو واقع لكن الشاعر يعبر عنه بصورة تختلف تماما عن طريقة وقوعه : الرقصة الجنسية ، الجنرال الوقح ، خاصرة الوطن
لايمكن للجنرال ان يراقص وطنا ، غير أن ابسط درجات الوعي تبعث على الإحساس بوجود رقص خفي ، مكولس …قد يؤدي إلى افتضاض البكارة … بكارة الوطن / اعتبارا للطابع الجنسي للرقصة.
لاتهمني نهاية المقطع / القصيدة ، المهم إبراز قدرة الشاعر على تخيل وقائع يومية لكنها لاتظهر عيانا .. فالرقص على خاصرة الوطن ، هو رقص يومي ، التعبير عنه شعريا يتطلب تحريك المخيلة وتوسيع دائرة العلاقات المفترضة.
اليومي المشاهد ، هو في الأغلب متفرد ، صورة يتم بتر أطرافها السابقة واللاحقة ، والأرجح ان الشاعر لايدخل في مكوناتها ولا يؤثر في تفاعلاتها إلا بأسلوبه الشعري ، حيث يجد القارئ نفسه أمام نص شعري يعدو أن يكون لوحة او صورة فوتوغرافية او لقطة متوحدة من فيلم سينمائي …
اليومي والمعيش يكون فيه الشاعر جزءا فاعلا و(مفعولا به ) ، حضوره صريح أو بتلميحات تدل على انه يؤسس مع آخرين المشهد الشعري :
” جدتي
أجلست قارورة الكحل
على كفها وقالت :
” أتذكرين ؟” ص 30
من اجل فتح ممرات للتواصل .. افقا آخر لقراءة الديوان ، لابد من محاولات اختراقه ، اختراقا عموديا ، تماما كما هو زمن الشعر .. زمن عمودي ، بمعنى ، ليس ضرورة الالتفاف الى مقولات نقدية لاتتلاءم مع خصوصية النص . مع الإشارة إلى انني اكتفيت بمحاولة إبراز المسمى يومي باعتباره قيمة شعرية قد تؤثر في غياب او حضور قيم شعرية أخرى …طبعا دون النظر إليها او إلى تيمة النصوص .. عل الرغبة تسعفني ذات استعداد قادم في تناول جوانب أخرى من ملامح جمالية الديوان ، حيث العديد من التفاصيل الشعرية تحتاج قراءة خاصة … توظيف المقروء ، تقديم الاحتمال ، الإيقاع الشعري ، البنية والدلالة في الكتابة الهادئة .. وغيرها مما تضمنته المجموعة من مميزات جمالية تستحق الانتباه

———
– ( قصائد كاتمة الصوت ) – عبدالله المتقي –منشورات وزارة الثقافة / 2003- مطبعة المناهل

اترك رد

اكتشاف المزيد من عناوين ثقافية

اشترك الآن للاستمرار في القراءة والحصول على حق الوصول إلى الأرشيف الكامل.

Continue reading