“أعالي” جميل حاجب .. كيانات تشبه صاحبها

علوان مهدي الجيلاني

مهما حاولنا المراهنة على التوصيف النسبي للشعر .. فإننا في النهاية-وكما يحدث دائماً-لا نستطيع ولن نستطيع مجاراة نهره الذي يفلت من بين أيدينا كل مرة، فيما نحن نمسك بماء جديد نحسبه نفس الماء الأول؛ لأن كلمة (نهر) تخدعنا..
إنني لا أعني هنا توصيف الشعر من خلال شكله.. وإن كانت هذه مشكلة حقيقية يقيم لها بعض ناقصي الوعي الدنيا ولا يقعدونها، ولكنني أعني الشعر في تجلياته الخالصة.
بين الشعر وبين الأشكال الشعرية فروق كبيرة بل وجوهرية، الشعر حدث وجداني ووجودي، والشكل وصف لغوي مكتوب لذلك الحدث، يرسم منه ولا يرسمه كله، ولذلك يظهر الشاعر محتاجاً إلى اللغة وإلى اللا لغة كي يضمن توثيق جزء مما يعبر عن وجدانه وجسده من ضربات شعرية.
اللغة بما هي عليه من تراكمات فنية فإنه متعارف عليها، واللا لغة بما هي خروج عن المألوف وتدمير للأنماط التي أضحت جثثاً بلا روح..
وعندما نوصف الشعر على أساس الشكل، فمعنى ذلك أن نطالب الشاعر بالمجيء إلينا من خلال ما نريده له نحن، تسمية أو شكلاً، ويكون السؤال الحقيق بالاهتمام: لماذا لا نأتي إليه نحن في الهيئة التي يكون عليها؟
بهذا السؤال أتيت إلى (أعالي) المجموعة الشعرية الأولى للشاعر جميل حاجب..
-1-
إن كتابة مثل كتابة جميل تحتاج الكتابة عنها إلى مفاهيم إجرائية تخرج من النصوص الشعرية ذاتها، لا أن نزيفها بقراءتها عبر مفاهيم مكتسبة سلفاً من نصوص مغايرة لها قدماً أو شكلاً وقوالب تتسع أو تضيق عنها وتبدو في كل أحوالها غير مسعفة في مقاربتها .. فنحن أولاً: إزاء شاعر لا يعرف من اللغة إلا علاقتها بوجوده جسداً وروحاً، وحياته في مفارقاتها ومتعدياتها، وهو إذ يتخذ وضعه فيها من خلال هذا التمرد الذي يأنف الوقار والتهذيب بما هما سمة تلازم كل قديم وشائخ ومؤصل مُنْتِجاً ومُنْتَجاً حسب المفاهيم السائدة، فإنه بكل حدته واحتياجاته الصارخة استطاع أن يثبت أصالته الفنية بوضوح صافٍ من خلال الشعر الحار الذي يتجاوز حالة اغتراب الشاعر داخل الأشكال الموروثة وداخل اللغة بنحوها وصرفها وتقسيماتها وتحديداتها وجملة أنساقها المرضي عنها تراثياً والتي ظلت أحد مظاهر اغترابه وأحد أسباب تمرده وانتقاله إلى حالة الحرية محاولاً فقط القبض على لحظات الحياة الحقيقية في تجلياتها وخفاءاتها المختلفة، والإنصات بعمق للحياة الداخلية والتمعن في نقاطها المستعصية على الحصر..
عند جميل تصبح القصيدة هي الإمكان الحقيقي للوجود، وهي أصل الكينونة، وليس مجرد تابع للوقائع، وإن كان ليس ثمة مناص من حتمية انفعاله بها:
طرقات لا تعرف
عن الشعراء
سوى روائح قلقة
تتسقط البهجة
قطعة نقود معدنية
ربما التقطها طفل عابر
ثم لا يصل الغد
……. (شارات تومض بنا ص9)
لا بد هنا أن ننصت لما يفعله النص وليس لما يقوله، سننسى أهمية العلامات اللغوية ومدى اتصال الكلمات في العبارات التي تحتويها، ما يفعله النص لا ما يتلفظ به هو ما يهمنا .. والنص هنا يعطيك شعراً لا تحتاج إلى تعريفه بقدر ما يهمك الإحساس به، وهذا يتحقق قطعاً لأنه يفجر إحساسك تجاه العالم .. الذي يبدو غريباً وغير عابئٍ بأحد، عالم نعيش على أطرافه غرباء منبوذين .. علاقتنا به تشبه إلى حد كبير علاقة المجتمعات في بعض دول العالم بالغجر، أو علاقة المجتمع اليمني بالأخدام المظلومين، كل ما يعرفه عنا هو تلك الصفة النشاز، أو العلامة الفارقة/القلق/الروائح القلقة .. وهو عالم ينفصل عنا وننفصل عنه بطبيعتنا .. وآمالنا .. نرفضه ويرفضنا حاضراً، و ليس ثمة ما يغرينا بالمراهنة على .. الغد لأن غدنا لا يأتي..
هكذا أحاول الإصغاء إلى النص مع التأكيد أن جميل لم يشأ أن يقول شيئاً مما قلت، ليس ذلك بالتأكيد في وعيه .. إذ هو مسكون بوعي آخر يقول: إن الشعر لم يعد مكلفاً بإنتاج المعرفة وإيصالها، ولكنه بصورة ما دال إليها أو آلية من آلياتها..
بتعبير آخر يبدو الشاعر في أعاليه مدركاً لما يجري داخله وفي جواره وبعيداً عنه إدراكاً شعورياً أكثر منه معرفياً، فلديه إحساس قوي بخصوصية أوضاعنا الإنسانية التي تؤشر على ضآلة السعادة والصفات المؤقتة للوجود وجودنا نحن بوصفه واجب التحقق أخضر لا هشيماً يتناثر ويتآكل في الحريق اللا نهائي .. للزمان والمكان.
الأسلاك الشائكة
تحيط بك من كل اتجاه
والحيلة الوحيدة لديك
أن تحلق عالياً
بجناحي حكمة
يعرضها الأمس
على رصيف قائظ
تدير ظهرك
للصفقات التي لم يعقدها الشاعر
للصدمات
حين تمر
بلا إشارة
من أحد
هواجسك تترجل
من مكمنها
اللحظة كرة تتدحرج
المقهى جار الغروب
والدخان الصاعد
من فم الكأس
جياد تعدو
…… (هاجس ص13،14،15،)
وجميل لا ينتج في هذه النصوص رؤيته فحسب، بل إنه ينتج أيضاً سيرته، التي تأتي بشكل مغاير أحياناً، بيد أنه يركز على مواضع حكته المزمنة يسطرها بحواس متوترة تذهب بها إلى عمق المشهد إلى النقطة الرمادية الواسعة المليئة بالخدوش والأوجاع والقلوب المثقوبة:
المدينة بطبائعها الهلامية
ونحن بأيامنا المنتفخة
مسلكان لا يأتي منهما
سوى الهرم
الصعود
والهبوط
يمتلكان نفس القيمة
في عالم
لا نرى أعاليه بوضوح
إلا عندما نسقط
…….(أعالي ص7)
والنص الذي يكتبه هذا الشاعر ماشياً أو في مقيل مكتظ أو في مقهى على رصيف في الدائري، نص يجسد التمزق في كل الأحوال، وهو في قصره يمثل اقتصاداً لغوياً يختزل كل المشاهدات والمعايشات كما يختزل التماع البرق أضواء النجوم .. يشتعل العالم المنعكس في ذات الشاعر، وتشتعل ذات الشاعر المنصعقة المأخوذة بقدرتها على إضاءة تحبس الكون في ألفاظها..
شارع يجرد لسانه
خلف
قطط تتقافز
في يافطات العتمة
ومقهى يتسول الوجوه
تعبر اللحظات الشاردة
أية ر يح تضحك
لفاقة العالم..
…….(فاقة ص34)
إن كتابة جميل على هذا النحو تبدو تآمراً على ظواهر الخبو والتحلل والتلاشي التي نمضي وتمضي إليها الأشياء والمشاعر في عالم هش ذي طبيعة جارحة ومخيفة، إن عالمنا ملوث بكامله والشاعر لم يعد مهموماً بغير معابده الخربة التي تتداعى في داخله..
لم يعد الشاعر مشغولاً بقضايا كبيرة في ظل انسحاق وجوده خاصة وقد أصبحت أكثر القضايا الكبرى فارغة من معناها بعد أن تحولت إلى منابر للمزايدة ووسيلة يهدر باسمها الوجود الإنساني ولا شك أننا خلال العقود الماضية قد راكمنا تجارب كثيرة-مرة-أسفرت عن هذا الوعي الذي عبر عنه الشاعر من خلال نصوصه .. التي تفضح مقدار الخسران الذي انحدرنا إليه..
آه
يا بلد
لأنك صخرة
غدونا كلنا سيزيف..
…….(ثقل ص39)
بهذه الكيفية يتعامل الشاعر مع مفردات هذ العالم بأشكالها المختلفة التي تبدو مفروضة عليه غريبة عنه أو غير متاحة له، إنه وجود مغاير وسط هذه الفوضى والتكريس لما ليس مجدياً من مفردات تحول الوجود إلى خراب وزيف وظلام..
يا الله
كم نتشابه بالحفر
الأصدقاء بقعة سوداء
وأنا لست المعني
بهذه النار..
….(شارات تومض بنا ص11)
كم هي كثيرة المشاهد المشابهة لهذا المشهد الذي يصنع موقف الشاعر على هذا النحو لتصبح مغامرته الوحيدة المجدية هي التوجه إلى ذاته وحل مشكلات الواقع الهوشلي بإعلان التبرء من تلك الشعلة التي أومضت لنا بلا شيء ووعدتنا بغد لم يصل، وظل حماسنا الجم يتقد حتى تحولنا إلى حفر سوداء..
-2-
تنكتب نصوص (أعالي) غالباً في تجسيدات جزئية مبعثرة أو متجاورة تشكل ما يمكن أن يسمى (كيانات لفظية أو سطرية) تتكئ على بعضها البعض .. على أوجه لا يستطيع القارئ الفاحص تسميتها (أبنية شمولية) ولكن براعة جميل أو بالأحرى شاعريته الحادة .. تقلل من حاجة الشكل عنده إلى النشاط التنظيمي أو الاندغام الكامل لمكونات النص .. فأنت لست أمام شمس تضيء الكون كله، ولكنك أمام موجات من الضوء تتدافع متابينة، وبتآزر حثيث مع اللالغة التي تسعف الشاعر كثيراً نجد أنفسنا أمام لغة حال أو مناخ لا تمتثل للموضعة ولا للمرجعيات، ولذلك فإن لذة المشاهد التي لا تشير إلا إلى نفسها .. تصير عند القارئ كما عند الشاعر هاجساً بل غواية حقيقية:
مساء
حين تركد السماء
في قاع
كؤوس
مهملة
تنشرخ الأسطوانة
هشاشة ما
ويسيل صدى
……..(صدى ص35)
لقد استطاع (جميل) الانسجام مع اختياراته التي تتوجه إلى كتابة قصيدة نثر بعيدة عن الاستجابة والطاعة و(الإمعية) للتوصيفات المفروضة أو المفترضة التي حدت بعدد من كاتبيها إلى كتابة تمتثل إلى درجة الافتعال والمحاكاة لنماذج منجزة مما تسبب في يباس وبؤس نصوصهم التي يغيب عنها تضوع الشعر وماؤه الذي يحيل الحرف إلى حياة نابضة تمس القلوب وتبعث على الدهشة..
وفي قصائد (المجموعة) كثير من الصور المشهدية التي تتخلى عن اللغة المجازية الموروثة بمواصفاتها إلا أنها تعتمد على فنيات كثيرة منزاحة ومتعدية عن مألوفها.. وكما تحضر الاستعارة التخيلية مثلاً في قوله:
المدينة بطبائعها الهلامية
ونحن بأيامنا المنتفخة
تحضر فنيات أخرى من نوع المقابلة (المدينة،نحن=مسلكان) ولكن المقابلة غير حقيقية فهما شيء واحد (لا يأتي منهما سوى الهرم) وكذلك (السقوط/الهبوط) يمتلكان نفس القيمة.
غير أن أجمل ما في اشتغال جميل هو الفعالية الإبداعية التي تحدث لذة التلقي.. نص (أعالي) مثلاً .. مكون من عشرة أسطر أقصرها كلمة وأطولها أربع كلمات، أي أنه نص رأسي قليل الألفاظ، ولكن الشاعر من خلال هذه الفعالية الإبداعية يقول الكثير، وهو يفعل ذلك في أغلب نصوص المجموعة، ولعل اعتماده على تلك الفعالية التي يتوسل لها بأدوات كثيرة هو ما يساعده على إنهاء نصه أحياناً بما يشبه الحكمة وأحياناً بالمفارقة أو المفاجأة، ولكنه في معظم الأحيان يدهشنا ويعجبنا..
وأغلب الأدوات التي يصل من خلالها جميل إلى أهدافه تتمثل في الاستثناء المنفي أو الاستثناء المثبت أو أداة النفي التي تكسر التوقع وتطلعنا على الجانب الآخر من المشهد، أو الوجه الحقيقي للصورة..
1-
أي شيء يقف
خلف تلك الفراغات الكامنة
في ذاتنا؟
الفراغات التي طالما وددنا
أن نضع أيدينا عليها
لا لكي نملأها بالخواتم المشعة
والموسيقى المسكنة للأعصاب
اللعبة تنتهي
عند هذا الحد
……..(لعبة الفراغات ص6)
2-
عيناك
أوسع
من متاهة
غير أن الألفة
عكاز الغريب
…..(عكاز ص26)
3-
هذا الشباك
لا يريني
سوى سندس
اللحظات الثملة
بعبق التبغ
ومكائد الساسة
(شباك ص24)
كما تتمثل في استعمال أدوات التعليل:
تصعد في ضباب من العمر
أو تبسط فيه الخيال
ليلمع نصل الجوانح
……(تصعد ليدنو إليك الفضاء ص50)
والاستفهام الاستدراكي:
هل كان أغمد قلبه .. البحر؟
أم توسل دمه
لنهار
في حصار؟
…..(سؤال ص38)
أو: هل أخطأنا
أم الحظ
وعاء مثقوب..
…..(فضاء ص18)
وغيرها من الأدوات مثل (مع ذلك، بيد أن، لكأنها إلا أن، لا لـ، طالما، ربما، لأنك، أم …الخ).
ويأتي التكرار المشخص ساخراً أو حزيناً ليلفت الأذهان إلى مفارقات وجروح لا حصر لها..
يهز حزني رأسه للجدران
الجدران التي ليست أحدا
….(فضاء ص17)
إن تجربة مثل تجربة جميل في كونها شخصية جداً .. وغير عابئة إلى حد كبير بالتوصيفات .. تحتاج إلى أكثر من قراءة من أجل الوقوف على تجلياتها .. والتحاور مع بؤر الشعر فيها وكشف أسرار لذتها..
ولا أعتقد أن الأمراض المستشرية في المشهد الثقافي وهي أمراض كلها تعين إصابة مواطني هذا المشهد بعمى الألوان.. ستمكن من إعطاء هذه المجموعة أو غيرها حقها من القراءة فزملاؤنا لا يقرءون ،إلا وفق موجهات قبلية شكلية تتعلق بالنصوص أو شللية تتعلق بالعلاقات والصداقات والصراعات وغير ذلك، والشاعر جميل حاجب مثل نصوصه .. لا شلة له ولا مرجعية ولا تحيزات لغير ما يرى ويشعر…

اترك رد

%d مدونون معجبون بهذه: