محمد القعود في “كتابات بلون المطر” .. ولدٌ في أقصى الذاكرة وحديقة تلبس رداء الحداد

علوان مهدي الجيلاني

لا يسعك وأنت تقرأ (كتابات بلون المطر) للشاعر محمد القعود. إلا أن تنبهر بهذا (المهرجان الشعري، المعطر ببارود الفجيعة) وبهذه (الرسائل المفخخة بالمرارة) وتلك (الحديقة التي تلبس رداء الحداد) وذلك (الحزن الذي يتناسل كالفزع)، وتجد نفسك إزاء (ولد في أقصى الذاكرة يؤرخ لحيرة مواجعه)، فيحيرك ويقلب عليك المواجع.
طبعاً.. العبارات المقوسة مقتبسة من الكتاب.. بالتحديد من نص (تضاريس لفنتازيا الأسى ص18).. وهي غيظ من فيظ امتلأ به الكتاب الذي صدر خلال العام 2000م، في تسع وسبعين من القطع الصغير… وضمن بين دفتيه واحداً وعشرين نصاً إضافة إلى صفحة الإهداء، ومقدمة قصيرة في صفحتين كتبها الدكتور عبد العزيز المقالح تحت عنوان(إشارات).
أما مقدمة القعود.. ففي صفحتين أيضاً، برر فيها تحت عنوان (ما يشبه البوح)، إقدامه على طباعة الكتاب.
إضافة إلى لفت نظر القارئ في سطور تحت عنوان (توضيح لا يهم أحداً) إلى معياره الشخصي هو في النظر إلى ما تدلى من غصون هذه الصفحات / الكتاب.
كتابات بلون المطر تحتوي كما قلنا على واحد وعشرين نصاً.. تختلف في توزيعها .. والشكل الذي تمت كتابتها وفقه.. فهناك أربعة عشر نصاً من هذه النصوص ينضوي تحت العنوان الكبير لكل منها عناوين داخلية – تقسم النص إلى نصوص- وقد تصل تلك العناوين إلى أربعة عشر عنواناً كما في نصوص ( يوميات محاصرة بالريح ص51) (أصابع الأسى ص 56) (صبح ينفر الهديل ص70)، وقد تكون ثلاثة عشر عنواناً كما في نصي (طفولة المطر ص37، اعترافات المطر ص33) ، وقد تكون عشرة كما في نصي (صمت ينسج الحكمة ص9، راية الريح مجدها ص31)، أو تسعة كما في نص (لاتهوى إلا انتخابي ص14، غربة تتقن فصاحة الانتماء ص34)، وسبعة في نص (طفل يطارد المدى ص27) وستة في نص (تائه في الفصول ص49) وخمسة في نص (زهور الغصة ص22)، وأربعة في نص (شظايا الأمل ص68).
مع الإشارة إلى أننا نجدد في النصين المحتوي كل منهما على ثلاثة عشر عنواناً لجوءاً إلى تقسيم عنوان داخلي عن طريق الترقيم، فالنص (طفولة المطر ص37) ينقسم إلى ثلاثة عشر عنواناً العنوان العاشر من عناوينه الداخلية وهو (ذوبان) ينقسم إلى فقرتين مرقمتين بالرقم واحد، وتحته ستة سطور واثنين، وتحته ثلاثة أسطر.
أما نص (اعترافات المطر ص34)، وهو أيضاً ينقسم إلى ثلاثة عشر عنواناً فينقسم الخامس منها، وهو (ملل).. إلى فقرتين برقمين 1 وتحته أربعة أسطر و2 وتحته خمسة أسطر.
بالنسبة لبقية النصوص.. هناك أربعة نصوص قسمت داخلياً باستعمال الأرقم.. وهي: (إشراقات شظايا ص60 = 11 رقماً، قوس الحنين ص 75 = رقمين). فيما تم تقسيم نص (نشيد الندى ص62) بواسطة الفواصل (النجمات) حيث قسم النص إلى أربعة مقاطع.
نصان فقط يخرجان عن هذه التقسيمات، هما:
1- (تضاريس الأسى ص18)، وهو نصل طويل يحتل أربع صفقحات، وقد كتب على شكل فقرات تعد بإحدى عشرة فقرة، ولم يستعمل في الفصل بين الفقرات لا العناوين ولا الأرقام ولا النجمات، بل استعمل البياض.
2- (مواجع ص74)، وهو نص حاول أن يتخذ الشكل الشعري العمودي، وفيه قصدية واضحة للنسج على منوال قصيدة البردوني (وجه الوجوه المقلوبة) المنشورة في ديوان (زمان بلا نوعية ص 17)، والتي مطلعها:
الرقم العاشر كالثاني
الواحد ألف، ألفاني
يقول القعود:
زمن عرى وجه الزيف
كيف يخفي وجه الثاني
والنص عبارة عن سبعة أبيات لا غير.. وهي المحاولة العمودية الثانية في الكتاب بعد المقطع المكون من ثلاثة أبيات في ص 54 تحت عنوان (العابرون)، وهو العنوان رقم 12 من العناوين الداخلية لنص (يوميات محاصر بالريح) ص51.
((وتجمعوا كي يجمعوا
ما بددوا ما ضيعوا
ليرقعوا ما مزقوا
ليرمموا ما صدعوا
من كل فاجعة أتوا
ولكل فاجعة أتوا)).
أغلب نصوص كتابات بلون المطر كتبها القعود بين نهاية الثمانينات وبداية التسعينيات، وبعضها كتب في منتصف بل وبعد منتصف التسعينينات.. بيد أن القعود لم يؤرخ إلا نصين:
الأول: (تضاريس لفنتازيا الأسى ص18)، وقد ذيله بمكان الكتابة والتاريخ هكذا (صنعاء /1992م).
الثاني: (قوس الحنين) الذي كتب بتاريخ 15/1/1996م.
ما جعلنا نقف تلك الوقفة الطويلة مع التقسيمات الداخلية للنصوص.. كان غرضاً آخر إلى جانب الغرض الوصفي التعريفي هو أن العنوان الكبير الذي يضعه القعود في أعلى الصفحة.. لتعدد من ثم العناوين من تحته، لا يعني بأي حال من الأحوال واحدية النص ووحدته الموضوعية.. على النحو الذي يمكن أن يتبادر إلى الذهن – إلا بمقدار ما يمكن للعنوان الكبير الذي بوصفه خيطاً جامعاً أو عتبة ندخل عبرها إلى تلك النصوص الصغيرة المعنونة أو المرقمة أو (المفوصلة) التي يمكن أن تتقارب اهتماماتها أو تتوحد.. أو تختلف.. ليس في الموضوع.. فحسب بل الشكل.. وهذا في الحقيقة قليل.
يحتاج الوقوف على نماذج مختلفة من الكتاب إلى صفحات طويلة كما أنه يخرج بنا عن الغرض من العرض الوصفي.. ولكننا سنكتفي بوقفة صغيرة مع بعض النصوص نجعلها (طعمة) للقارئ العزيز، ولتكن البداية من النص الأول في الكتاب، وعنوانه (صمت ينسج الحكمة ص9) يحتوي على عشرة عناوين داخلية تضم عشرة نصوص.. في النصوص (1، 5 ، 6، 10)، وهي (جغرافيا الشجن، صورة ضميري (إلا القصيدة) مشاهد)، يستعمل الشاعر ضمير المتكلم.. متجهاً إلى الذات متأملاً ويلاتها من اكتئاب واضطراب وانكسار… وانشطار داخل الروح يجعلها حرباً على نفسها لتصبح الذات في النهاية خراباً ودماراً..
((طرفي نصل، وخطوي أعصابي
قلق يعصف بي
تحت جلدي
يشعل الحيرة.. يفجر كل براكين صمتي
يعتلي قمة انكساري
ويعلنني للخراب)).
هذا ما يقوله القعود في (جغرافيا الشجن)، أما في (سورة ضميري) فيتسع الجرح وتكثر المفردات المفزعة الدالة على الشجن والمعاناة ونجدها مصادر مضافاً إليها ياء المتكلم (نزيفي – حطامي – خوفي – هلعي – تيهي – فزعي – انكساري – غباري – ذهولي – ذبولي) التي يثبتها لذاته التي امتلأت بها، وصارت سورة يتلوها ضميره فيما هو يبحث محتاراً وقد عز الاتجاه والانتماء والوطن واللغة، والريح والقمة والنشيد والوردة، والحزب وحتى الفاجعة.. وأخيراً الأرض التي يقيم عليها عصر الطفولة، وحضارة الندى والفجر الذي يقرأ فيه سورة ضميره.. ولا ينتهي النص إلا وقد ملأ نفوسنا بالفجيعة وعلى شفاهنا سؤال كبير.. لماذا..؟ ولكن الإجابة تأتينا من النص التالي.. (إلا القصيدة) حيث يقول:
(كل جدار اتكئ عليه ينهار
كل غصن يعشعش فيه قلبي ينكسر
كل فضاء تحلق فيه روحي يضيق
كل أفق ألتجئ إليه، يسلمني للبداية
إلا القصيدة..!!)
إنها إذن فجيعة الشاعر الذي رأى ذاته ورأى الآخرين.. فتشكل وعيه بمشاهد قاسيةـ غاصة بالمتضادات والمفارقات التي تقول الهم وتخلق شعرية النصوص، وتملأ كلماتها بحرارة الإبداع وماء الحياة..
هكذا نقرأ القعود.. مجروحاً بما رأى وسمع.. منكسراً بالحياة التي وقع في هوتها:
(رأيت
المرأة تركض
والشارع يلهث
رأيت
الزمن يكبو
والعمر يتشظى
رأيت
الوطن يغفو
والشهيد يصرخ
رأيت
الشاعر يضيء
والآخرين ينسجون الظلام
رأيت
……………………..
والهوة يتسع جوعها..)
***
في النصوص الستة الباقية وهي النصوص (2، 3 ، 4 ، 7، 8) وعناوينها: (خريف، عازف، مجنون، عشق، إطلالة).
وفيها يتأمل القعود:
1- الطبيعة في نص (خريف).
2- الإنسان في نصي (عازف، مجنون).
3- الوطن في نص (عشق).
4- حالتان في نصي ( إطلالة، مشهد).
ويستعمل في تأملها الضمير الثالث.. ضمير الغائب، وما عدا نص (عشق) غير أننا عندما نتأمل الخريف.. الذي يثرثر بغلته الشاحبة ويتأبط الذبول ويتنزه هنا وهناك في ملامح الأشياء، ويجلس في حديقة العمر ويتسلى بقطف الذكريات الهاربة، سنجده – يتساوى في الحال مع ذلك الشاعر ((الذي يجلس في ليل ظالم وصمت يتيم.. مع شمعة تثرثر بدمعها الذي ينزف فوق البياض ضجيج أعماقه)).
الخريف والشاعر يتجليان معاً: في ذلك العازف العابس والفتى الراقص، والمشاة الذين لا يعرفون إلى أين يمضون.. وفي المجنون الذي يمد رجليه في أقصى الخرافة ويحملق في اللاشيء غير عابء بحماقات المشاة.. ونظرات النسوة المتلصصة.. لأن العالم لديه مجرد نفثة دخان وخطوة مبهمة.
إن الحريق الإنساني في هذه النصوص مبهم كله.. ونفثه دخان مجنون هي نغم العازف الهارب في السكون، وضجيج أعماق الشاعر النازف على البياض – ولغة الخريف الشاحبة.
إنها الهوة التي يتسع جوعها.. بسبب الآخرين الذين ينسجون الظلام، بل بسبب الوطن الذي يغفو عن صراخ شهدائه.. وضياء شعرائه، ويجعل من عشقنا له سخرية – ومفارقة بديعة.. كما يقول القعود في نص (عشق):
وطن نأتيه
من وريد القصيدة / فاتحة
البراءة
نمد إليه الصبح
ونكحل تيهه بالمدى
نخضب وحشته بصخب
الطفولة
نزوجه نكهة الرؤى
نقشر من أصابعه الذبول
نمنحه أضلاعنا أجنحة
وأحلامنا فضاء
نطهره من رجس الغبار
نعمده بضوء الفؤاد
وندعوه:
(يا قاتلنا)….!
***
مواجع القعود التي وقفنا عليها في أول نصوص الكتابات.. تتكرر بنوعيات مختلفة في أغلب النصوص اللاحقة.. إذ يسكنه هذا المزيج المتماهي من هم الذات، وهم الآخر إنساناً ووطناً.. فما يكتبه القعود ليس إلا (تحية للردى ص25)، حيث (لا صدى إلا فجيعة الشجن ص24)، التي تتحول إلى هم ملحاح على هذا النحو:
في كل وقت
تتدحرج جمجمة صمتي
معلنة ميلاد لغة جديدة
في كل وقت
يتدلى شجني
من مشنقة القصيدة
مؤرخاً لجرح جديد
(ص25)
***
في (ما يشبه البوح) قدم القعود كتاباته حذراً.. فلطالما داهمه هاجس مغرور يسخر من هذه الكتابات، ويطالبه بكل قسوة أن يعلن براءته منها، وينفيها إلى النسيان (تحت مبرر أنها مرحلة قديمة وبداية غابرة تجاوزتها بمراحل) ص7.
ثم يكتب توضيحاً زعم أنه لا يهم أحداً، قال فيه:
إن (ما يتدلى من غصون هذه الصفحات / الكتاب، هي خلجات قلب وبوح ضمير، ونشيد روح، وليس المطلوب قراءتها بعدسة معايير الشعر، أو النثر.. أو… أو… إلخ).
إنها (كتابات بلون المطر)، وهذا هو نبضها وملامحها وجنسها الأدبي، فهلا تم مصافحتها بأصابع تجيد لغة الندى، وهلا تم معانقتها بعيون تجد قراءة المطر) ص8.
وأريد أن أقول – وهذا ما سيقوله معي كل من يقرأ هذا الكتاب قراءة محبة وجادة-، إن القعود كان محقاً بقوله عن هذه الكتابات (هي خلجات قلب وبوح ضمير.. ونشيد روح). ولكنه كان مبطلاً في مطالبتنا بقراءتها بعيداً عن معايير الشعر.. ولعل القعود – وهو غير موفق غالباً- حين يلجئ إلى العمود أو التقفية في النصوص التفيعلية – لعله كان مسكوناً بهذا الهاجس الذي دعاه أكثر من مرة أن يعلن البراءة منها..
سنقرأ إذن كتابات القعود في معايير الشعر.. وسنجد أنها تمتلأ بالعشر امتلاءً مدهشا.. فهي كما قال الدكتور المقالح في (إشاراته ص 6):
((تنطوي على قدر كبير من الذكاء في اصطياد اللحظات المشرقة واللحظات الغاربة بسنارة اللغة وحدها)).
وهي (تمتلأ بالإيماءات المكثفة السريعة والإضاءات الغامضة ص 6).
ويستطيع القارئ أن يقف أمام عشرات النصوص من هذا النوع داخل الكتاب.. من مثل قوله في نص صغير بعنوان (حب)، من نصر كبير بعنوان (تحت ظل الحنين):
قل لي: كيف مرت فيك الشهقة
الطعنة
الغربة
الحيرة
أيها السيف؟
قل لي: كيف
رق النصل وسار ريشة
مثخنة بألوان الطيف
كيف انحنى فولاذ الردى
في حضرة الرعشة
هل هو الخوف؟
– لا …….
إنه الحب
(ص 14)
ألم يعبر القعود في هذا النص عن دهشة الحب.. ومباغتة أحاسيسه بشعر خالصٍ وقدرة فائقة على الامتاع والإيصال أيضاً.. لا أتحدث هنا بصوت الناقد الذي يلزمه أن يدرس النص ويقول ما يقوله عنه وقف ما أوصله إليه منهجه… ولكنني أكتب انطباعاً أثبتته في نفسي القراءة.. التي جعلتني أشعر أن القعود واحد من أولئك الكبار، ومع ذلك فإن مصادر الإدهاش وماء الشعر وحلاوة الإيقاع وإتقان الصورة كلها واضحة لمن يريد أن يقف عند النص.. في تراكبيه وصوره وكثافته البالغة.
مثل النص السابق هذا النص أيضاً وهو بعنوان (وحشة):
لم يبق لي من الأصدقاء
إلا دمعة
مزمنة
في تجاعيد العمر
إلا طعنة خضراء
يتسلل منها الحزن كل مساء
(ص16)
وهناك كما قلت عشرات النصوص غيرها في هذا الكتاب الذي صف بكل مضغوط وحروف صغيرة، فهو إن كان يقع في تسع وسبعين صفحة، إلا أنه كان يمكن أن يكون ضعف حجمه، لولا أن مؤلفه كان محكوماً بتكاليف الطباعة – مع الأسف الشديد-.
يبقى في استعراضنا لمولود القعود الأول (كتابات بلون المطر) أن نقول: إن موضوعات الدرس في هذا الكتاب كثيرة، الأسلوب والغة والهموم.. التي يمكن أيضاً تجزئتها ودرسها كلاً على حده، فعلى سبيل المثال: موضوع الطفولة – طفولة الكاتب- التي تشكل هاجساً بارزاً في كتابات القعود، كما أن معجمه وصوره، وبؤره الدلالية كلها من الثراء والإتساع بما يجلعها مواضيع لدراسات مستقلة.
ويكفي هذا العرض أن يكون قد أعطى مجرد لمحة تصف الكتاب وتعرف بمفاصله… وتحيي بخجل جهد وإبداع الزميل محمد القعود.

اترك رد

%d