الشاعر اليمني أحمد الزراعي في (أسلاف الماء)
علوان مهدي الجيلاني
إعادة الاعتبار للطبيعة وجيراننا فيها
يبدو الشاعر أحمد الزراعي من أكثر شعراء المشهد التسعيني اليمني حداثة لغة….. وخصوصية اشتغالات…. وابتعاداً عن مجرى الآخرين اللغوي والدلالي.
وهو في خصوصية منحاه… تحميه ثقافة واسعة، ووعي حادٌ، وتجربة عميقة من الوقوع المجاني في السهولة، أو غوايات السائد…. سواء كان مألوفاً أو موضات عابرة…..
ولكن الزراعي ما زال يكتب شيئاً له معنى… فنصه الذي يبدو داخل المدون الجديد نسيجاً فريداً في معجمه، ومفرداته، وظواهره الأسلوبية.. نصٌ يحمل موقفاً وهماً كبيرين.. فهو يحتفي بالطبيعة والأماكن والأشياء.. يؤنسنها ويذيتها، ويدين ما فعلته حضارة الإنسان بالإنسان وجيرانه على الأرض.
بيد أن نصَّ الزراعي يبدو نصاً مغلقاً أمام تحصيل دلالاته.. من جهتين: جهة اللغة الكثيفة الخاصة في معجمها وأسلوبها ونبرتها وعوالمها. وجهة المرجعيات الخاصة التي هي أيضاً بمقدار ما تبدو مرجعيات ذاتية خاصة بالشاعر تتغاور في حياته وطفولته والبيئة التي نشأ فيها… وتعامل مع كائناتها، فإنها تبدو.. مرجعيات عامة وإنسانية لعبت فيها قراءات الشاعر دوراً كبيراً.
غير أن المرجعيات الخاصة والعامة محكومة بوعي الشاعر الحياتي والثقافي، فهي خلاصة اختياراته ورؤيته وتحيزاته الفنية والأيدلوجية.
ومجموعته الأولى ((أسلاف الماء)) التي أحاول قراءتها لا تمثل حصاد تجربته الإبداعية التي تبلورت ولاح عليها النضج منذ أول التسعينيات، ولكنها تمثل اختياراته من التجربة أيضاً… وهي اختيارات تنحاز لقصيدة النثر التي حسم الشاعر… بانحيازه إليها موضوع ارتباطه بالشكلين السابقين (العمودي والتفعيلي).. ولم يحسمه….. فبين نصوص المجموعة النثرية نص تفعيلي هو نص (رؤيا) كما أن عتبة المجموعة كانت بيتاً عمودياً.. رسمت حروفه على بياض الصفحة على شكل طائر… وكان عنوانه (طائر) أيضاً.
وأحسب أن الزراعي ليس مهموماً كثيراً بهذا الاحتدام حول الأشكال.. فهو يكتب القصيدة العمودية أو التفعيلية حتى وقت قريب بوعي قصيدة النثر.
الزراعي مشغول بتحققه الإبداعي… وتحققه الإنساني والوجودي داخل هذا الإبداع.. إنه يبحث عن وجود يعيد للأشياء اعتبارها.
يمكننا أن نلاحظ التوازن بين التركيب اللغوي لعنوان مجموعته ((أسلاف الماء))… وهو تركيب حداثي فيه قلب للأدوار، إذ الراسخ في الأذهان أن الماء سلف كل شيء… ولكنني إذا انسقت لغواية التأويل سأقول إن التركيب الحداثي ودلالاته تكسر إلى حد ما…. جهامة ما صارت تدل عليه لفظة (السلف والأسلاف) من جمود.. وظلامية.
مجموعة الزراعي (أسلاف الماء) الصادرة ضمن سلسلة المكتبة الشعرية التي يشترك في إصدارها اتحاد الأدباء والكتاب اليمنيين مع مركز عبادي للدراسات والنشر 2002م، تقع في مائة وست عشرة صفحة من القطع المحير، ويسكنها تسعة وثلاثون نصاً توزعتها أربعة محاور هي: خطوات أنكيدو، ريشة على ظلي، تفكيك الزوال، وإرث العين.
منذ القراءة الأولى سيلفت نظر القارئ اشتغال الزراعي على عدد من المفردات… واختياره معجماً يكاد يخصه وحده بين أبناء جيله من التسعينيين اليمنيين….. هذا العدد من المفردات وإن كان محدوداً يتكرر استعماله له في أغلب النصوص، إلا أن حرفية الشاعر.. ومهارته.. وعنايته الفائقة بشغله، ونوعية المادة التي يشتغل عليها، تشعرك أن هذا التكرار طبيعي جداً، وأن كل شيء قد نفذ كما يجب بقدر من الإبداع كبير.
يشتغل الزراعي على مفردات وأسماء تتعلق بتخلقات الحياة من ينابيعها الأولى، وترصد سيرها في الطبيعة حاضنتنا وحاضنتها وصولاً إلى انفراط الأشياء في حتميات النهاية (الموت). وبين هذا وذاك تحفل المجموعة بأسماء جيراننا في الطبيعة: (النهر، الجبل، السحابة، البذرة، العشبة، الشجرة، الزهرة، الوردة، الشوكة، الغصن، الورقة، اليرقة، الفراشة، الذبابة، النحلة، العصفور، الغراب، النسر، الريشة، العش، المغارة، الحجر، الطين، النار، الرماد.. إلخ).
وهو حتى في غلافي الكتاب يحتفي بجوانب موحية من تلك المفردات، فقد اختار للغلاف الأمامي لوحة للفنان الصيني (كي باي شي) تصور طائراً من فصيلة النسور، كما اختار للغلاف الأخير المنزل الذي ولد فيه وهو جبل العرق منطقة حجور محافظة حجة.
وهو بطريقة اشتغاله عليها يرصدها في تجلياتها المختلفة المرتبطة بتجليات الحياة، كما يحاول كتابة سيرة لها تتأسس على جماليات تتخلى عن موروث البلاغة التقليدي.. وهو منحى يتساند مع منحاه في اختيار مفرداته وطرائق أدائه، وهما مع ميزات أخرى في كتابة الزراعي… يجعلانه من أهم شعراء المشهد التسعيني وأكثرهم خصوصية.. وهذا ما سنتطرق إليه لاحقاً في أكثر من مكان.
تشعر وأنت تقرأ ((أسلاف الماء)) بحياة الأشياء، وأن الشاعر يعيد تحريكها في داخلك… ويجعلك تحس بلذة التكرار المشار إليه سابقاً.
تَعَامُلُ الشاعر مع الشوكة، والجبل، والبستان، والفراشة، والوردة، والنورس، وغيرها من الأشياء المجاورة لنا في الطبيعة… وحتى تَعَامُلُهُ مع الإنسان (الإسكافي مثلاً) يتعدى مجرد الاحتفال بهذه الأشياء.
إنه يقوم بمحاولات مذهلة لاصطياد ما لا يُرى فيها… لعين العابر.. وكذلك ما يخفى على عين الآلف المعايش لها…. إذ الألفة كثيراً ما تتحول إلى حجاب كثيف يحجب عنَّا عوالم من نقترب منهم ونألفهم.
إن قراءة هذه الأشياء في نصوص الزراعي ستكشف لنا إلى أي حد استطاع تحويل الشعر إلى مجهر يلتقط به أعماقه قبل أعماق الأشياء، اللحظات المنفلتة الأكثر امتلاء بالإنساني والقلق العميق:
ينوس الأفق طرائده
في أوابد ضلوعنا
نشك الأسئلة المحرمة
إلى أجنحة الفراشهْ
كي نرى علق الزوال
لامعاً بنوارس المخيلهْ
نرتب البحر
نحك زرقته بأشياء ضائعهْ
نشرِّش ورقة الريح
ونثقب كريستال المستقبل
تحنن الجدوال خطواتنا
على زعتر الجبال
نعرف مكابدة الأرز
ولمعان البن الأحمر
عابرين في عواصف لدنة
نُلَمِّع أمل الوردهْ
ونتقاسم بَلُّورةَ الخراب
ساحبين أحلامنا اللا مرئية
من لمعان البهاء
تبكي أصابعنا ضفائر البنات
نرمش الزوال العالق
بعين سمكة مسحوبة
من حميمية بحرها
بصنارة
صيادٍ
قاس.
(مزامير الينبوع ص71-74)
ولا بد من الإشارة إلى أن الطبيعة (الأمكنة) وكائناتها وحتى الأزمنة (طفولة الشاعر أو طفولة الحياة) لا يتم استدعاؤها أو التقاطها محددة بمكان معين أو طفولة معينة….. حتى الكائنات.. العصفور، هو أي عصفور، والفراشة هي أي فراشة…. والجبل هو أي جبل بمعنى آخر إنها مفردات ومسميات تتعين في النصوص لإثارة التأمل في مصائر كونية، لا ينشغل بها غالباً المتلقي التقليدي للشعر في مجتمعنا، وإن حدث فعلى نحو مختلف جزئي ومباشر يحمل الصفة الآنية.. ولا يكون كلياً ولا شاملاً ولا صميمياً.
***
إن ((أسلاف الماء)) تشير إلى قلق وجودي يمارس الارتياب في حاضر العالم… ليبدو….. فقد الأشياء لمقاماتها ومراتبها واحترام وجودها إضماراً لنفي تحقق الذات، وفي الحين ذاته يبدو إضماراً لإدانة تسلط الإنسان على ما حوله وتجرده من كل المعاني الإنسانية في تعامله مع الطبيعة ومع نفسه.
وهي في حنينها إلى الطبيعة، وحنانها عليها وعلى كائناتها وعلى الحياة في طفولتها….. وخوفها على كلية الجمال تقدم تناصاً مع نتاجات وفلسفات عالمية… إنها تتمرجع إلى حد كبير في الأسطورة الفانتازية التي أنتجتها مخيلة الحداثة…. بعد الثورة الصناعية…. ونتائجها التي صارت تضاهي أية أسطورة أخرى.. من أساطير الإنسانية الكبرى خاصة بعد أن زادت المسافة اتساعاً والهوة عمقاً بين جبل الأوليمب ومدينة مانشستر..
وسوف يلاحظ القارئ أن نصوصاً كثيرة في المجموعة تهيمن عليها الرغبة في استعادة الزمن الماضي في طلاقته الأولى، واسترداد الأمكنة في صورها التي عرفها الإنسان القديم.. وفي صورها التي عرفتها طفولة الشاعر على الأقل… واسترداد الأشياء التي تعج بها مفردات الطبيعة من طير وشجر وسحاب وبرق، في بكارة تعامله معها وعلاقته الحميمية بهاـ تلك العلاقة الأكثر براءة وغريزية… العلاقة التي كانت تتمازج فيها روح الشاعر وكيانه ورائحته بروح الأشياء وكياناتها وروائحها دون الحاجة إلى تبرير أو تعليل لما يحدث.
وبسبب تلك الرغبة كان الشاعر يعمد إلى تحيين الماضي متكئاً على ذاكرة حافلة بالصور والمشاهد والروائح.. للأمكنة والأشياء التي تتبرج في نصوصه ندية خضراء لامعة.. رغم تلونها بحزنه وغثيانها مثله مما يحدث – ينطق كل منها بتاريخه وطبائعه وعلاقاته… ودلالاته الوجودية- التي هي أيضاً تعلات وجود الشاعر… وإكسير نجاته من الدمار الإنساني والكوني:
صوت ميت
في
عشبة
خضراء
صوت له ذكرى سحابة
في مخيلة
الينبوع
(صوت ص30)
***
– في طفولتي
أشعلت وصديقي قريتنا
دون جدوى
نحاول
إطفاءها
الآن
(طفولة نار، ص31)
***
– بروق تلمع في ذروة
جبل قصي
وشاعر يسحب الجبل إلى عينيه
تاركاً أوراقه بيضاء
لهواء يتدحرج إليها
تاركاً قلمه الوحيد
في فراغ العالم
(لمعان، ص 41)
***
لبستُ رخاوة الطل
منهمكاً في حساسية فتاة
تجر
حبل
الدلو
فتطلع إليها البئر فارغة
(إرث الطل، ص57)
***
إن العلاقة الحميمية بالأشياء تجلل نصوص الزراعي بحزن لا يكاد يخفى.. إنه حزن عميق…. عمق الحنين المتوهج في أعماق الشاعر إلى رؤية الأشياء في بكارتها الأولى، وروائحها الأولى، روائحها الأصلية التي تستعصي على التزييف.
الروائح المهمة لتماسكنا وتوازن وجودنا… الروائح التي تحول داخل الشاعر إلى قوة حياة تعادل خارجه المفكك المتداعي:
الداخل تحتله الرائحة
الخارج سماء آيلة
للسقوط
(صباح ميت على جدار ، مقطع رقم (7) ص48)
***
وفي مواجهة مخافة العالم وتواطؤه مع عبث غامض يستحضر الشاعر أشياء برهبة من يتذكر الموتى، ليجعل من تاريخ حياتهم قوة لنفسه في عيشها الصعب…. ولذلك تظهر الأشياء في بعض النصوص لتقدم دلالات متناقضة، فهو إذ يؤبِّن موتها.. يحتفي بها كوجهات تسحب معها أزمنتها وأمكنتها:
– مضوا إلى لمعان ينابيع
ملتبسة
تأملوا خطواتهم الميتة.
في الأشجار
سردوا إيماءاتهم
على بروق
تحننوا بلمعانها
إلى أمكنة بعيدة
أمكنة – ربما- ظنوا
بسعادة غامضة لو كانوا فيها
لكنهم لم يعودوا من ظلالهم
لم يعودوا من أطياف قراهم بعد
وحدها فراشة ظلت
تحرس الكنز
(صيرورة، ص66-67)
***
هكذا يعود الشاعر بنفسه ولغته أيضاً إلى مصادرهما الينبوعية، يعايش الأشياء ويعاشرها ويتداخل بها… ليخلق لها صيرورة تحت جلده… حتى لنحس ونلمس معه (عتمة الأودية) ، (إنصات الحجر للماء)، (بكاء النخلة سعفها الطويل)، (انكسار ظل العصفور في الأغصان المتشابكة)، (سعادة الورقة التي سقطت من بهاء الشجرة)..
وفي كل نصوص المجموعة لن يجد الشاعر لوضعيته (وضعيتنا الإنسانية) المنهارة غير العلاج الوحيد الذي يأتيه من الذاكرة.
ولفظة (علاج) في الجملة السابقة لا تدل على معناها الحرفي بالضرورة إنها لا تعني التهدئة.. بقدر ما تعني الإقلاق، ولا تعني الترميم بقدر ما تعني الزلزلة.
– ألمس بإشفاق طراوة
الماضي
تعلق حشرة البراكين
بخرائب يدي
حيث تفتح دهشتها
صهاريج
هائلة
لظمأ الخراب
(أوابد العين، ص85)
***
وفي كل نصوص المجموعة… تنحني لغة الشاعر انحناء الخاشع على أشيائها.. تحصيها بجوارح مبهورة.. تتأمل أحافيرها… وتنبش خزائنها بأنفاس لاهثة… أنفاس يرعبها أن تموت بلا تاريخ:
– أفرش أصابعي لوجود
يسَّاقط غباراً
منذ زمن قديم
تسند يدي هاوية الأشياء
ذلك الثعلب الذي وجدته
في ليل صحراوي
يحفر عواؤه الرمال
باحثاً عن جهات أسلافه
عن سر عوائهم اللاّ بد
في الرمل
هذا الكائن المسكون
برغباته الآفلة
في طين الأمكنة
هي تلك النخلة تبكي
سعفها الطويل
وكلانا نبكي قصيدة الطين
الساقطة من ضلع الأفق
(فائض الفقدان، ص98-99)
***
إن عالم الطبيعة بسلامته وسلامة كائناته وأشيائه التي تجاورنا فيه…. عالم يتقلص ويذوب كل يوم ولكن نصوص الزراعي تحاول إبقاءه.. تحاول احتباسه ليس على طريقة.. من يحتفظون لنا بنماذج من تلك الكائنات والأشياء في المتاحف وحدائق الحيوان بعد انتزاعها من سياقاته… وقتل حريتها وصلتها بمحيطها.
ما يفعله الزراعي هو إعادة تسكين تلك الطبيعة بكائناتها في إنسانيتنا، إنه يعيد تسكينها فينا بالكلمات..
بمعنى آخر.. إنها قصائد استدرج الشاعر من خلالها موضوعات كثيرة، متداخلة ومعقدة، إنسانية وشمولية….. تستهدف مصائر كبرى مثل الحياة والموت ضمن ما تستهدف.
ونصوصه إذ تتماهى مع خطوات انكيدو… ذلك التماهي الذي يعني التناص الروحي مع ملحمة (جلجامش) التي تمثل رحلة الإنسان في بداياته الأولى على الأرض… فإنها تضعنا أمام مفارقة هائلة للوجود البشري على هذا الكوكب… حيث بدأ الإنسان كما تصوره ملحمة (جلجامش) متعاطفاً مع نفسه، معنيٌ بوجوده الغض المهدد من قبل الكائنات الأخرى مرئية وغير مرئية.
وكغيرها من ملاحم الماضي فإنها تبكي لضعف الإنسان أمام جيرانه وتتغنى في عين الوقت ببطولاته الخارقة في منازلتها وحماية وجوده منها… ولكن صراع الإنسان مع جيرانه… كما تكتبه مجموعة الزراعي… يصل إلى نتيجة عكسية… فقد تغلب الإنسان وبقسوة غير إنسانية على كل جيرانه… في الطبيعة… ثم ما لبث أن عمد إلى تدمير الطبيعة نفسها- الوعاء الذي ظل يحتضنه ويحتضن جيرانه، بل إنه ليسعى حثيثاً إلى تدمير كوكبه برمته… وهو في أثناء كل ذلك يدمر نفسه بطرق شتى…. قبل أن يدمرها تماماً… بتدمير كوكبه كله.
مجموعة الزراعي.. بعكس الملاحم القديمة تبكي لضعف الطبيعة وكائناتها أمام جبروت الإنسان كذلك هي تتغنى بالبطولة الخارقة للطبيعة وكائناتها في حماية أنفسهم من جور الإنسان وتخريباته… بل–هي أيضاً- بكاء الإنسان الحقيقي الذي يكاد يندر.. بعد أن فعلت به حضارته ما فعلته بغيره من مفردات الطبيعة.
إنها تبكي.. الإنسان المسحوق بانتصاره الحضاري (المحاصر بذباب الإنترنت، وعناكب الجذام النووي).
الإنسان الذي بدأ يصارع جيرانه الخفيين والمرئيين من اشتراطات الآلهة وغيرها من الكائنات الغير مرئية إلى وعورات الطبيعة ومجاهلها ووحوشها بمختلف أشكالها وأحجامها… وتمكن من السيطرة على كل شيء.. صار اليوم يصارع وحوشاً من صنعه هو.
لم تعد الطبيعة بصحاريها القاحلة الموحشة… وغاباتها الكثيفة المرعبة وقسوة وحوشها هي التي تخيفه وترعبه… صارت المدينة بإسمنتها وحديدها وبغربتها وأنظمتها الجافة بجبروت يومياتها وبرودة علاقاتها.. بقسوة منطقها الحياتي.. هي التي تخيفه وتسحقه.
لم تعد اشتراطات الآلهة وغيرها من الكائنات الخفية وتدخلها في حياته هو ما يصارع من أجل فهمه والوصول فيه إلى حل مرضٍ له وللآلهة.. صارت اشتراطات المدينة بأنظمتها هي التي يصارع من أجل التوافق معها.
لم يعد يعاني من فائض الجهل، صار يعاني من فائض المعرفة القاتل المحير.
لم يعد ينتظر أن يتدخل الفضاء الخارجي والكواكب والعوالم الأخرى في حياته بتأثيراتها ورسلها وجنِّها وملائكتها.. صار هو الذي يغزو الفضاء والكواكب.. بآلاته ورجاله.. ويرسل رسائله إلى العوالم الأخرى وكائناتها المحتملة.
هكذا في مفارقة من أكثر مفارقات الوجود سخرية بدأ الإنسان خطواته على الأرض يصارع وحوشاً من صنع غيره… فلما أفناها كلها ودمر حاضناتها.. اخترع لنفسه بنفسه وحوشاً أشد ضراوة وأكثر فتكاً.. وصار رعبه اليوم من الأسلحة النووية أشد من رعبه الأمس من تلك الكائنات التي حفلت بها الملاحم القديمة.
إنني لم أستطرد كل هذا الاستطراد إلا لأدعو القارئ إلى الإصغاء معي جيداً إلى النص القادم.. فهو من أكثر نصوص المجموعة تمثيلاً لتلك الإدراكات التي أسلفتها:
-لا تسمع عصافير الأقاصي
موسيقى قلبك
ليل وحشي يلمس اخضرارك
وأنت تطل على غيوم الأبد
تدعك بصيرورتك على
ضوء فانوس،
ترش ماء روحك،
لعطش أمكنة منسية،
لا تسمع عصافير الأقاصي
موسيقى قلبك
وأنت تسكب ذهب الأعماق
في شقوق هباء ليلية الوجع
لا تسمع عصافير الأقاصي
موسيقى قلبك
وحدك تحرث ليل العالم
باحثاً عن فراشات
وطيوراً وأيائل
تغسل كسل الأمكنة
تهش بأصابعك الخضراء
ذباب (الإنترنت) المخيفة
محدقاً بعيني وثني
في جثة القمر
تتدلى على أسلاك الحضارة
إلى خلاء سكران
لا تسمع عصافير الأقاصي
موسيقى قلبك
تباعد بين عينيك
وعناكب الجذام ((النووي))
تاركاً جسدك في أمكنة منسية
أزمنة تدحرج
روحك
إلى هاوية النوم
نهارات تذبل في عينيك
لا شيء سوى عشبة يتيمة
على قبر كوني
(عشبة على قبر كوني، ص62-65)
***
إذا فارقنا محاولات التأويل الدلالي المحض والتفتنا أكثر إلى الجوانب الفنية في المجموعة.. التي أسلفنا بعض الإشارات إليها هنا وهناك… سنجد أنفسنا بعد تكرار النظر فيها نقع في نوع آخر من التأويل…. فليس من الصدفة أن تبدأ المجموعة بنص (أعماقنا تدب في حواف الأرض) ذلك النص الذي يتتبع خطوات أنكيدو على الأرض… فالشاعر بمقدار ما يبحث عن أسطورة الشعر بكل جمالياته الطازجة.. فإنه يبحث أيضاً… عن العوامل المتحركة في داخل الإنسان.. الحيرة التي هي الإنساني الخالص… الإنساني الخالص الذي هو الشعر.
ولذلك فإن نصوص الزراعي التي تبدو أبعد ما تكون عن المجانية أو الارتجال.. لأنها كتابة مدروسة.. تنفذ بأناة بالغة… وتعقل وتفكير واضحين.. تشعرك في نفس الوقت أن تحت جلد النص حرارة دفاقة وعاطفة عميقة.
لقد وجد الزراعي أن قصيدة النثر هي الشكل الكتابي الأفضل بالنسبة لما ينشغل به من أفكار وقلق وجودي… وتوحد بآلام الطبيعة وجيراننا فيها… وسرد ما جنته حضارة الإنسان على الإنسان وجيرانه.
اعتماد قصيدة النثر شكلاً كتابياً للمجموعة أوجد فيها تعينات سردية كثيرة…. تتوزع في النصوص ولكنها ليست مركزية.. تلك التعينات السردية ألجأت الشاعر إلى استعمالات كثيرة الأفعال سواء كانت ماضية أو مضارعة بشكل خاص.. في النصوص الطويلة:
– مضوا إلى لمعان ينابيع
ملتبسة
تأملوا خطواتهم الميتة
في الأشجار
سردوا إيماءاتهم
على بروق
(صيرورة، ص66)
***
كما فرضت تلك التعينات السردية على الشاعر منحى لا أعتقد أنه يوجد عند شاعر آخر مثله وهو الاستعمال الواسع للألفاظ الدالة على الحال وأوصافه… فاتحاً، مدخراً، عابقاً، باحثين، حافرة، وحيداً،… إلخ، وكذلك الألفاظ الدالة على الزمن أو مداومة الفعل أو تكراره… أو البطء أو السرعة أو القلة أو التوقف أو الطول والاتساع:
– كثيراً ما يدعك روحه
– قليلاً
– قليلاً
– تدخره لسراب أرجواني
– طويلاً يحس نجمة قلقه
– حين يوشوش ذهبه القديم
– لحظة إصغائه إلى نعاس أشجاره
– على أنهار طفولة بابلية
– أوابد مجهولة
– طردتنا عواصف الأزمنة
(أعماقنا تدب في حواف الأرض، ص9-15)
***
رغم إحساس القارئ بواحدية عوالم المجموعة وتمدد مفردات بعينها وصياغات بعينها على جميع مساحتها… إلا أن هناك فوارق لا يشعر بها القارئ إلا بعد تكرار القراءة ومعاودة النظر في النصوص من هذه الفوارق التي يمكن ملاحظتها.. طغيان الألفاظ والمفردات الدالة على الدبيب والخطو والسعي والمشي… والانسراب…. والتسحب على الأرض… في المحور الأول من المجموعة المعنون بـ(أعماقنا تدب في حواف الأرض) وهو عنوان يفصح عن محتواه بوضوح.
مثله مثل عبارات:
– في الربع الخالي يتأمل
تعب آدم
وآثار خطوات أنكيدو
ترقط رمل الدهر
(أعماقنا تدب في حواف الأرض، ص11)
***
– قبل عبث خطوات أنكيدو
أيقظت نعاس الأرض
لذلك لم تزل الأمكنة عابقة
بسهاد أقدامنا
(أعماقنا تدب في حواف الأرض، ص12)
– لم تزل خطواتنا ترقط أقاصي
أرض حافية
(أعماقنا تدب في حواف الأرض، ص13)
– نسحب الشعر من بابل وراءنا
نسمع أعماقنا تدب في حواف الأرض
(أعماقنا تدب في حواف الأرض، ص14-15)
– كانت فروة الجبال موغلة في نعومتها
وكنت أسوق قطعان نومي المتوحشة
إلى أصوافها
(جبل، ص17)
كذلك نلاحظ في المحور الرابع (أوابد العين) انشغال العين بما هي حاسة… وبما هي بصيرة… تراقب وترصد وتتأمل وتنتج لغة مشابهة تنقاد لانشغالاتها:
– عين ترى ورقة تسقط
ترى الماء الغائر
في ظل
ميت
لخضرة ورقة لم تسقط
في مخيلة ورقة سقطت
(سعادة الورقة التي سقطت، ص90-91)
– عين الطائر ترى جرح الفراشة
لكن وحدها الفراشة ترى
جرح الشاعر
وحده الشاعر
يرى قوس حياته المشدود
إلى العدم
(أوابد العين، ص82)
***
الاشتغالات النابعة من حداثة رؤية الشاعر وثقافته وكذلك من حداثة لغته وخصوصية معجمه.. تتخذ مظاهر مختلفة…. في المجموعة… حيث كانت تتساند الدلالات التي تنتجها النصوص مع المعجم والظواهر الأسلوبية، وبإمكاننا -إضافة إلى ما أسلفناه- أن نشير هنا إلى التكرار الذي يتبدى في ألفاظ ومفردات بعينها كانت تتبدى أكثر التصاقاً بذوق الشاعر وأكثر حميمية عند….وهي تتعين في سياقات نصوصية مثل: (الأقاصي –الحواف- الأطراف- الأصابع- النهايات) وتوازيها ألفاظ ومفردات مثل (منسية- بعيدة- أعماق- غائرة… إلخ).
إضافة إلى ذلك سنجد تكرار الجملة الذي يتكرر في أول كل مقطع…. ليوسع البؤرة الدلالية.. ويساعد الشاعر على إنشاء جمل شارحة تتنوع زوايا رؤيتها لتعمق وتوسع ما يريد النص أن يقوله جمالياً ودلالياً.. وهذا التكرار نقرؤه في نص (عشبة على قبر كوني) حيث تتكرر جملة: (لا تسمع عصافير الأقاصي موسيقى قلبك) أربع مرات، وتتكرر جملة (اخترتك وحيداً) في أول مقطعين من مقاطع نص (ريشة في الموت).
كذلك فإن اتكاء النصوص على تقنية السرد أوجد ميلاً عند الشاعر إلى تكرار الفعل نفسه في أكثر من جملة داخل النص الواحد… مثل:
– يسحب الأشجار من ظلالها
– يسحب العصافير من زقزقتها
– يسحب النهر من مجراه
– يسحب الرغبة من حواف النهود
– يسحب الطلقة
من لحم الهواء
ويسحب المسدس
من الدم
***
ضرورات السرد والحوار.. جعلت الضمائر تتعدد في نصوص الزراعي على نحو كثيف.
فبالإضافة إلى استعمال الضمير الأساس.. وهو الضمير الذي يبدأ الشاعر به نصه.. حيث استعمل الشاعر ضمائر المتكلم (أنا) وضمائر المتكلمين (نحن) واستعمل ضمائر المخاطب (أنت) مذكراً ومؤنثاً… واستعمل ضمائر المخاطبين (أنتم) واستعمل ضمائر الغائب مذكراً (هو) ومؤنثاً (هي) وجمعاً (هم).
فإنه في أغلب نصوصه.. كان ينوع الضمائر التي تتعدد أنماطها… مستجيبة لضرورات السرد والحوار… كما في نص المجموعة الأول (أعماقنا تدب في حواف الأرض) الذي بدأه الشاعر مستعملاً ضمير الغائب (هو) والفعل المضارع (ينزع، يفلشه، يشعل، يدعك، يرمق، يستوي، تدخره، يحس، يجرجره، ترقب، يوشوش، يسند) على مساحة ثلاثة وعشرين سطراً.
ثم ينتقل إلى ضمير المتكلم… الذي استدعاه السؤال وإجابته:
حتى متى أيها النهر
تعلق سمك أرواحنا إلى صنارة
الحزن..؟
حتى آخر جلجامش.
(أعماقنا تدب في حواف الأرض، ص12 )
ثم يمضي النص إلى نهايته عبر ضمير المتكلم:
(أيقظت نعاس الأرض)
وضمير المتكلمين:
(لذلك لم تزل الأمكنة عابقة
بسهاد أقدامنا)
كذلك يستجيب تنوع الضمائر وتعدد أنماطها للدواعي التي تفرضها أنماط البناء اللغوي والدلالي للنص.. ففي المقطع الأول من نص (صباح ميت على جدار ميت) فإن البناء اللغوي والدلالي للنص الذي يتغيا إحداث تواز أو انشطار تتشخص فيه تجربة الذات في كينونتها يقتضي هذا التقابل بين الضميرين (هي) و(أنا) و(الشمعة) و(الموقد الكوني)… بين خفة الضحك ونزقه، وحكمة وألم الوحدة هي في اكتفائها بنفسها وانشغالها الآني وفرحها الأناني، وعالمها المحدود (تشعل شمعة الضحك) و(هو) في اتحاده بالكون وسائر موجوداته.. وحزنه اللانهائي لما يحدث للكائن أي كائن:
(أنا أصغي بهدوء دافئ
إلى عشبة وحيدة
أمام الموقد الكوني
ولا بد من لفت الانتباه إلى أن سياقات نصوص الزراعي يتعدد فيها حتى الضمير الواحد، فذلك الحشد الكبير من الجمادات والنباتات والأشجار والحيوانات والطيور والأنهار والبحار والأقمار والشموس والنجوم.. وغيرها تعود الضمائر عليها…. أو تتخفى.. هي خلف الضمائر بصفتها كائنات إنسانية… تحس وتشعر وتعقل…. إنها ذات الشاعر… أيضاً.. وهذا ما نشعر به ونحن نقرأ قوله:
( أنا أصغي بهدوء دافئ
إلى عشبة وحيدة)
تعدد الضمائر.. الذي سنجده أكثر وفرة في نصوص أخرى مثل نص (فائض الفقدان)
حيث تتداخل وتتناوب ضمائر المتكلم (تحرضني) والغائب (برغباته) والغائبة (أحببتها) والمتكلمين (قلوبنا) والغائبين( عوائهم).. لا يحيل إلى فوضى (ضمائرية )، فهذا ليس مما يمكن أن يحدث عند شاعر متمكن….. مثل الزراعي، ولكنه تعدد مرتبط بما تشتغل عليه نصوصه، وهو عالمنا المشترك أو وجودنا المشترك.. بمعنى أوضح واحديتنا على الأرض، فالأرض بما عليها من جماد… وشجر وحيوان.. وطير وغيرها.
كل هذا التنوع يحيل في النهاية إلى ذات واحدة، فوجودنا ليس كثيراً ومتعدداً، إلا أنه واحدٌ فعندما سرد الجبل أحوال وجوده بضمير المتكلم… استطعنا أن نلمح في سيرة الجبل سيرة الشاعر وذاته
(نص جبل، ص17)
***
في حين كان نص (هباء العارف ص 23)، يتحدث عن ذات الشاعر أيضاً… ولكن بضمير الغائب.
***
من بين نصوص المجموعة التسعة والثلاثين هناك سبعة عشر نصاً تميزت بالقصر الشديد والتكثيف والاقتصاد اللغوي…
هذه النصوص القصيرة القليلة الألفاظ تجمع بين العناية اللغوية والومضات الدلالية التي تخرج غالباً من المقابلات الضدية.
كما في نصوص (نوم ص55) و(صداقة ص92) وكذلك النص التالي:
حلمت بزمن ينام
على أطراف أصابعي
حين استيقظت
كان
الصباح
مثقلاً بنوم
أصابعي
(حلم، ص29)
فمن الحالتين الضديتين للتقابل اللفظي بين (حلمت) و(استيقظت).. وبين عبارتي (نوم الزمن) و(نوم الأصابع) تخلقت الدلالة التي تصدم القارئ بالنتيجة الغير متوقعة، إنها مفارقة تتمرجع في ترث التأويل الشعبي للأحلام، حيث يفسر الحلم بمعكوسه غالباً.. فعندما يزور الأسرة أحد الموتى في المنام… لا بد أن تقابل عودة الميت إلى الحياة، ومجيئه إلى البيت ذهاب أحد أفراد الأسرة الأحياء ميتاً إلى القبر… كذلك يفسر الفرح بالحزن والعرس بالموت…إلخ.
وإلى جانب المفارقات الصادمة كانت تلك النصوص القصيرة مسرحاً للتأمل.. في الغياب والموت والنهايات الغير متوقعة.
كذلك للحكمة…. ومحاولة تقديم تعريفات جديدة للأشياء وفلسفة الحياة وحوادثها:
ما يحدث
ليس
فعل
الإنسان
بل رهافته
أمام
شوكة العالم
(شوكة العالم، ص16)
***
وأحياناً تكون فتنة الصورة وجمالها.. وقدرتها على اختزال الكثير من الكلام في ألفاظ قليلة…. تدل على خصوبة مخيلة الشاعر وحسن تعامله مع اللغة بمقدار ما تدل أيضاً على رهافة بصره وبصيرته.
سبباً للإكثار من هذا النوع من النصوص….. ذلك ما تشعر به ونحن نقرأ نصوصاً مثل:
(بستان، صوت، حيرة، حكاية، نورس، نظرة).
لنقرأ مثلاً هذا النص:
صوتٌ ميت
في عشية
خضراء
صوت له ذكرى سحابة
في
مخيلة
الينبوع
(صوت، ص30)
***
غير أن براعة الشاعر في التخلص من الزوائد اللفظية قد خانته في نص (مرثية ص22):
ليست حياة
ليست حياة يا أمي
أن تتركي
الزمان
كله
في
رائحة
القهوة
يا أمي.
فتكرار قوله (يا أمي) أفقد النص حلاوته.. وكان يمكن أن يكون أكثر جمالاً لو قال الشاعر:
ليست حياة
ليست حياة.
وتركنا نفاجأ بـ(يا أمي) في نهاية الكلام.
أخيراً….. فإن نصوص الزراعي التي تلتقي فيها خصوصية الشاعر وتجربته وطاقاته الإبداعية الكبيرة بالإمكانيات الهائلة لقصيدة النثر… تبقى نصوصاً متجددة مع كل قراءة، وكل نظرة فيها… ويبقى ما قدمته في قراءتي لها… قراءة من قراءات تنفتح عليها وتنفتح لها.