إيليا كازان .. مؤسس أستديو الممثل وضحية المكارثية
خالد ربيع السيد
إيليا كازانفي أواخر سبتمبر 2006، حانت الذكرى الثالثة لوفاة المخرج المسرحي والسينمائي الأمريكي اليوناني إليا كازان . الشخصية المؤثرة في برودواي وهوليوود، وفي الثقافة الأمريكية الفنية كلها . لا سيما وهو مكتشف ومدرب العديد من نجوم السينما العالمية ،من بينهم مارلون براندو وجيمس دين ، آل بشينو ، روبيرت دينيرو ، ميريل إستريب ، جاك نيكلسون ، جين فوندا، أنتوني هوبكنز .. والعشرات من الممثلين والممثلات الأكثر تميزاً في تاريخ هوليوود، حيث شرّبهم تلك الفلسفة القائمة على ما أطلق عليه “المدرسة الأسلوبية في الأداء” أو (أستديو الممثل) والتي تحث وتعلم الممثل الإعتماد علي نفسه كمصدر أساسي في التقمص والأداء بدرجة أكثر مما هو مكتوب في السيناريو أو من توجيهات المخرج ذاته ، وبدلاً من أن “يقلد” الممثل الشخصية الخيالية الموجودة في السيناريو , فإنه يتعين عليه أن يقوم بالبحث في داخله عن مشاعر مشابهة لمشاعر الشخصية ، فيستوحيها ويتقمصها ثم يتصرف (يمثل) علي أساس أسلوبه الذاتي ليتحول هو نفسه إلي (الكاركتر) بشرط أن يترك له المخرج حرية الأداء .
ولد إليا كازان في السابع من سبتمبر 1909 لأبوين يونانيين كانا يعملان في تجارة السجاد في القسطنطينية ، و هاجر بعد أربعة سنوات من ذلك التاريخ الى الولايات المتحدة ، وكان قد كابد خلال دراسته للغة الانكليزية في معهد وليامز، الذي تخرج منه في سنة 1930، قسوة إقصائه من أوساط النخبة البيضاء في الولايات المتحدة التي تضم البيض الانغلوسكسون البروتستانت .
كان يسارياً مقتنعاً ومقنعاً ، وناشطاً في التكتل الشيوعي الأمريكي نشاطاً بالغاً ومؤثراً فيه منذ العام 1934 الى العام 1936 . وقد تنامى دوره في الأوساط الفنية اليسارية قبل الحرب العالمية الثانية تنامياً ملحوظاً . درس قبل ذلك الفن المسرحي في مدينة بال مدة سنتين قبل أن ينضم في سنة 1932 الى فرقة “مجموعة المسرح” ـ مؤسسها لي ستراسبرغ وهارولد كلورمان ـ التي كانت تؤمن بالافكار التقدمية وبالعمل الجماعي ، وشكلت احد أقطاب الحركة المسرحية في نيويورك إبان الثلاثينيات ـ
كان كازان ناشطاً أيضاً في “المسرح الفدرالي” الذي أسسه أورسون ويلز وجون هاوسمان ، وخلال سنوات الإعداد المسرحي هذه مارس العديد من المهن منها: مسئولا عن إكسسوارات الممثلين ، و ممثلاً ، و مساعد مخرج ، ثم مخرجاً مسرحياً ، أخرج العديد من المسرحيات الاجتماعية الجيدة.
وعندما أقفل محترف «مجموعة المسرح» ذهب كازان الى هوليوود حيث لعب دورين في فيلمين للمخرج أناتول ليتفاك ، ولدى عودته الى نيويورك أصبح خلال الحرب العالمية الثانية أحد ألمع المخرجين المسرحيين في برودواي. وصادف أن كانت شركة “فوكس” تبحث عن مواهب جديدة فاستدعته ، وكان سنتها في الثلاثينيات من عمره وقد عرف العمل السينمائي عبر بضعة أفلام وثائقية وأفلام روائية قصيرة ، بيد انه بإنضمامه الى “فوكس” حظى بخبرات عملية منهجية، خاصة على يد ليون شامروي الذي سيغدو مديراً لتصوير فيلمه الأول (شجرة تنمو في بروكلين) سنة 1945 .
توالت أفلامه ذات الطابع الاجتماعي الغزير للمنتج “داريل زانوك” فأنتج له “بوميرانغ” و “جنتلمان” سنة 1947 ، حيث حاز الأخير على العديد من جوائز الأوسكار، ثم تناول موضوع العنصرية في الجنوب الأمريكي في فيلم “بينكي” أو “القرنفلي” سنة 1949، الذي كان قد بدأه جون فورد.
لكن صورة إيليا كازان المخرج الفذّ والمدير البارع للممثلين لم تكتمل إلا مع فيلم “ذعر في الشوارع” والذي صوّر بالكامل في شوارع نيوأورليانز ، كفيلم سوداوي يحكي عن تفشي داء الطاعون في مدينة يحكمها رجال العصابات .
في بداية عام 1952 أنجز كازان إحدى أهم أعماله السينمائية للكاتب «تنيسي ويليامز» تحت عنوان “عربة تدعى الرغبة” Streetcar Named Desire بطولة مارلون براندو وفيفان لي، وكان قد قدم نفس القصة كمسرحية على خشبة إحدى مسارح برودواي عام 1947 مع براندو وكيم هانتر.
و الملاحظ في سيرة كازان أن عمله في المسرح لم ينقطع البتة طوال سني حياته ، فكان يعمل في السينما و المسرح في آن واحد ، ولكن فيلمه الأثير سابق الذكر “عربة تدعى الرغبة ” يعتبر التجربة الأولى والناجحة لمنهجية ومدرسة «الآكتورز أستوديو» والتي أسسها سنة 1947 مع شيريل كراوفورد وروبرت لويس، والتي أشرنا إليها في بداية الحديث، فقبل أن يترك مسؤولية إعداد الممثلين لرفيقه المخلص “لي سترايبرغ” كان قد أرسى مفاهيمه ونظرياته وفلسفته في النهج الأسلوبي للأداء التمثيلي ، وتخرج على يده في عام 1952 ـ وهو عام إبتعاده عنها ـ كل من : منتجمري كليفت وبول نيومان وعلى رأسهم بالطبع مارلون براندو وجيمس دين .
بكل المقاييس كانت المفارقة السيئة تكمن في أن هذا العام كان عاماً اسوداً في حياة كازان ، ففيه كانت الحركة المكارثية في أوج نشاطها، وهي الحملة التي إستهدفت إجتثاث الشيوعيين في الولايات المتحدة . . وهنا حدثت الواقعة ، حيث كشف عن أسماء زملاءه القدامى في الحزب الشيوعي أمام « لجنة الأنشطة المناهضة لامريكا» ، ليس ذلك فقط ولكنه ارتكب خطأ جسيما آخراً، ونشر بياناً في صحيفة نيويورك تايمز يدافع فيه عن شهادته أمام اللجنة ، فعرف من لم يعرف ، وتفرج من لم يشتري ، وإنقلبت الدنيا على رأس الرجل . أولاً وصفوه بالمرشد والخائن والعميل … الخ ، وثانياً راح النقاد يحللون أفلامه على إنها أعمال تبريرية لفعلته ، حتى أن أشهر أفلامه على الإطلاق “جبهة الماء” أصبح بعض النقاد يعتبرونه دفاعا سافراً وممجوجاً عن جريمته في الإرشاده عن أسماء الشيوعيين . . لقد إنشق كازان على التجمع الشيوعي الأمريكي قبل نحو 17 عام من حادثة الإفشاء واعتبر حينذاك أن الشيوعية تشكل تهديدا حقيقياً للديمقراطية … هذه الوشاية/الخطيئة/الخيانة ظل الهوليوديون والسينمائيون في أوروبا كلها ، في حال عجز تام عن غفرانها ، وبقيت نقطة سوداء تلطخ سمعته أينما حل ، وبعدها تبرأ رفاقه من صداقته ، وبقي معلقاً مشوها لا هو مكارثياً شريفاً ولا هو شيوعياً نزيهاً ولا هو محايداً كريماً. . ولن يُنسى إحتجاج الجماهير وتصفيرهم وأطلاقهم (أووووو) بطريقة غير ترحيبية ضدّه عند ظهوره في حفل الأوسكار عام 1999 ليتسلم أوسكاره التكريمي عن مجمل أعماله .
بأي حال من الأحول لم تفده وشايته تلك على الصعيد الإنساني ، رغم رفضه في البداية الأدلاء بشهادته ، إلا أنه سرعان ما وجد نفسه منبوذاً بعد أدائها من رفاقه السابقين ولم يكسب بعدها رفاقاً جدداً . و لكن من الناحية المهنية وفّرت له الوشاية موضوعات كثيرة للأفلام التي التبس فيها هاجس الندم بهاجس التبرير محاولاً توضيح أنه تعرض للضغوط الشديدة التي تناولت حياته المهنية مما أجبرته على الرضوخ لها .. وشهد شهادته التي شوهت صورته الى الأبد . في حين أُعتبر آخرون كأبطال حريات لأنهم رفضوا الاعتراف والوقيعة بأحد ، مما كبلهم خسائر جسيمة ودفعوا الثمن غالياً ، ولكنهم كسبوا الإحترام والتقدير الإنساني ، ولكن التاريخ لا يظلم أحداً فعلى الرغم من أن كازان قد عومل حتى رحيله بوصفه خائناً فليس هناك خلاف حول أهميته السينمائية والفنية .
قدم مع مارلون براندو فيلم ” فيفازاباتا” في العام 1951. وبعد هوجة المكارثية أنتج فيلم “على رصيف الميناء” سنة 1954 مع مارلون براندو أيضا ، ثم فيلم ” شرقي عدن” 1955 الذي قدم فيه لأول مرة جيمس دين في دور بطولة مطلقة ، وفيلم “بيبي دول” 1957 و”النهر المتوحش” 1960 . ثم “امريكا امريكا” 1963 المأخوذة قصته عن روايته التي سرد فيها جزءاً من سيرته الذاتية وأبدى فيها تعلقه بأمريكا وهجرته اليها قادماً من القسطنطينية . ثم قدم فيلم “روعة على العشب” و “التدبير” سنة 1969 وكانا أكثر أفلامه حميميةً . ثم قدم “الزائران” 1971 ، و شارك في تمثيل وإعداد فيلم “الأب الروحي” مع صديقه مارلون براندو في السنة 1972 وأخيراً قدم “آخر العمالقة” 1976 الذي إستعاد فيه خيطه الإبداعي الذي كان يربطه بماضيه المشرق ،. . بعد ذلك توقف عن الاخراج تماماً وتفرغ الى الكتابة السيرية والتأملية.
رحل ايليا كازان في 28 سبتمبر 2003 عن 94 عاماً ، وغاب برحيله احد أهم الشخصيات السينمائية العالمية في القرن العشرين ، تلك الشخصيةً التي أثارت سجالاً فنياً وسياسياً وأخلاقيا لم ينتهِ حتى اليوم .
2006