البحث عن اطلال رامبو في عدن

عدن-علي حبش/ 2006
– خاص بعناوين ثقافية:

في الطائرة التي كانت تقلنا من دمشق الى صنعاء لحضور فعاليات ملتقى صنعاء الثاني للشعراء الشباب العرب تعرفت على شابة اثيوبية مجنونة بجمالها اسمها عدن وهي من اديس ابابا عاصمة اثيوبيا وطيلة ايام المهرجان في صنعاء كان اسم عدن يرن في قلبي .
انتهت يوم الاربعاء الموافق 26-ابريل 2006 فعاليات ملتقى صنعاء الثاني للشعراء الشباب العرب وصباح يوم الخميس بدات وفود المهرجان مغادرة صنعاء ,كنا في صباح الخميس في صالة مطار صنعاء الوفد العراقي والاردني والمغربي والسوري كنا انا وداليا رياض وكولالة نوري ولقمان ديركي وايمان ابراهيم نقف في الطابور المؤدي الى الطائرة المتجهة الى الشام غير ان ضابط الجوازات في المطار قال لنا ان العراقيين يجب ان يمنحوا تاشيرة دخول الى سوريا عن طريق السفارة السورية في صنعاء وذلك ضمن قرار صدر مؤخرا , غادر لقمان ديركي وايمان ابراهيم متن الطائرة وعدنا انا وداليا رياض وكولالة نوري ادراجنا الى فندق حدة بصنعاء , تكفل موظف وزارة الثقافة اليمنية (عايد ) بمراجعة السفارة السورية بصنعاء بخصوص منحنا فيزا دخول الى دمشق حيث استغرقت المعاملات الروتينية يوما كاملا وما كان علينا الا ننتظر موعد اقلاع الطائرة اليمنية الى دمشق يوم الخميس القادم , ترى ما الذي سافعلة طيلة اسبوع كامل في فندق حدة بصنعاء خصوصا بعد ان غادر ت جميع الوفود المشاركة في المهرجان , في صنعاء انتابني شعور حزين حيث بدات افكر بالعودة الى ينابيع الشعر الاولى وخيمت على ذاكرتي مدينة عدن التي عاش فيها الشاعر ارثور رامبو حياته الاخيرة بعد ان هجر اوربا وفرنسا موطنه الام كان حلمي ان ارى هذي المدينة التي سحرت رامبو بجمالها وناسها وقد كنت ادرك ان الذي يرى عدن يستطيع ان يكتشف اسرار رامبو بالكامل هذا السر الخفي الذي غلف حياة رامبو على السواحل الافريقية , في فندق حدة كان الشاعر الفلسطيني الشاب يوسف القدرة ايضا لديه اشكالات في تاشيرة المرور الى مدينته غزا ومكث معنا في الفندق في انتظار حل اشكالات سفره ,سالت الشاعر اليمني فتحي ابو النصر عن كيفية الوصول الى عدن فقال لي بسهولة جدا والطريق قد يستغرق اكثر من ثمان ساعات في الحافلة فاتفقنا انا وفتحي ابو النصر والشاعر الفلسطيني يوسف القدرة الرحيل الى عدن .

(لا بد من عدن)

عدن هذي المدينة التي وصل اليها رامبو لاول مرة في 7 اب 1880 وغادرها محمولا على نقالة الى فرنسا عام 1891 هل من المعقول ستطأ قدمي فيها عام 2006 كيف سأستطيع مواجهتها والعودة الى جنون الشعر هذي المحرقة التي اكلت من حياتي الكثير, في الساعة السابعة من صباح يوم الثلاثاء كنا في باب اليمن داخل الحافلة المتجهة الى عدن انا والشاعر اليمني فتحي ابو النصر والشاعر الفلسطيني الشاب يوسف القدرة , الطريق بين صنعاء وعدن طريق جبلي وعر ضرب من الخيال جبال شاهقة ومدن غير مرئية وسهول وقرى متناثرة والتجاوز على الغيوم بالحافلة ,وصلنا عدن الساعة الثالثة بعد الظهر ومرت الثمان ساعات على ذاكرتي كأنها ثمان دقائق معلقا في جبال الحلم الجو في عدن رطب بعض الشيء بسبب البحر وفي طريقنا الى اتحاد الادباء والكتاب اليمنيين في منطقة خور مكسر مررنا على جسر بحري طويل يربط مدينتي المنصورة والشيخ بمدينة خور مكسر حيث المسير فوق البحر لاكثر من 20 دقيقة استقبلنا في مبنى الاتحاد الكاتب اليمني الجميل عبد الرحمن عبد الخالق بالقبلات والتحايا ثم اتصلت بالشاعر شوقي شفيق وابلغته بوجودي في اتحاد الكتاب ,جاء الينا شوقي شفيق مع الشاعر عمرو الارياني واقتادنا في شوارع عدن ثم ذهبنا الى منطقة نشوان الساحلية في خليج عدن كان الوقت غروبا ثم خيم الليل على خليج الفيل لا احد يستطيع تخيل جمال المشهد الا الذي يعيش هنا على هذا الساحل العجيب ربما كان رامبو محقا عندما اختار عدن ملاذا له .

(فوهة البركان حيث منزل رامبو)

كتب رامبو مرة ساذهب بعيدا بعيدا جدا مثل بوهيمي عبر الطبيعة سعيدا كما لو اني مع امراة هل خطط رامبو لرحلته الخرافية هذه منذ الصغر ربما ولكن عام 1890 مدير احد الشركات يكتب اليه ويدعوه. . . ايها الشاعر العزيز , ولكن رامبو لم ياخذ الموضوع بجدية على الاطلاق ولم تبهره كلمة الشاعر ترى اين ذهبت احاسيسك انت الذي برقة الاحساس ضيعت عمرك .
في صباح يوم الاربعاء قال لي صديقي الشاعر عمرو الارياني ان منزل رامبو يقع في منطقة كريتر ومعناها فوهة البركان وهي اكبر فوهة بركان في العالم بالتاكيد لم تكن مصادفة ان يختار رامبو فوهة البركان ملاذا له,
وصلنا الى منطقة كريتر وهي منطقة عدن القديمة وبينما كنت اتخطى بشوارعها اشار الصديق الشاعر عمرو الارياني بيده وقال انظر ياعلي انه منزل رامبو فاذا بيافطة كتب عليها بالون الاسود( مطعم وكافيتريا رامبو ) ياللهي لماذا كتبت بالون الاسود , ثم واصل حديثة قائلا وتلك منارة عدن لم تبعد منارة عدن عن منزل رامبو سوى بضع امتار عبرت الشارع متجها امام مبنى المنزل دون وعي ووقفت انظر الى جدران المكان واتلمس مسامات رامبو هنا كان رامبو يتنفس هواء عدن وشعرت ان انفاسه مازالت تنبض بالخوف من هذا العالم , الذي شغل قلبي اللون الاسود الذي كتبت فيه اليافطة هل كان مصادفة ان يكتب بالون الاسود اسم رامبو ام ان عدن تدرك احزان هذا الشاعر المتشرد بالحب والمجازفة , كانت منارة عدن عام 1880 متاخمة لساحل البحر وبمرور السنين ابتعد ت سواحل البحر عن المنارة وهي الان تبعد 200 مترا عن البحر .
عام 1889 انزعج رامبو من الكلاب الكثيرة التي كانت تدخل مخازنه في عدن وقرر تسميمها وجلب لنفسه المتاعب وقد طلب رامبو عبدين لخدمته الشخصية وبعض المؤرخين الغافلين اعتقد خطا انه يتاجر بالرقيق , اه يازمن القتلة , لقد صنع رامبو من حياته قنبلة بحجم الارض ترقد قرب ديوانه الشعري وما ان تتصفح ديوانه حتى تخترق الشظايا حياتك من جميع الجهات كان هنري ميلر على حق عندما كان يخشى التقرب من ديوانه لاكثر من خمس سنوات , رامبو وهو يدفن الاموات في بطنه قال مرة ( ستكون الايام امامي خفية) اذن ما علاقة تجارة السلاح بالشعر وحين تساله اخته في احد رسائلها عن الشعر يقول لها انها ايام خلت , الكارثة التي مازالت تحير الجميع انه لم يكتب بيتا واحدا من الشعر بعد ان هجر اوربا الى الابد واستقر في السواحل الافريقية ,
وانا اقف امام منزله في عدن كانت قدمه التي بترت ترتجف قرب قلبي ومركبه السكران يغفو على جدران منزلي في بغداد .
اكثر من 60 شاعرا وكاتبا واعل اميا عربيا شارك هذه السنة في ملتقى صنعاء الثاني للشعر العربي ولم ينتهز احد الفرصة في السؤال عن اطلال رامبو في عدن ولم اسمع قط ان احدا خطر بباله زيارة هذي المدينة العجيبة , كنت اعتقد بان لا اطلال لرامبو في عدن غير هذه اليافطة التي كتب اسمه عليها باللون الاسود على واجهة هذا المنزل المتعطش الى روح الشعر ,سالت صديقي الشاعر عمرو الارياني عن امكانية الدخول الى الكافيتريا فقال لي بالتاكيد ياعلي ربما سنجد اشياء جميلة وذكرى تخص الشعر والشعراء امام منزل رامبو حاولت تعطيل حواسي كي احافظ على فصلي في الجحيم وتذكرت ابنتي طيبة التي تركتها تحصي الطلقات على سطح منزلنا في بغداد , المسافات تدوس قلبي من جديد ولكن بوسائل جديدة الطائرة التي كانت حلمي الاخير وحدها اصبحت وسيلة للقمع انها ستعيدني الى مدينتي بغداد المفخخة بالقنابل والامنيات اما الحبيبة الاخيرة فقد قصدت مدينة تعز وانا اجرجر ساعتي اليدوية بانتظارها في عدن .
دخلنا منزل رامبو فاستقبلني صاحب الكافيتيريا بابتسامة , فابصرت صورة رامبو الصغيرة على يساره ومباشرة دون ان اتكلم كلمة واحدة امسك صاحب الكافيتريا الصورة ووضعها قربي وكانها دمية كان في الصالة اكثر من شخص وتحدثوا معي غير ان قلبي كان بعيدا بعيدا عما يدور من احاديث فعدما تتحول عذابات الشاعر وذكراه الى صورة فوتوغرافية فعلى اللغة ان تنتحر وتاكل نفسها, ثم تذكرت ان رامبو عندما كان في عدن 1881 امر باستيراد الة تصوير .

(رامبو بالزي اليمني)

في الطابق الاول من منزل رامبو اصطدمت بصورة كبيرة للشاعر وهي الفريدة ايضا حيث رامبو بالزي اليمني وبجانبها صورة كبيرة اخرى لرامبو قالت لي العاملة اليمنية في الكافيتريا انه مسيو رامبو وكنت انتظر منها ان تسالني بعض الاسئلة غير انها اكتفت بتلك الجملة انه مسيو رامبو و الدهشة التي اصابتني ان تحت صورة رامبو توجد ساعة جدارية كبيرة , الشاعر اذن هو خارج الزمن دائما , ان وجود الساعة الجدارية اسفل صورة الشاعر هذا يعني ان الشاعر اختزل عذاباته فلا زمان للشاعر في هذا العالم , لقد جمع رامبو حياته وعذاباته وشعره فوق الساعة الجدارية وتلك هي مصيبة الشاعر ونبضه الذي لايموت , تركت منزل رامبو واتجهة الى ميناء عدن القديم والموت يتخطى باصرار قرب قلبي , في ميناء عدن القديم حيث قلعة صيرة العجيبة وبعض صيادي الاسماك على الساحل والبحر الذي ينتهي بالمحيط الهندي , ويعود تاريخ هذه القلعة الى ما قبل دخول الاسلام الى اليمن حيث لعبت القلعة دورا تاريخيا في حماية عدن من هجمات الغزاة وتشرف صيرة على الميناء القديم الذي نقله البريطانيون لاحقا الى المعلا وينتشر على ساحل صيرة اليوم عدد من المتنزهات والمطاعم التي تقدم للزائر السمك الطازج المشوي والمأكولات البحرية الاخرى. بالنسبة لي وبعد خروجي من منزل الشاعر فان كل شيء قد انتهى حيث نصف قلبي تركته يرتجف قرب الساعة الجدارية وكنت ابحث في ذاكرتي عن مكان امن اضع فيه هذي المدينة الطيبة العجيبة , ذاكرتي التي امتلات بشظايا قوات الاحتلال .

اترك رد

اكتشاف المزيد من عناوين ثقافية

اشترك الآن للاستمرار في القراءة والحصول على حق الوصول إلى الأرشيف الكامل.

Continue reading