الساحلية.. نسج روائي ممتزج بشاعرية عاشق
سوسن دهنيم
“صباح ناحل
والباب نصف موارب
والساحلية ترتدي غيم القميص
وأرتدي أرقي..”
بجزء من هذه القصيدة لعبد المحسن يوسف بدأ الروائي والقاص البحريني جمال الخياط روايته الساحلية وأنهاها، والتي يعيد طباعتها للمرة الثانية متلافياً الأخطاء اللغوية والشكلية الموجودة في الطبعة الأولى، ماداً للتشكيل يداً في صفحاتها.
تلك الرواية التي ما إن تمسكها حتى تشعر بمدى شفافيتها الممتزجة باللغة الشعرية الراقية؛ فمن الغلاف الذي صاغه زهير أبو شايب بالاستعانة بلوحة الفنانة البحرينية فاطمة الجامع من خلال لونه الأزرق الذي يشي بالقدر العالي من الحميمية التي تغلف الكتاب محاكياًص عنوان الرواية، إلى المقدمات الثلاث في الصفحات الثلاث الأولى والتي - برأيي – بالغ فيها الكاتب، إلى اللوحات المنتقاة ببراعة للفنان العراقي ستار كاووش الذي سبق وتعاون معه الخياط في عمل سابق له حيث يفصل كل فصل عن الآخر لوحة بالأبيض والأسود لهذا الفنان تجعلك تحزر ما به من أحداث قادمة دون الوصول لحقيقتها..
نوارة الحبيبة والأم:
الكاتب جمال الخياطتحكي الرواية حكاية نوارة، تلك التي ما زالت تؤرق الكاتب كما ذكر في المقدمة الأولى له، نوارة العمانية القادمة إلى أرض البحرين والتي اختفت فجأة على حين غرة من الكاتب وهو طفل لم يفقه الحياة بعد، بعد أن تعلق بها أماً ثانية أرضعته الحب والحنان.
يبدأ الخياط سرده في الفصل الأول (الحكاية) مستخدماً صيغة المخاطب وكأن نوارة هذه أمامه يحادثها وتحادثه، عاقدين اتفاقية بأن كل ما سيجري هو أكذوبة أو حلم مزعج، فهل وفق الكاتب في وضع هذه الفرضية، والتي تحتم على القارئ أن يعيش ضمن أكذوبة عارف مدى مصداقيتها منذ البدء أم كان لزاماً عليه ألا يحدد للقارئ هذه المقولة حتى يترك لخياله العنان في الانطلاق؟
تبدأ الحكاية منذ الفصل الثاني والمعنون بالإمبراطورة، وفيه يستخدم الخياط كلمات التبجيل لهذه الشخصية فسماها الإمبراطورة، الأميرة، الملكة، السيدة، المتوجة..
لكنه في الوقت ذاته يطلق عليها مسميات أخرى لا تليق بهذه الهالة من التعظيم، فقد أسماها امرأة الليل، سيدة الفوضى، سيدة الحطام، امرأة الحلكة والوحدة، المجهولة، وغيرها من الكلمات المتناقضة نوعاً ما أحياناً والبالغة في التناقض أحايين أخرى..
ويستمر الخياط في تناقضه حتى في مشاعره تجاه نوارة، نوارة التي اعتبرها أماً ترضعه الحب والحنان تارة، وتارة يعتبرها حبيبة كما توحي عبارات مخاطبتها فهو يقول في أحد المقاطع:
”دعيني أستخرج أنوثتك جانباً وأدغدغ مشاعر الحب في قلبك”.
بيت نوارة:
ها هو في بيت نوارة يواصل اكتشاف هذه الملكة الليلية التي تجيئه وترحل عنه دون سابق إنذار، قاده طيف ما إلى هناك إلى حيث ذلك البيت الذي يعرفه جيداً ليدخله ويراها في الداخل شابة كما كانت لم تعبث السنين بنظارتها ولا برونق وجهها عدا في تثبيت هالة سمراء بالكاد ترى حول عينيها كما ذكر.
في سرد لا يخلو من فنتازيا جميلة يواصل الخياط رحلته في بيت نوارة، معلناً شجاعته التي اتقدت عندما رأى دموعها، وكأن هذه الدموع التي أحرقت السجاد من حرارتها، أحرقت الخوف بداخله لتخلق من رماده روحاً جديدة مليئة بالإقدام.
يواصل مع نوارة مسيرته حيث توصله للدرجات الخضر من عمره فيبدآن من جهة اليمين رحلة العودة إلى الماضي الذي لم يكملانها بسبب بكائه فيغيران الطريق ليذهب إلى جهة اليسار التي بها نواياه السيئة عن طريق شريط مصور مليء بالأحداث الخرافية التي برع في تصويرها حتى لكأنك تشاهد فيلماً سينمائياً تدور أحداثه في مكان تجهله، أبطاله شخصيات وهمية خاطها خياط بارع في ابتكار الجديد، والأهم أنه يشوقك للحكاية عندما تحذره نوارة: ”الأهم من ذلك أن تلتزم الصمت والسكينة مهما رأيت أو سمعت. كل تشويش أخرق أو مقاطعة صبيانية تعني الكارثة التي لا يوقف زحفها حتى المعجزة التي تساندك حتى هذه اللحظة”.
يخترق جسد الخياط لافتة الماء ليبدأ فصل جديد في الرواية.
لافتة الماء والتتويج:
يدخلها الخياط فتدخل معه في لعبة الخيال المصاغ سينمائياً لتشاهد فيلماً من إخراجك أنت، هنا يدخل الخياط المغامرة وحيداً تصحبه دعوات نوارة وطيفها في أحيان تجد الأمور واضحة عدا ذاك الحارس المخفي الوجه الذي يظهر بين الفينة والأخرى متلافياً إظهار وجهه، فتزداد الأسئلة داخلك حول كنه هذا الرجل وحقيقته.
لم يخل الفصل المعنون بلافتة الماء من العبر والعظات حيث استطاع الخياط أن يقول ما يريد عن طريق الأحداث الحوارات الداخلية دون أن يقدم محاضرة أخلاقية أو تربوية للقارئ، فصل مليء بالمغامرات الخيالية التي خاضها الخياط مع نفسه الشريرة وأبطالها من أعمال وشخوص.
في الفصل ما قبل الأخير (التتويج) يقدم الخياط صورة غرائبية للحدث حيث توصله نوارة إلى خرابتها لتتوجه على رعية وهمية لا وجود لها إلا في حياتها، فيتوج ملكاً رغم رفضه بادئ الأمر أخذ مكانها الذي أحبه ولقبها الذي كرره منذ بداية الحكاية حتى بعد تلك اللحظة: ملكة الخرابة.
في نهاية هذا الفصل يبدأ التمهيد للفصل التالي: المحاكمة عن طريق ذلك الراعي المبهم الذي يمسك بزمام الأمور.
المحاكمة:
وتأتي النهاية نهاية هذه الرحلة الذي سردها الخياط بفنتازيا السرد مرة وبالواقعية المهيبة مرة أخرى، بأسلوب تناغم بين السردي والشعري، لتبدأ محاكمة البطل دون أن يعرف سبب المحاكمة وكأن نوارة قد أعدت كل هذه الحكاية لتصل إلى هذه اللحظة التي زجته بها عنوة ودون سابق إنذار، ها هو الراعي يبدأ المحاكمة ويبدأ بتوجيه التهم إلى الذي توج قبل قليل ملكاً على هذه المملكة لكن نوارة وكما اعتادها تدافع عنه وتمسك زمام الحديث لتسرد كيف ظلمها أهل حيها وكيف تناقلت الألسن حكاية مبيتها في بيت رجل أعزب لم يمسها بسوء بل كان رحيماً عطوفاً عليها، ولكن وكعادة البشر يحكمون على غيرهم من الظاهر فترحل نوارة مع عائلتها بعد أن حرمت من صغيرها الذي ربته وخالته ابناً لها حسب عهد تم بينها وبين أمه التي أنجبته، وكانت منشغلة عنه طيلة الوقت، تظهر المحاكمة قصة تمسّك البطل بنوارة وارتباطه العاطفي بها ولكن وفي النهاية يتم النطق بالحكم: يُهَجّر الملك عن مملكته وتؤخذ منه نوارة عنوة كما حدث في السابق لتعود الحكاية إلى أصلها نوارة بعيدة وهو ينتظرها ويتألم لرحيلها
في نهاية الرواية يناط اللثام عن وجه الراعي الذي اكتشف البطل أنه ابن نوارة العاق الذي جاء يستردها منه ويأخذها لينتقم من حبه لها أو من حبها لها.
لقد نجح الخياط في رسم صورة جميلة للعلاقة البريئة بين المربية وابنها الذي لم تنجبه، لكنه أخفق في بعض الأحيان حينما تخبط في التعبير عن هذه المشاعر التي تبين للقارئ مدى تناقضه في وصفها.
الساحلية نسج روائي أبدع الخياط في وصف أبطاله بإسهاب لم يخل من الشعرية حيث كانت عبارات الوصف طويلة ومليئة بالصور البلاغية الجميلة التي تحاكي الشعر في بعض مواضعها.